تحوّل القنال الذي يربط فرنسا وبريطانيا إلى ساحة "حرب" بين البلدين، بعد عدة عقود من العمل المشترك لبناء جسور التقارب بينهما، وعلى رأسها مشروع "يورو تونل" (النفق) تحت بحر المانش، الذي صار يربط لندن بباريس وبروكسل، ويمتد نحو شمالي أوروبا عن طريق سكك حديد لنقل الركاب، وطرقات لمرور البضائع بالشاحنات، التي تزود بريطانيا بنسبة كبيرة من استهلاكها من الخضار والفواكه القادمة من البر الأوروبي. ويعكس الخلاف المستجد حول الصيد البحري، صدى لخلافات أعمق، وعلاقة جارين غير حميمة على مرّ التاريخ، وصولاً إلى اتفاق "بريكست"، وأزمة الغواصات مع أستراليا.
تصعيد فرنسي
وتوترت الأجواء ما بين باريس ولندن، الأسبوع الماضي، بعدما احتجزت فرنسا، يوم الخميس، سفينة صيد بريطانية، قبالة ميناء لو هافر الشمالي، قالت إنها دخلت مياهها الإقليمية من دون ترخيص، مع توجيه تحذير شفهي لسفينة ثانية. وجاء ذلك بعد يوم من إعلان فرنسا أنها ستكثف إجراءات التفتيش الجمركي وتعرقل التجارة مع بريطانيا اعتباراً من 2 نوفمبر/تشرين الثاني (يوم غد)، ما لم توافق لندن على منح مزيد من التراخيص لصيادي الأسماك الفرنسيين للصيد في مياه المملكة المتحدة، بحسب اتفاق ما بعد "بريكست". وأدلى وزيران فرنسيان بتصريحات مفاجئة، ذات لهجة من تلك التي تستخدم في الحروب. وظهر وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية، كليمان بون، على شاشة قناة تلفزيونية، ليصرح أنه "الآن يجب أن نتحدث لغة القوة، لأنني أخشى، للأسف، أن الحكومة البريطانية تفهم ذلك فقط. لن نتسامح ولن نتهاون.. لا يمكننا أن نكون في مناخ من الثقة مع شريك لا يحترم القواعد". وأضاف بون: "أفترض أننا رفعنا التهديدات وحافظنا على الحوار. الآن علينا أن نتحدث لغة القوة". وتلته وزيرة البحار، أنيك جيراردان، التي قالت إنها "ليست حرباً ولكنها معركة". وتردد صدى هذه التصريحات النارية في لندن، وتناقلتها وسائل الإعلام البريطانية في صيغة "البريطانيون لا يفهمون سوى لغة القوة". وعلى هذا الأساس، استدعت وزارة الخارجية البريطانية السفيرة الفرنسية في لندن كاترين كولونا، "لإجراء محادثات من أجل تفسير التهديدات المخيبة للآمال، وغير المناسبة، التي وجهت إلى بريطانيا"، على حدّ تعبير وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس. وهدّدت لندن بدورها، يوم الجمعة الماضي، بتعزيز عمليات تفتيش سفن الصيد الأوروبية في المياه البريطانية، عبر استخدام آلية لتسوية الخلافات نصّ عليها اتفاق "بريكست"، وذلك للمرة الأولى.
احتجزت فرنسا الأسبوع الماضي سفينة صيد بريطانية، وهدّدت بإجراءات انتقامية
وظلّ التصعيد الكلامي بين الطرفين سائداً حتى قمّة مجموعة الدول الـ20 الكبرى، في روما، والتي عقدت السبت وأمس الأحد، حين أعلن مكتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس، إثر لقاء الأخير مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على هامش القمة، اتفاقهما للعمل على "إجراءات عملية وعملياتية" لحل الخلاف. وقال مسؤول فرنسي، بحسب ما نقلت عنه وكالة "رويترز"، إن ماكرون وجونسون اتفقا على "التهدئة"، لكنه أجاب لدى سؤاله عن الإجراءات التي هدّدت بها فرنسا: "سنرى في 2 نوفمبر"، قبل أن تنفي الحكومة البريطانية إعلان باريس عن اتفاق الطرفين على خفض التصعيد في الخلاف بشأن الصيد. وقال متحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني للصحافيين، إنه "إذا أرادت الحكومة الفرنسية التقدّم بمقترحات لخفض التصعيد في تهديداتها، فنرحّب تماماً بذلك. موقفنا لم يتغيّر".
وتنص اتفاقية تنظيم الصيد بعد سريان اتفاق "بريكست" على منح رخص للصيادين الفرنسيين والبريطانيين للصيد في مياه البلدين، وتقول فرنسا إنها بينما احترمت الاتفاقية، وتسمح للسفن البريطانية بالصيد في مياهها البحرية، لم تمنح بريطانيا نصف الرخص المطلوبة حتى الآن، وهذا ما أثار ردود فعل غاضبة في أوساط الصيادين الفرنسيين، الذين درجوا على ممارسة صيد أنواع محددة من الأسماك والبحريات في المياه البريطانية، بينما يصطاد البريطانيون من المياه الفرنسية أنواعاً أخرى من الأسماك غير متوافرة في المياه البريطانية. ويعتبر اتحاد الصيادين البريطانيين، استراتيجية "العين بالعين، والسن بالسن"، بلا جدوى، لأن قلة من السفن البريطانية ترسو في الموانئ الفرنسية، بينما يوجد عدد كبير من الصيادين الفرنسيين في المياه البريطانية، وبالتالي فإن التصعيد سيكون على حساب الفرنسيين. ولكن الأوراق التي تهدد بها باريس تبدو ضاغطة بقوة على لندن، ومنها ورقة الكهرباء، منع السفن البريطانية من الرسو في الموانئ الفرنسية، تفتيش الشاحنات، ما يعني مزيداً من الوقت، ويمكن أن تذهب أبعد في ما يتعلق بالصادرات القادمة من الاتحاد الأوروبي عبر القنال، وهي تشكل نسبة مهمة من استهلاك بريطانيا اليومي. وهذا يعني أن البلدين سوف يتجهان إلى الصيد في "المياه العكرة".
جاران لدودان
في الواقع، هكذا هو الحال ما بين باريس ولندن منذ "قصة مدينتين"، التي نسج فيها الروائي البريطاني شارلز ديكنز تشابك العلاقات بين بريطانيا وفرنسا عشية الثورة الفرنسية عام 1789، ولكنه عاد فيها إلى الماضي، واستشرف المستقبل، الذي كانت تجربة الاتحاد الأوربي إحدى أهم تجلياته. وخلال المحطات الأساسية في عمر الاتحاد، لعب الجاران اللدودان دورين مختلفين، حكمهما التنافس. ولو كانت بريطانيا في البر الأوروبي، لكانت أوروبا قد شهدت تجربة وحدوية مختلفة، ولكن موقعها الجغرافي كجزيرة، لعب دوراً معيقاً، وتحول إلى حاجز نفسي، ما أبقى على البرودة والعزلة التي قادت إلى "بريكست" من طرف واحد، أحال قدراً كبيراً من الخلافات إلى المستقبل.
فرنسا لم تكن بعيدة عن بريطانيا على مر التاريخ، إلا أن العلاقات لم تكن حميمة بين البلدين. تاريخ حروب دموية، وخلافات، وتنافس، ومصالحات، وهدنات. ويعتز البريطانيون بأنهم هم من وضعوا قواعد اللعبة، منذ معركة واترلو عام 1815 التي أنهت مشروع نابليون بونابرت التوسعي (وهذا ما حدا بالإنكليز إلى نحت مثلٍ للشخص الذي يعاني من حظ سيئ جداً بأنه "صادف واترلو")، وحتى خطة تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني، والتي أعلنها الجنرال شارل ديغول من لندن عبر أثير إذاعة "بي بي سي"، فرنسا الحرة، في 18 يونيو/حزيران عام 1940، وكان ذلك إعلان المقاومة الفرنسية وقيام فرنسا الحرة في الخارج.
الرباط قوي بين البلدين، ولكن حين لا يحتاج أحدهما الآخر بحكم الضرورة، مثل استيراد بريطانيا الطاقة الكهربائية من فرنسا، فإنه يغرد بعيدا عنه. وبعد الحرب العالمية الثانية، بدت فرنسا أقرب إلى ألمانيا منها إلى بريطانيا، وتجلى ذلك في العمل المشترك الذي قام به الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران (1981-1995) والمستشار الألماني هلموت كول (1982-1998) على صعيد أبرز الاتفاقات التي نقلت الاتحاد الأوروبي إلى مرحلة جديدة، ومنها "اتفاقية ماستريخت" الخاصة بالعملة الموحدة التي عارضتها بريطانيا، وبقيت خارجها، وكان ذلك حفظاً لطريق العودة للوراء.
بعد الحرب العالمية الثانية، بدت فرنسا أقرب إلى ألمانيا منها إلى بريطانيا
ألغام بارنييه
العلاقات بين البلدين، لم تكن أيضاً جيدة خلال السنوات الماضية، وخصوصاً خلال مفاوضات "بريكست" التي قادها المفاوض الأوروبي، الفرنسي ميشيل بارنييه، الذي نال قدراً كبيراً من الهجمات والنقد في الصحافة البريطانية، بسبب ما وصف بتشدده تجاه لندن وفرض شروط قاسية على خروجها من الاتحاد.
وهناك إجماع في بريطانيا على أن قيادة مفاوضات "بريكست" لو أنها أسندت إلى شخصية أخرى غير بارنييه، لكانت أسلس وأسهل وأسرع، وكانت بريطانيا ستخرج منها بمكاسب كبيرة. لكن وجود مفاوض محنك وعلى معرفة دقيقة بكل الملفات، عقّد خروج بريطانيا، وترك الكثير من الألغام التي ستتفجّر تباعاً، ومنها ملف الصيد البحري، الذي كان مفتوحاً في المياه الأوروبية لكل الصيادين الأوروبيين بلا تمييز أو استثناء، ولكن الأمر تغير مع "بريكست"، الذي حدد نسبة معينة من كل بلد للصيد في مناطق معينة من مياه الطرف الآخر. وبدا لاحقاً أن المسألة أعقد على أرض الواقع بسبب ضيق المساحة الجغرافية، والتداخل في الحدود البحرية التي تقع كلها في بحر الشمال وقنال المانش، الذي يفصل فرنسا عن بريطانيا. وفوق ذلك أن اتفاقية "بريكست" لم تحل مشكلة الصيد ولم تحسم فيها كليا، ويعزو المراقبون ذلك إلى أن رئيس الوزراء البريطاني بوريس وجونسون كان على عجلة من أمره للخروج من الاتحاد ولم يفاوض جيداً، ولذلك بدأت المشاكل بالظهور، وهذه واحدة منها، وقد لا تكون الأكثر تعقيداً وصعوبة.
تتهم باريس لندن بعدم الوفاء بالتزاماتها في اتفاقية بريكست
وحين تتحدث باريس عن المشاكل، فإنها تضع بريطانيا في موقع الاتهام بالتقصير والتهاون في التزام الاتفاقات، ولذلك دعت الوزيرة الفرنسية جيراردان، صباح الخميس الماضي، المفوضية الأوروبية، كي "تعمل بجدية أكبر لضمان وفاء المملكة المتحدة بالتزاماتها"، وذلك بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من دعوة مماثلة لرئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس، وذلك قبل أن يصل التوتر إلى هنا وتقوم فرنسا باحتجاز سفينة صيد بريطانية.
"مؤامرة" الغواصات
لم تكن الخلافات بين باريس ولندن تدار على هذا النحو المتشنج والعنيف قبل صفقة الغواصات النووية بين الولايات المتحدة وأستراليا، التي لعبت بريطانيا فيها دوراً سلبياً ضد فرنسا، وحرمت باريس من عقد ثمين لتوريد غواصات تقليدية إلى كانبيرا، بحسب الرواية الفرنسية التي اتهمت رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بحياكة مؤامرة ضد فرنسا. بعدها استخدم الفرنسيون تعابير قاسية بحق البريطانيين: انتهازيون، كذابون، خونة. ولأن المعركة حامية والمصالح متضاربة، لا يبدو أن جهة مؤهلة للتدخل من أجل التهدئة. وحدها ألمانيا قادرة على لعب هذا الدور، إلا أنها تميل إلى جانب فرنسا. أما الولايات المتحدة فمحرجة، فهي تأخذ صف بريطانيا عادة، وهو أمر مستبعد بعد لقاء ماكرون نظيره الأميركي جو بايدن في روما، والذي جرت فيه تصفية الأجواء في ما يخص صفقة الغواصات، وسجلت فيه الدبلوماسية الفرنسية نقطة ضد واشنطن، باعتراف بايدن بخطأ الولايات المتحدة في صفقة الغواصات.