فرنسا... أزمات تطرح جدوى استمرار ماكرون في ولاية ثانية

10 يناير 2023
كل تعهدات ماكرون ذهبت أدراج الرياح (لودوفيك مارين/فرانس برس)
+ الخط -

استخدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مفردة "العمل" 17 مرة في خطابه السنوي، الذي وجّهه للفرنسيين بمناسبة العام الجديد.

واعتبرت صحيفة "لوموند"، التي أحصت له ذلك، أن الأمر يستحق التوقف أمامه، نظراً لتحميل كلمة احتفالية كل هذا القدر من التعبئة والتركيز على العمل من أجل الوحدة الوطنية لـ"إعادة بناء فرنسا أقوى" وإعادة تصنيع البلاد. وحسب الرئيس، فإن الدولة بحاجة إلى "مزيد من العمل لإعادة بناء الخدمات العامة"، وإصلاح نظامي التأمين ضد البطالة، والتقاعد "لبناء مجتمع أكثر إنصافًا".

لم يتم اختيار مفردات الخطاب على نحو عشوائي. ويبدو واضحاً أن الكاتب نفسه، هو الذي حرر برنامج ماكرون الانتخابي، وخطابات حملته الرئاسية الأخيرة في إبريل/نيسان الماضي. بل إن جو الكلمة شبيه بتلك الأجواء التي عاشتها فرنسا في النصف الأول من العام الماضي، وهي تستعد للانتخابات التشريعية والرئاسية.


يبدو أن ماكرون يصم أذنيه عن متابعة الأخبار، لأن المؤشرات تخالف التفاؤل الذي طبع خطابه لنهاية العام

كل التعهدات التي طرحها ماكرون، وبقية المرشحين في ذلك الوقت، ذهبت أدراج الرياح، وجاءت التطورات لتقلب الطاولة على الجميع. حتى أن بعض نواب "حزب النهضة"، الذي خاض من خلاله ماكرون السباق الانتخابي، بدأوا يتساءلون، في الخريف الماضي، عن جدوى بقائه لولاية رئاسية ثانية، وهو لا يملك أغلبية نيابية، وغير قادر على تقديم رؤية لمواجهة الأزمات الكبيرة التي تواجهها البلاد.

رفع شعار خفض نسبة البطالة

ولأن الوضع صعب جداً، ومنسوب التضخم آخذ في الارتفاع بسرعة جنونية، فإن المستشارين، الذين يبحثون عن سبل لتقطيع الوقت، لم يجدوا شعاراً يرفعونه سوى خفض نسبة البطالة ثلاث نقاط، إلى أقل من 5 في المائة، والتضخم إلى أقل من النصف، من 13 في المائة الشهر الماضي إلى نحو 6 في المائة. وعلى سبيل المقارنة، لم تتجاوز النسبة واحدا في المائة قبل حرب روسيا على أوكرانيا. 

تقارير دولية
التحديثات الحية

الرهان الرئيسي هو على تخفيض استهلاك الطاقة، ما يقود إلى تراجع أسعار المحروقات، الذي من المأمول أن يترجم نفسه إلى انخفاض في أسعار المواد الأساسية التي يتم استيرادها من بعيد. لا يصدق المستهلك العادي هذه الفرضية، وهو لم يعد يأمل في العودة إلى أسعار ما قبل عام 2020 الذي تعرّض فيه الاقتصاد إلى هزة كبيرة بسبب وباء كوفيد-19. بل تكاد العودة إلى مستويات ما بعد كورونا مباشرة شبه مستحيلة، طالما أن نهاية الحرب في أوكرانيا لا تبدو في الأفق.

المؤشرات تخالف تفاؤل ماكرون

ويبدو أن ماكرون يصم أذنيه عن متابعة الأخبار، لأن المؤشرات تخالف التفاؤل الذي طبع خطابه لنهاية العام. صحيح أن البطالة تراجعت، وهناك أكثر من 300 ألف وظيفة شاغرة، إلا أن هذا دليل عجز، وليس عافية اقتصادية تستند إلى ارتفاع في معدلات النمو. ومن سيملأ هذه الشواغر هم المهاجرون الذين سيتم استقدامهم من الخارج بشروط مغرية جداً، خصوصاً الأطباء الذين سيحصلون على رواتب عالية، وسيكون مسموحا لهم اصطحاب عائلاتهم معهم.

ليس قطاع الصحة وحده الذي يعاني من أزمة حادة في نقص الكادر من أطباء وممرضين، بل ينسحب الأمر على قطاع التعليم، بعد مشروع ماكرون لإصلاح هذا القطاع. وهناك رسم كاريكاتوري انتشر على نطاق واسع يلخص المسألة، وهو عبارة عن سيارة لنقل طلبة إلى المدرسة بلا سائق، لأنه ذهب من أجل المشاركة في مسابقة اختيار المعلمين.

هناك ملفات كثيرة مطروحة على طاولة رئيسة الحكومة إليزابيث بورن، التي تبدو من أضعف رؤساء الحكومات التي عرفتها فرنسا في العقدين الأخيرين. ومن أهم الملفات التي تنتظر الحسم تعديل قانون سن التقاعد المحدد بـ62 سنة. وهناك مشروع قانون لرفعه إلى 65 سنة، كما هو الحال في الجارة بريطانيا.

النقابات تحشد للنزول إلى الشارع

يرى الخبراء أن هذا المشروع لن يمر بسهولة، فالنقابات تحشد للنزول إلى الشارع من أجل منع إقراره. ولذا من المستبعد أن تعرضه الحكومة على البرلمان، خاصة وأنها لا تملك أغلبية برلمانية، ومن المرجح أن تستخدم التدابير الاستثنائية، ما يزيد من حدة ردود الفعل.

إضرابات مرتقبة في قطاعات النقل والصحة والتعليم، والأهم من ذلك عودة تظاهرات "السترات الصفراء" التي هزت فرنسا خلال أكثر من عام في الفترة التي سبقت جائحة كورونا. وكانت تحدث نهار كل يوم سبت، وتشهد أوجها في العاصمة من خلال أحداث عنف ومواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن.

وفي حين أن السترات الصفراء كانت تتظاهر في السابق احتجاجاً على تفاقم الأزمات، فإنه سيضاف إليها الآن كل ذلك التردي الذي يعرفه الوضع الاقتصادي وارتفاع التضخم. وهناك مؤشرات مؤكدة إلى أن التحركات، التي انطلقت يوم السبت الماضي، سوف تأخذ طابعاً سياسياً، خاصة وأن الولاية الثانية لماكرون تبدو باهتة وبلا محتوى. 

وقالت جاكلين مورو، أحد المتحدثين باسم حركة "السترات الصفراء"، في تصريح أخيراً، إن الحكومة عاجزة عن تقديم حلول، ولم يعد أمامنا سوى النزول للشارع. ورأى مراقبون أن التحرك الجديد سوف يكون أقوى في الأسابيع المقبلة، باعتبار أن الأزمات التي استدعت التحرك السابق كانت أقل حدة مما هي عليه اليوم.

تتحمل الحرب القسط الأساسي من أسباب الأزمة، هذا ما يراه خبراء أوروبيون، يجمعون على أن نسبة التضخم في منطقة اليورو تجاوزت نسبة 10 في المائة في أغلبية بلدان الاتحاد، بل ناهزت 20 في المائة في بعض منها، مثل المجر. 


مؤشرات مؤكدة بأن التحركات في الشارع ستأخذ طابعاً سياسياً

ولا يرى هؤلاء آفاقاً لحلول نهائية، وعلى الأوروبيين أن يدفعوا ثمن الفاتورة العالية للنفط والغاز. هناك ضريبة اقتصادية لحرب روسيا على أوكرانيا، ولا بد من طرف يسددها، ومن يقوم بذلك حالياً هم الأوروبيون، وليس روسيا أو الولايات المتحدة. وكان منطق العقوبات الأوروبية ــ الأميركية ينطلق من أن تتحمل روسيا الثمن، ولم يحصل ذلك بعد. ويرجّح الخبراء أن يبدأ تبادل الأدوار بدءا من الصيف المقبل.

تحركات احتجاجية لأصحاب المخابز في فرنسا

ويبدو الصيف المقبل موعداً بعيداً جداً للكثير من المصانع والحرف والمخابز التي تعتمد على الكهرباء بدرجة أساسية. وتشهد فرنسا، منذ مطلع العام الحالي، سلسلة تحركات احتجاجية يقوم بها أصحاب المخابز الذين ارتفعت فاتورة الكهرباء الشهرية لديهم عشرة أضعاف. وهؤلاء لا يجدون حلاً من خلال رفع أسعار الخبز ضعفاً أو ضعفين، بل يضطرون إلى الإغلاق وتسريح العمال.

تبدو الدولة عاجزة عن لعب الدور الذي قامت به خلال أزمة كوفيد، ومساعدة هذه القطاعات، لأنها لم تسدد بعد فوائد ديون المبالغ التي اقترضتها من أجل دعم المؤسسات في 2020 و2021. ووفق إحصاءات رسمية، لا تكفي عائدات الضرائب التي تجنيها الدولة لتسديد الفوائد.

القسط الأساسي الذي لا تتحمل الحرب مسؤوليته يعود إلى أسباب أخرى بعضها بنيوية، والبعض الآخر يعود إلى سوء التخطيط الاقتصادي في العقدين الأخيرين. وهذا ما يلاحظه المواطن الأوروبي اليوم، ولأول مرة على صعيد فقدان العديد من الأدوية الأساسية من الصيدليات، وخاصة المضادات الحيوية والمسكنات.

وثمة أكثر من تفسير للمسألة، إلا أنها جميعها تتقاطع عند انقطاع سلاسل توريد المواد الأولية الخاصة بتصنيع الأدوية من الصين والهند، بسبب آثار الإغلاق المديد خلال استشراء وباء كورونا، وكذلك بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الصين من جراء سياسة الاحتواء الأميركية التي أدت إلى إغلاق الكثير من الشركات أبوابها. 

ليس بعيداً عن هذا تعهد ماكرون بـ"إعادة تصنيع البلاد" التي نقلت جزءا أساسياً من مصانعها إلى الخارج من أجل توفير أرباح أعلى لأصحاب رؤوس الأموال، الذين يبحثون عن مواد أولية وأيد عاملة رخيصة. وكانت النتيجة ثراء الرأسماليين، ونكسة كبيرة على اقتصاد البلد الذي نقل التكنولوجيا والاكتشافات إلى الخارج، عوضاً عن تسخيرها للصالح العام.

حرب إعلامية حول سوق الكهرباء

وغير بعيد عن ذلك، تدور حرب إعلامية ودبلوماسية بين فرنسا وألمانيا، سببها السوق الأوروبية للكهرباء الذي يقوم على معايير توزيع عادل للأعباء. وبذلك تتحمل الدول الغنية قسطاً أساسياً من فواتير الدول متوسطة الدخل، مثل اليونان والبرتغال. 

تستفيد ألمانيا بصورة أساسية من هذا الوضع، فهي تولد الكهرباء من الغاز الروسي الرخيص، والعنفات التي تحركها الرياح والألواح الشمسية، وهذه مصنفة طاقة خضراء، تحصل على دعم وتمويل من الاتحاد الأوروبي. 

الجارة فرنسا خاسر رئيسي، لأنها تعتمد بالدرجة الأولى على الطاقة النووية، غير المصنفة طاقة خضراء على مستوى الاتحاد الأوروبي. وبالتالي تتحمل مع عدة دول أوروبية فواتير عالية للطاقة، التي لا تحظى بدعم من الاتحاد الأوروبي. وهذا يخلق وضعاً تمييزياً، ويفاقم من أزمة الطاقة.