في الغابة الإستونية الكثيفة، تفتح دبابة لوكلير طريقاً مغلقاً بأسلاك شائكة حادة، بينما تُسمع من بعيد أصوات إطلاق نار خلال تدريبات تعدّ فيها فرنسا وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي حرب الغد.
يقول كيفن، قائد مجموعة في واحدة من دبابات لوكلير، درة سلاح المدرعات الفرنسي: "إنها مناطق مستنقعات وأحراج. إسقاط شجرة واحدة ليس مشكلة، لكن إسقاط خمسين شجرة أكثر تعقيداً، والعمل في المنطقتين شبه مستحيل". لكنه يضيف بارتياح: "يمكننا إرسال قذيفة كل ست ثوانٍ". ويتابع أن "الرغبة في اقتناء الآليات المدرعة تعود، ونحن نعمل على آلية مصنوعة بالفعل لمعارك كثيفة جداً".
وهذا المفهوم يتردّد على لسان الجميع، من الجنود إلى أعلى المسؤولين في القيادة، لأن الأمر يتعلق بواحد من التغييرات الاستراتيجية الجذرية التي سيتواصل تأثيرها لعقود من الزمن.
وفضّل الجيش الفرنسي، على غرار حلفائه، لفترة طويلة مكافحة التمرد والقتال غير المتكافئ ضد عدو مبعثر ومتنقل جداً، لكنه يفتقر إلى التجهيزات، مثل المتشددين الذين يواجههم في منطقة الساحل. لكن مسؤوليه يرون أن حرب المستقبل ستجرى بين قوى متكافئة، وستكون أكثر فتكاً وإنهاكاً، وستتطلب عدداً أكبر من الجنود، وستكون شاملة، براً وبحراً وجواً، وفي الفضاء والإنترنت، بأسلحة متصلة ببعضها، وخصوصاً مدرعات برنامج "سكوربيون" المترابطة بواسطة نظام معلومات حول القتال.
وهذا لا يعني أن الجندي "المعزز" بتكنولوجيا متقدمة لن يحفر الخنادق بعد الآن. ويشكل هذا التحدي محور العرض العسكري بمناسبة العيد الوطني الفرنسي في 14 يوليو/تموز، بقيادة الجنرال تييري بوركارد، الذي سيصبح خلال أيام رئيس أركان القوات المسلّحة الجديد.
"إشباع"
وأوضح الجنرال بوركارد لوكالة "فرانس برس"، قبل فترة قصيرة، أن "طبيعة الصراع تتغير، والدول أعادت تسليح نفسها ولم تعد تتردد في استخدام القوة لفرض إرادتها". وأضاف: "اليوم يتراوح "مستوى الاستخدام" في قطاع الساحل والصحراء بين ألف و1200 رجل. لكن غداً (...) ستندلع الحرب على مستوى كتائب وفرق، أي ما بين ثمانية آلاف و25 ألف رجل".
لذلك تعدّ فرنسا لتدريبات "أوريون"، وهي مناورات غير مسبوقة مقرّرة مطلع 2023، بمشاركة خمسة آلاف إلى سبعة آلاف جندي، لمدة أربعة أشهر، وقد يبلغ العدد في ذروتها عشرة آلاف جندي.
وقال قائد القوات البرية الفرنسية الجنرال فنسان غيوني إن "الكثافة العالية لا تتمثل في عدد الدبابات فقط، بل ببلوغ حالة إشباع في كل المجالات: السلاسة على الصعيد اللوجستي وعدد الجرحى والتدفق على صعيد الكهرومغناطيسة...". وتابع: "إنها عودة الحشود، إذ يجب التدرب بأعداد أكبر من القوات".
ويتبع حلفاء فرنسا والعديد من خصومها المنطق نفسه.
قوات "كبيرة"
ويؤكد المحلل في شؤون الدفاع في مركز "راند" الأميركي للأبحاث، سكوت بوسطن، أنه "يتم التركيز على مهمات ردع تقليدي ودفاع على نطاق واسع، لا سيما ضد الأعداء الذين لديهم قوات برية كبيرة جداً، وتظل الدبابة مهمة جداً بالنسبة لهم". لكن الانتقال لن يتم من دون أضرار. فقانون البرمجة العسكرية الحالي (2019-2025) أكثر دقة من النصوص السابقة، لكن يتطلب الأمر استثمارات ضخمة للتحضير للكثافة العالية، مع الحفاظ على السرعة المطلوبة لـ"قتال غير متكافئ".
وقالت الباحثة المستقلة المتخصصة في تاريخ الدبابات كامي هارلي فارغاس، لوكالة "فرانس برس"، إن "المعدات ذات الكثافة العالية تكلف مبالغ كبيرة"، متسائلة: "هل من الممكن التوفيق بين الجانبين؟ الجيش الفرنسي يحاول إيلاء أهمية للأمرين بشكل متساوٍ".
فقذائف الهاون، التي تطلق من على دراجة نارية والعبوات الناسفة اليدوية الصنع لن تختفي غداً، والعمليات مثل تلك التي تجرى في منطقة الساحل أو أفغانستان أو العراق ليست من الماضي.
وأدت الأزمة الصحية إلى تسريع توجه بدأ منذ سنوات، إذ ساد التوتر الجيوسياسي في جميع أنحاء العالم، وتركيا وإيران وروسيا هي أطراف إقليمية تثير قلق الغربيين.
وفي هذا الصدد، أشار رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستيكس، في يونيو/حزيران، إلى أن "القتال تضاعف في الجو والبحر (...)، والقوى الإقليمية اتخذت مواقف استراتيجية بدون احترام القانون الدولي". وتابع "أضيفت إلى التهديد الهائل للإرهاب (...) الشهية المتزايدة لبعض البلدان التي تسعى إلى فرض قوتها".
وهذه الفكرة ينبغي أن يحولها الجيش إلى خيارات استراتيجية. وأكد الجنرال غيوني: "علينا أن نتشدد حيال العدو، وأن نصمد في الظروف الصعبة، ونوسع مجالات مواجهتنا".
(فرانس برس)