أقرّ مجلس النواب المصري، الأسبوع الماضي، خلال دور انعقاده الأخير قبل انتخاب خلفه، مشروع قانون لتنظيم فصل العاملين في الدولة بغير الطريق التأديبي، أي الفصل المباشر بقرار إداري، دون العرض على جهات التحقيق المختصة بالتعامل مع موظفي الخدمة المدنية وغيرهم من العاملين، ودون أن يكون القرار صادراً من النيابة الإدارية، وحتى دون عرض الأمر على المحاكم التأديبية. وسُوّق مشروع القانون في البرلمان ووسائل الإعلام على أنه تنظيم جديد يهدف في الأساس للتخلص من العاملين المنتمين لجماعات إرهابية، وعلى رأسها بالطبع جماعة الإخوان المسلمين. لكن الواقع الذي تحمله وثائق تمرير هذا المشروع، يشي بتغييرات أوسع على التنظيم الحكومي في مصر. ويعكس هذا الواقع سعياً حثيثاً لإزالة ما يتبقى من عقبات تحول دون البطش الكامل بـ"الإخوان" ومعارضي النظام، وبصورة تترك آثاراً سلبية عميقة على النظام العام، كما جرت العادة في عهد عبد الفتاح السيسي.
يشرع النظام المصري بتطبيق القانون على جميع العاملين بمختلف أجهزة الدولة دون استثناء تقريباً
فالمشروع في حقيقته تعديل على قانون غير معروف كثيراً للموظفين والمشرعين على حدّ سواء. هذا القانون هو القانون رقم 10 لسنة 1972، الذي أصدره الرئيس الراحل محمد أنور السادات بهدف أساسي وقتها، وهو تنظيم الطعن بقرارات الفصل بغير الطريق التأديبي أمام محاكم القضاء الإداري، في إطار سعيه آنذاك لإعادة تفعيل مؤسسات الدولة التي كان سلفه جمال عبد الناصر قد تجاهلها وعمل على إضعافها. ومن هذه المؤسسات مجلس الدولة الذي يضم القضاء الإداري، حيث كان عبد الناصر قد أصدر في العام 1963 قانوناً يسمح له بإصدار قرارات جمهورية بإحالة الموظفين للمعاش أو الاستيداع أو فصلهم بغير الطريق التأديبي، مع اعتبار هذه القرارات جميعاً من أعمال السيادة غير القابلة للطعن أمام القضاء.
التعديلات الجديدة التي يدخلها نظام السيسي، ممثلاً في الأكثرية التابعة للاستخبارات، على قانون السادات، جاءت متنوعة وعلى قدر من الخطورة. فعلى مستوى نطاق التطبيق، كان القانون يطبق على مدى 50 عاماً تقريباً على العاملين في الجهاز الإداري للدولة والهيئات والمؤسسات العامة ووحداتها الاقتصادية فقط، ليأتي نظام السيسي الآن ويشرع في تطبيقه على جميع العاملين بمختلف أجهزة الدولة دون استثناء تقريباً. ويبسط السيسي بذلك سلطته على "وحدات الجهاز الإداري للدولة ووحدات الإدارة المحلية وأي من الجهات المخاطبة بأحكام قانون الخدمة المدنية، والذين تنظم شؤون توظيفهم قوانين أو لوائح خاصة، وذلك من غير الفئات المقرر لها ضمانات دستورية في مواجهة العزل". كما يبسط سلطته على "الموظفين والعاملين بالهيئات العامة الخدمية والاقتصادية أو المؤسسات العامة أو أي من أشخاص القانون العام أو شركات القطاع العام أو شركات قطاع الأعمال العام". ويعني هذا بدء تطبيق القانون على ضباط الجيش والشرطة وموظفي شركات القطاع العام والشركات القابضة والتابعة والمصارف المملوكة للدولة وغيرها من المؤسسات، باستثناء القضاة فقط الذين يحظر الدستور، حتى الآن، عزلهم بشكل مباشر دون العرض على التفتيش ومحاكمتهم تأديبياً. علماً أن الدرجة الدنيا حديثة العهد بالتعيين في القضاء يمكن تطبيق هذا القانون عليها، إذ لا تحظى بالحماية نفسها المقررة للقضاة.
وفي المادة الأولى من المشروع أيضاً، يبرز توجه نظام السيسي إلى التعميم وتبسيط الاتهام وتسهيل اعتبار الموظف مخالفاً للبطش به وفصله مباشرة. وفي هذا الإطار، اعتبر المشروع أن الإخلال بمصالح "أي من الجهات المنصوص عليها"، وهي الجهات السابق ذكرها لتطبيق القانون عليها، سبب كاف للفصل. وحافظ المشروع على الأسباب السابق وضعها في قانون السادات، مثل الإخلال بواجبات الوظيفة بما من شأنه الإضرار الجسيم بالإنتاج أو بمصلحة اقتصادية للدولة، وإذا قامت بشأن العامل دلائل جدية على ما يمس أمن الدولة وسلامتها، وإذا فقد أسباب الصلاحية للوظيفة التي يشغلها لغير الأسباب الصحية، وإذا كان فاقداً للثقة والاعتبار.
ويبرز تعديل آخر، هو اشتراط أن يكون العامل محتفظاً بعناصر الثقة والاعتبار (وهي لا تحدد إلا بأحكام قضائية)، أياً كانت درجته الوظيفية ومستواه العملي، على عكس ما كان عليه الأمر من قبل، وهو اشتراط الثقة والاعتبار فقط في شاغلي الوظائف العليا. ويسمح ذلك بالتخلص من المزيد من الموظفين الصغار الذين يمثلون عبئاً على نظام السيسي ويرغب في التخلص منهم لتوفير المال، خصوصاً في ظلّ تعثر خطته لخفض عدد العاملين في الجهاز الإداري للدولة.
فوفقاً لاستراتيجية التنمية المستدامة (2030)، التي أعلنها السيسي عام 2018، تعوّل الحكومة على اتّباع آلية التقاعد المبكر المذكورة في قانون الخدمة المدنية، مع حظر التعيينات الجديدة نهائياً، إلا في صورة تعاقدات مؤقتة، أو عقود استشارية مؤقتة، أو في الجهات ذات الطابع الاستثنائي التابعة لرئاسة الجمهورية. وتحاول الحكومة التخلص من 50 في المائة على الأقل من الرقم المراد تخفيضه، وهو مليونا موظف، حتى يصل الجهاز الحكومي لحوالي 3 ملايين و900 ألف موظف فقط بعد عامين. علماً أن العدد الحالي للموظفين هو 5 ملايين و800 ألف موظف تقريباً، منهم 5 ملايين في الجهاز الإداري الأساسي، و800 ألف يتبعون لقطاع الأعمال العام.
يسمح القانون بالتخلص من المزيد من الموظفين الصغار الذين يرغب السيسي بالتخلص منهم لتوفير المال
أما السبب الأخير لفصل العامل بغير الطريق التأديبي، فهو المرتبط بخطة الدولة لمحاربة الامتدادات الاجتماعية لجماعة "الإخوان"، ويتيح الفصل إذا أدرج العامل على قوائم الارهابيين، على أن يعاد إلى عمله في حال إلغاء قرار الإدراج. ويأتي ذلك علماً أنه لم يسبق لأي شخص أن خرج من تلك القوائم التي تحولت إلى أداة عقاب وتنكيل بدلاً من كونها في الأساس، نظريا، إجراء احترازياً لحين انتهاء التحقيقات في القضايا.
ويتكامل هذا النص الجديد مع الخطة الحكومية التي كشفت عنها "العربي الجديد"، في مارس/ آذار وسبتمبر/ أيلول 2018، عن بدء الحكومة المصرية خطوة جديدة للتنكيل بجماعة "الإخوان المسلمين" وامتداداتها في المجتمع المصري. ويتمثل ذلك بإصدار قرارات بفصل عشرات الموظفين من الوزارات الخدمية وكذا بالجهات الحساسة في الدولة، ونقل عشرات آخرين إلى وزارات وهيئات خدمية. وكل ذلك بحجة انتمائهم أو انتماء أقاربهم من الدرجتين الثالثة والرابعة إلى "الإخوان"، واستحالة إسناد مهام عالية المستوى إليهم بسبب "حظرهم أمنياً". هذا الأمر عادت وزارة التربية والتعليم وأكدته في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 بالإعلان عن فصل 1070 معلماً، بدعوى أن لهم انتماءات سياسية لـ"جماعات محظورة"، أو سبق أن صدرت ضدهم أحكام جنائية، ولا يصلحون للعمل بالتدريس.
وبالعودة لمشروع القانون، فهو يتضمن تعديلاً آخر لتسهيل عملية الفصل، يتمثل في السماح لرئيس الوزراء باتخاذ هذه القرارات بموجب تفويض يصدره رئيس الجمهورية، بعدما كانت تلك القرارات حكراً على الرئاسة، لما لها من خطورة استثنائية، فهي تحل بدلاً من نظام كامل للمساءلة والمحاكمة.
أما التعديل الأخير، فهو يغير طريقة التقاضي في هذا النوع من المنازعات. ففي السابق، كان القضاء الإداري ملزماً بالفصل في الطعون التي يقدمها الموظفون أو العاملون ضد قرارات فصلهم بغير الطريق التأديبي خلال سنة واحدة من رفع الدعاوى، لكن المشروع الجديد يفتح المدة دون قيود، ليسمح بتأخير الفصل في الطعون لأجل غير مسمى.
ركزت المذكرة الإيضاحية للمشروع على وجوب مواجهة الدولة الإرهاب بكافة صوره
وفي موضع آخر، كان قانون السادات يسمح للقضاء الإداري استثنائياً بالاكتفاء بالتعويض المالي للموظف المفصول بدلاً من إعادته للعمل. ويحصل ذلك في أوضاع معينة، هي أن يكون القرار قد مسّ أحد شاغلي الوظائف العليا، أو أن يكون قد صدر في ظلّ حالة الطوارئ، باعتبار أن تنفيذ حكم عودة الموظف لعمله في الحالتين سيكون صعباً، بما قد لا يسمح بتنفيذه أبداً. لكن مشروع النظام الحالي يتجه إلى التوسع في هذا الاستثناء، لدفع المحكمة لعدم إعادة الموظفين المفصولين والاكتفاء بتعويضهم مالياً، حيث أزال حالتي الاستثناء المذكورتين، وأصبح من الجائز الاكتفاء بالتعويض بصفة عامة "وذلك للأسباب التي ترى المحكمة أن المصلحة العامة تقتضيها". وتدل هذه العبارة على استخدام الحكومة، التي ستكون مختصمة في الدعوى وممثلة بواسطة هيئة قضايا الدولة، اعتبارات المصلحة العامة الفضفاضة المطاطة التي لا يمكن تحديدها لإقناع المحكمة بالاكتفاء بالتعويض.
يذكر أن المذكرة الإيضاحية للمشروع زعمت أنه يأتي استجابة للالتزام الدستوري المنصوص عليه في المادة 237 من الدستور، التي أوجبت على الدولة مواجهة الإرهاب بكافة صوره وأشكاله وتعقب مصادر تمويله وفق برنامج زمني محدد باعتباره تهديداً للوطن وللمواطنين مع ضمان الحقوق والحريات. وفرض القانون تنظيم أحكام إجراءات مكافحة الإرهاب والتعويض العادل عن الأضرار الناجمة عنه وبسببه.
وركزت المذكرة فقط على أن الدولة تخوض حرباً شرسة ضد الإرهاب والعنف والتطرّف، وبالنظر إلى أن الاٍرهاب يبدأ بفكر شاذ مسموم ينشره أتباعه ومعتنقوه من الضالين والمضلين ويخدعون به غيرهم فتتشكل بذلك حاضنة فكرية فاسدة للإرهاب والعنف. ولما كان العمل بالجهات التابعة للدولة لا يصح أن يكون مسرحاً لعرض الآراء والأفكار المتطرفة، وساحة للاستقطاب الفكري وبيئة خصبة تستغلها الجماعات الإرهابية في تجنيد أتباعها، مع ما يشكله ذلك من خطر داهم على الصالح العام والمجتمع، فذلك يستلزم إبعاد الموظفين المنتمين فكرياً إلى الجماعات الإرهابية عن العمل بالجهات التابعة للدولة.