تتصلب مواقف كل الأطراف المعنية في فرنسا بإصلاح نظام التقاعد ورفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، وهو المشروع الذي ظلّ الأكثر لصوقاً بعهد الرئيس إيمانويل ماكرون منذ وصوله إلى قصر الإليزيه في عام 2017، ودخل أخيراً مرحلة البتّ فيه بالبرلمان الفرنسي.
إضراب النقابات يتحدى الحكومة الفرنسية
وليس السيناريو الذي يحصل حالياً، ومنه الشلل الذي أصاب فرنسا أمس الثلاثاء، نتيجة الإضراب العام الذي نفذته النقابات للمرة الثانية خلال أقل من أسبوعين، غير متوقع. وتأمل حكومة إليزابيث بورن، التي وضعها ماكرون في الواجهة، بمرور عاصفة نظام التقاعد بأقل الأضرار، وعدم اللجوء إلى المادة 49.3 من الدستور للمرة الـ11 خلال شهرين، والتي تسمح بتمرير المشروع في البرلمان دون تصويت، علماً أن نواباً من فريق ماكرون ومن اليمين التقليدي مترددون في دعم المشروع، الذي قد يكلف الحكومة مشروعاً مضاداً لحجب الثقة عنها. ومع ارتفاع العاصفة حالياً، يدخل المشروع مرحلة الحسم، ومعه ترتفع فرضية تمريره دون تصويت، ما قد يكلف ماكرون مخاطر شعبية كبيرة، قد تضطره لمواصلة ولايته من دون غطاء شعبي ولا برلماني.
قد يلجأ ماكرون إلى تمرير المشروع بدون تصويت البرلمان
وعاشت فرنسا، أمس، على وقع يوم جديد من التعبئة النقابية، رفضاً لمشروع ماكرون القاضي برفع سنّ التقاعد وتسريع تمديد فترة المساهمة للحصول على معاش تقاعدي كامل. ووعدت بورن ببعض التنازلات والاستثناءات، منها تحسين الشروط للأشخاص الذين بدأوا العمل في سن مبكرة جداً أو للأمهات اللواتي توقفن عن العمل لرعاية الأطفال، وللأشخاص الذين استثمروا في مزيد من التعليم، لكنها أكدت أن رفع سن التقاعد "غير قابل للتفاوض".
من جهتها، قدّمت المعارضة اليسارية اقتراحات تعديل لا تحصى على المشروع، بغية عرقلة التصويت عليه، بانتظار كلمة الشارع، كما طالب فريق من اليمين الفرنسي بتعديلات على المشروع من بورن لدعمه في البرلمان.
ويواجه ماكرون، في مسألة رفع سنّ التقاعد، معارضة شعبية قوية ورأياً عاماً رافضاً للتنازل عما يعتبره امتيازاً آخر يرى أن الطبقة الحاكمة وحزب "النهضة" (حزب ماكرون – الجمهورية إلى الأمام سابقاً)، يحاولان سرقته منه لصالح رجال الأعمال والمصارف والقطاعات المالية الخاصة. وفي تحقيق مطول لها، نشرته أمس، شرحت صحيفة "لومانيته" (يسار)، أنه "عندما نُضعف النظام، فإننا نشجّع على تقاعدات موازية"، متحدثة عن "نسور الرسملة" أو "المستفيدين من الأزمة، والذين يريدون جمع المال على حساب تعاسة الناس". وفي ذلك إشارة إلى شركات التأمين والمصارف، التي بدأت تتلقى استفهامات بزيادة بنسبة كبيرة، من موظفين يريدون فتح حسابات جانبية للادخار.
وشهدت فرنسا، أمس، إضراباً جديداً، بعد الأول الذي نظّم في 19 يناير/ كانون الثاني الماضي، دعت إليه النقابات احتجاجاً على مشروع ماكرون، تزامناً مع بدء مناقشته في البرلمان، ما رفع منسوب التوتر السياسي والاجتماعي في البلاد، والذي ترافق مع تسجيل ارتفاع بمعدل التضخم السنوي إلى 7 في المائة، مع ارتفاع أسعار الطاقة.
مناقشات حامية في البرلمان الفرنسي
وتعوّل النقابات التي اتحدت بشكل نادر على القدرة على الحشد، بعدما ضمّ اليوم الأول من التظاهرات والإضرابات في 19 يناير ما بين مليون ومليوني شخص، وتأمل بأن يكون زخم تحركها ونسبة الرفض الشعبي للمشروع والتي تظهرها استطلاعات الرأي قادرة على فرض نفسها، وإجبار ماكرون على التراجع عن خطوته. وبعد يوم أمس، تحذّر النقابات من أنها عازمة على الدخول في مزيد من الإضرابات، وتتحدث عن خطوات تصعيد إضافية مقررة للأسابيع المقبلة. وقال الأمين العام للاتحاد الديمقراطي الفرنسي للعمل لوران بيرجيه إن بورن "لا يمكنها البقاء صامتة أمام التعبئة الضخمة"، بينما يردّد ماكرون أن "التظاهر ليس من العقل في شيء".
قدّمت المعارضة أكثر من 7 آلاف طلب تعديل على المشروع، لإفراغه من مضمونه وتأجيل البت فيه
ونتيجة الإضراب توقفت أمس غالبية خدمات المترو والسكك الحديد في ضواحي باريس عن العمل إلى حد كبير، كما تعطل التنقل بين المدن مع تشغيل قطار من كل 3 قطارات "تي جي في" عالية السرعة، وفق الشركة الوطنية للسكك الحديد في فرنسا "أس أن سي أف". وشمل الإضراب بشكل كبير قطاع التعليم، وشارك حوالي نصف الأساتذة في الحضانات والمدارس الابتدائية فيه، وفق نقابة للمعلمين.
لكن فريق الرئاسة لا يقدّم حتى الآن أي إشارة توحي بأنه مستعد للتراجع عن خطوته، وهو ما يشكّل بالنسبة إليه ضربة قاضية لمصداقية الرئيس، رغم الرفض الشعبي والسياسي الواسع للمشروع. ويرّدد ماكرون أن الإصلاح ضروري لضمان التمويل المستقبلي لنظام المعاشات التقاعدية والذي يتوقّع، بحسب الفريق الرئاسي، أن يقع في عجز في السنوات القليلة المقبلة. لكن رئاسة المجلس الاستشاري للمعاشات في فرنسا أخطرت البرلمان، الأسبوع الماضي، بأن "الإنفاق على المعاشات التقاعدية ليس خارج نطاق السيطرة"، وهو ما تستغله المعارضة للتأكيد أن نظام التقاعد الفرنسي بشكله الحالي متوازن. وقدّمت المعارضة أكثر من 7 آلاف طلب تعديل على المشروع، لإفراغه من مضمونه وتأجيل البت فيه.
ولا يناقش البرلمان الفرنسي (مجلس النواب في الجمعية الوطنية) مجتمعاً حالياً مشروع القانون، إنما لجنة الشؤون الاجتماعية النيابية، التي ستُحيله للنقاش العام في 6 فبراير/ شباط الحالي. وبحسب صحيفة "لوموند"، في عددها أول من أمس، فإن حوالي 15 نائباً من حزب ماكرون وكتلته (بما فيها "موديم" و"آفاق")، و15 آخرين من حزب "الجمهوريين" (ويمثلون الجناح المعتدل من اليمين التقليدي)، هدّدوا بمعارضة المشروع غير الشعبي، والذي كانت قد طرحته بورن أمام البرلمان في 10 يناير الماضي، علماً أن ماكرون لا يملك في البرلمان بعد انتخابات يونيو/ حزيران الماضي سوى أغلبية ضئيلة. ويحتاج ماكرون إلى 289 صوتاً من أصل 577 نائباً لتمرير المشروع بتصويت النواب، ويحتاج لذلك إلى رأب الانقسامات داخل فريقه أولاً، وإرضاء اليمين، المتوجس من تراجع شعبيته بشكل قياسي خلال 10 سنوات، ويخشى أن ينقض تمرير المشروع على ما تبقى منها.
وتشكل الإضرابات والاحتجاجات لجميع الأطراف اختباراً مهماً، لكن المعارضة اليسارية (كتلة الاتحاد الشعبي الاجتماعي والبيئي "نوبس")، تتفادى الإدلاء برأيها في الشارع لمنح النقابات الدور الأول في الاعتراض. وساعدت هذه الاستراتيجية في توحيد النقابات من كل الاتجاهات، في مواجهة الفريق الرئاسي الذي يروّج بأن المشروع لا يواجه اعتراضاً سوى "من غير العقلاء" من اليسار والنقابات.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)