يشارف شهر العدوان الصهيوني المسعور الرابع على قطاع غزّة، ومجمل أرض فلسطين على الانتهاء، في ظلّ خريطةٍ إقليميةٍ شبه ثابتةٍ، قوامها تواطؤ النظام العربي، في مقابل مشاركةٍ؛ ولو كانت محدودةً نسبيًا، من قبل حلفاء إيران الإقليميين، وتحديدًا من قبل جماعة أنصار الله الحوثيين في اليمن، وحزب الله اللبناني، وقوىً عراقيةٍ محسوبةٍ على إيران. يدلل المشهد الإقليمي الحالي على مسائل عديدةٍ، منها ذكاءٌ إيراني يمنحها قوةً إقليميةً ودوليةً، يقابله ضعفٌ عربيٌ مخجلٌ.
الذكاء الإيراني لا يعني كمال الإدارة والقيادة الإيرانية، بقدر ما يدلل على نجاحها في صوغ خطابٍ سياسيٍ وأيديولوجيٍ مبدئيٍ، يتقاطع مع تطلعات قسمٍ كبيرٍ من شعوب المنطقة، على التوازي مع إدارة شبكة علاقاتٍ إقليميةٍ تخدم الاستراتيجية الإيرانية، وتقارب خطابها السياسي ذاته، وهو ما جسده دور القوى الإقليمية المحسوبة على إيران، على مدار أيّام العدوان الصهيوني الأخير. طبعًا، لا يعني ذلك التزامًا إيرانيًا، أو من قبل أذرعها الإقليمية، مطلقًا بخطابها السياسي المعادي لأميركا والاحتلال الصهيوني، بقدر ما يوضح قدرتها على إتقان دور الممانعة، الذي يمزج بين الرفض والقبول، بين المقاومة والتهدئة. إذ لم تبادر إيران، أو حلفاؤها الإقليميون إلى الانخراط الكامل في معركة تحرير فلسطين، ودحر الاحتلال الصهيوني عن جميع الأراضي المحتلة، فلسطينيةً كانت أم عربيةً، رغم شعاراتهم النارية العديدة بهذا الخصوص، كما لم تقف على الحياد سياسيًا وميدانيًا كما معظم دول الإقليم.
هنا أيضًا، لا بدّ من التأكيد على أهمّية دور حلفاء إيران الإقليميين فلسطينيًا، وتحديدًا على دور جماعة الحوثيين، إذ تمكن الحوثيون حتّى اللحظة من فرض معادلةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ باهظة الثمن، تضع أميركا والاحتلال الصهيوني في خانةٍ حرجةٍ، بين الخضوع لمطالب المقاومة الفلسطينية، والحوثيين، وحزب الله، والقوى العراقية الموالية لهم من جهةٍ، وبين توسيع العدوان الصهيوني – الأميركي من جهةٍ أخرى رغم التحفظ الدولي الواضح، إذ لم تحظ مبادرة الولايات المتّحدة لمواجهة هجمات الحوثيين بأيّ تأييدٍ يذكر على المستوى الدولي، بل تصاعدت الأصوات المطالبة بضرورة حلّ جذر التوتر في المنطقة الإقليمية، المتمثّل في العدوان الصهيوني المسعور، الذي يرقى وفق تقديراتٍ دوليةٍ عديدةٍ إلى إبادةٍ جماعيةٍ للفلسطينيين، وجرائم حربٍ موصوفةٍ في القانون الدولي.
أفقد التخاذل/ التواطؤ الرسمي العربي نظمه ورقةً سياسيةً قويةً، كان يستطيع عبرها فرض مصالحه على المستوى الدولي
لكن وقبل الانتقال إلى الطرف العربي، لا بدّ من التأكيد على أنّ دور إيران وحلفائها الإقليميين اليوم أقلّ بكثيرٍ من خطابهم السياسي والإيديولوجي، الذي يضع فلسطين وقضيتها وتحريرها على رأس أولوياتهم، إذ يخوضون اليوم معركةً وصفتها قيادة حزب الله ب "معركةٍ مساندةٍ" فقط. طبعًا، هذا لا يعني التقليل من آثارها الإيجابية على الساحة الفلسطينية، بقدر ما يوضح أهمّية العامل الإقليمي فلسطينيًا، ويوضح التباين الكبير بين شبه حياد النظام الرسمي العربي، وبين التدخل المحدود من أطراف المحور الإيراني، ولنا أن نتخيل التأثير المحتمل لتدخلٍ حقيقيٍ وكاملٍ من طرفٍ إقليميٍ.
على الطرف العربي؛ نجد خنوعًا ممزوجًا بالتواطؤ مع الأهداف الصهيونية والأميركية، بل ومع عدوانهم أيضًا، خصوصًا من قبل الأطراف الإقليمية المركزية مثل مصر والسعودية وسورية، إذ لم يساهم النظام الرسمي العربي بأيّ طريقةٍ تذكر في كبح الاعتداء الصهيوني والأميركي على فلسطين، ناهيك عن تخاذله في دعم مسار التحرر الفلسطيني، ولو بالوسائل الناعمة، السياسية والاقتصادية والثقافية. الطامة الكبرى هنا، هي تجاهل النظام الرسمي العربي لمصالحه نفسها، إذ أخلت سياسته هذه الساحة أمام منافسيه الإقليميين تركيا وإيران، وخصوصًا الأخيرة التي عملت منذ سنواتٍ على تأسيس أذرعٍ إقليميةٍ تضع قضية فلسطين في صلب خطابها السياسي والإعلامي والأيديولوجي، وهو ما تخلى عنه النظام الرسمي العربي كلّيًا طوعًا.
كذلك؛ أفقد التخاذل/ التواطؤ الرسمي العربي نظمه ورقةً سياسيةً قويةً، كان يستطيع عبرها فرض مصالحه على المستوى الدولي، في حين يبدو أن النظام الإيراني اليوم هو من يمسك بهذه الورقة، وهو الطرف الأكثر ترجيحًا لجني ثمارها، جنبًا إلى جنب مع الفلسطينيين. بل ساهم التخاذل/ التواطؤ العربي في إعادة تعويم أذرع إيران محليًا، ولو نسبيًا، مقارنةً بالأزمات الداخلية التي كانوا يتعرضون لها في دولهم، وهو ما قد ينعكس قريبًا على زيادة هيمنتهم المحلية، فضلاً عن مكانتهم الإقليمية. فالحوثيون، على سبيل المثال، أضحوا اليوم لاعبًا إقليميًا هامًا ومؤثرًا ليس على مستوى الإقليم فقط، بل على المستوى العالمي، عبر تأثيرهم على أمن الملاحة الدولية البحرية، وهو ما قد يستفيدون منه مستقبلاً في أي معادلة إقليمية ودولية محتملةٍ.
ختامًا، يبقى من الضروري الإشارة إلى أنّ تخلي النظام الرسمي العربي عن أداء دوره المطلوب منه إقليميًا، الذي يتقاطع مع مصالحه القومية العليا، هو السبب الحقيقي في تضخيم دور الأطراف الإقليمية الأخرى، وفي مقدمتها إيران، وعليه يبدو جليًا أن مسار تقويض التدخلات الإقليمية المخربة والإجرامية في شؤون المنطقة يستدعي نهوضًا في دور النظام الرسمي العربي، في مسارٍ يتقاطع مع مصالح شعوب المنطقة وحقوقها وتطلعاتها، وفي مقدمتها استعادة الشرعية الشعبية ودورها إقليميًا، ومناصرة حقوق الشعوب المسحوقة والمظلومة، ومنها دون شكٍّ حقوق الشعب الفلسطيني كاملةً.