يجسد الطبيبان النرويجيان مادس جيلبرت (مواليد 1947)، وإيريك فوسا (مواليد 1950)، وأمثالهما الضمير الإنساني بنقائه المطلق. فهما لا يقبلان الظلم، ويشاركان برفع المعاناة عن المظلومين، حيث يتركان عملهما وأسرتيهما والحياة المريحة في النرويج لمشاركة المضطهدين حياتهم القاسية والدفاع عنهم. تلك قصة بطلين من هذا الزمان، وإشارة مؤكدة أن الضمير الإنساني حيّ وباقٍ.
وكتب الطبيبان تجربتيهما كمتطوعين في مستشفى الشفاء خلال عدوان إسرائيل على غزة 2008-2009 بمؤلف مشترك (عيون في غزة)، صدرت طبعته العربية عام 2011 بترجمة زكية خيرهم وبإهداء من الطبيبين لأطفال غزة.
لاحقاً، كتب جيلبرت كتاباً آخر، للأسف لم يترجم، بعنوان "ليل غزة" سجل فيه الفترة التي قضاها في مستشفى الشفاء خلال عدوان 2014.
يروي الكتاب الهجوم الإسرائيلي العنيف على قطاع غزة، كما عاشه الطبيبان جيلبرت وفوسا، ويعتمد على اليوميات والملاحظات التي سجلاها، وعلى الصور وتسجيلات الفيديو والمحادثات الهاتفية خلال عملهما في مشفى الشفاء في أثناء العدوان.
وصل المتطوعان إلى غزة ليلة رأس السنة 2009 بعد انتظار في مصر، حيث "منعت إسرائيل بطريقة منهجية العاملين في المجال الطبي أو الصحافيين من الدخول إلى غزة، لذا لم يكن هناك إلا القليل من الأوروبيين، ولم يكن هناك صحافيون غربيون"، ولاحقاً سيرسل الطبيبان تقارير يومية بعدد الشهداء والجرحى والعمليات الجراحية في مستشفى الشفاء، بالإضافة إلى صور ومقاطع فيديو لبعض الصحافيين.
تجاوز دور الطبيبين المساعدة الطبية للجرحى بحكم مهنتهما، لفضح الجرائم الإسرائيلية وإيصالها للصحافة الغربية، وأيضاً كتابة التقارير عن إصابات الحرب وجرائم القصف الإسرائيلي للمجلات الطبية الرصينة، فضلاً عن مناشدة العالم وقف المجازر الإسرائيلية عبر وسائل الإعلام، وبذلك أصبحت تقاريرهما ورسائلهما شواهد يستعان بها للمطالبة بوقف إسرائيل مجازرها، كما حصل في نقاش مجلس الامن لوقف إطلاق النار في 2009.
أثرت الرسالة التي أرسلها آنذاك جيلبرت في الرأي العام العالمي كثيراً. يقول: "قصفوا سوق الخضار المركزي في غزة قبل ساعتين. قُتل عشرون، وجُرح ثمانون، أُحضروا كلهم إلى مشفى الشفاء، يا للهول! نحن نغرق في الموت والدم والأشلاء. أطفال كثيرون، نساء حوامل، لم أرَ شيئاً في حياتي بهذه البشاعة، نسمع أصوات الدبابات الآن، أعلنوا هذا، أرسلوا هذا، اصرخوا، افعلوا شيئاً، افعلوا المزيد، نحن نعيش في كتب التاريخ الآن". أزعجت الرسالة مؤيدي إسرائيل، فوضعت محطة فوكس نيوز صورة كبيرة لجيلبرت في موقعها الإلكتروني كُتب تحتها "طبيب الدعاية لحماس".
إيريك فوسا
تطوع الطبيب الجراح إيريك فوسا في فريق الطوارئ النرويجي إلى جانب الفلسطينيين في عدوان لبنان 1982 كما رافق الرئيس ياسر عرفات في سيارة إسعاف خلال دخوله أريحا للمرة الأولى بعد اتفاق أوسلو، حيث كان الفلسطينيون يخشون من محاولة اغتيال لعرفات أو تفجير لمستقبليه. يختار فوسا، وهو طبيب مختص في جراحة القلب والرئة، وعمل في القوات المسلحة في بلاده، أن يقصّ علينا معاناة، قائلاً: "أحمد، عمره ١٢ سنة، ساقاه كانتا مبتورتين، نظرت إلى جيب خصيتيه، كان ممزقاً، وإحدى الخصيتين كانت مكشوفة. أدرناه على جنبه لنقيّم الإصابة في ظهره. رأيت كل فتحة الشرج اختفت ومعظم العضلات على النصف الأيسر من المؤخرة أيضاً اختفت، كان الجلد متشققاً، وبدا الأمر وكأن العضلات قطعت بسكين. في الجزء الأسفل كانت مئات من الجروح الصغيرة على شكل نقط. لم أرَ في حياتي ذلك النوع من الإصابة. من المؤكد أن هذا سلاح جديد. إنها قنابل الدايم، وهي مواد متفجرة تستعمل ما يُسمى القنابل الماسية الصغيرة، مصنوعة من الألياف الزجاجية، ولها نظام ملاحي متطور، وفيها مادة التتغستين التي تمزق الأنسجة إلى قطع وتحرق الجسد وتسبب سرطان العضلات". سمحت الولايات المتحدة باستخدام هذا السلاح لإسرائيل للمرة الأولى في لبنان خلال حرب 2006.
مات أحمد وكان ابن أخ لطبيب يعمل في المشفى، وهذا الأمر كان يزيد من معاناة الأطباء والعاملين الفلسطينيين في المستشفى، حيث القلق الدائم من أن تفجر منازلهم وتصاب أسرهم، أو يجدوا فجأة أحد أقربائهم جريحاً في المستشفى. "أحد الأطباء قصف منزله فقتلت زوجته الحامل وابنته وجرحت ابنته الثانية. أحد الجراحين، الدكتور رائد العريني، نُقل طفلاه إلى المستشفى حيث يعمل وإصابتاهما خطرة".
يصف اليوم الذي قصفت فيه الدبابات الإسرائيلية مدرسة الأمم المتحدة في مخيم جباليا ويكتب: "غرفة الاستقبال كانت مليئة بالأطفال على الحمالات، طفل عمره ست سنوات ملقى على الأرض بجرح خلف أذنه وشظية معدنية داخل دماغه، طفلة في الثامنة عولجت من جرح في الرأس كانت تحدق بعينيها الكبيرتين. ترى بماذا كانت تفكر؟ من المحتمل أنها كانت مذعورة، كانت تعرف أنها نجت من ذلك الهجوم، ولكنها ستصاب مرة أخرى، لا يوجد مكان آمن في قطاع غزة".
يعلّق على تبرير الناطق باسم الدفاع الإسرائيلي أن هؤلاء الأطفال معظمهم أطفال حماس: "نزع الصفة الإنسانية شرط مسبق لمهاجمة الأهداف المدنية. عندما استعمر الأوروبيون أميركا ادّعوا أن الهنود الحمر حيوانات بدائية تقف في وجه الحضارة. في الدعاية النازية عرف اليهود كحيوانات مؤذية يجب التخلص منها، في رواندا كان الهوتو يصفون التوتسي بالصراصير، في غزة كان العنوان: إرهابي أو أطفال حماس".
الملاك مادس جيلبرت
يتذكر سمر (4 سنوات) وطفلين معها أصيبا في رأسيهما، وكانا تحت التنفس الاصطناعي: "الأول مصاب بشظية أو رصاصة اخترقت رأسه، وقد أتلفت الدماغ، لن يعيش. الآخر يعاني من إصابة بالغة في الوجه، تحطم وجهه، ولكن إصابة الدماغ ليست خطيرة، سُحقت عيناه الاثنتان، ويجب أن تقتلعا تحت العملية".
يشكل الأطفال، حسب ملاحظة جيلبرت، أكثرية الضحايا مع أضرار أخرى: "تسعة من كل عشرة أطفال في قطاع غزة شهدوا أو سمعوا أو كانوا قريبين من هجوم أو موت أو تشويه، ثلاثة من كل أربعة أطفال يعانون من الإجهاد المزمن، أربعة من عشرة يعانون من أعراض خطِرة".
يعقد مقارنة بين ما يراه خلال هذا العدوان وتجربته في بيروت عام 1982: "كنت أعتقد أن تجربة بيروت الغربية في صيف 1982 كانت أسوأ تجربة عشتها، الآن في غزة وكأنني أعيش ذلك الكابوس المرعب مرة أخرى وأسوأ من ذلك".
مستشفى الشفاء في غزة
وصل الطبيبان إلى مشفى الشفاء و"كان هناك الكثير من النوافذ المحطمة في المشفى وإمدادات الطاقة ضئيلة والأولوية لغرف العمليات الجراحية ووحدات العناية المركزة، أما باقي الأماكن في المستشفى، فكانت باردة جداً". يضيف جيلبرت أن "الكثير من المعدات التقنية الطبية فيها عيب أو نقص، كان من المستحيل الحصول على الأشياء البسيطة جداً في المستشفى، كنا نفتقر إلى الكواشف الكيميائية لمعايرة أجهزة فحص الدم. كان المهندسون الصحّيون يضطرون إلى استخدام الطرق اليدوية وارتجال الحلول، الانضباط وأخلاقيات العمل كانت مرتفعة جداً، التزاماً وإصراراً".
كتب الدكتور مادس مقالاً للمجلة الطبية البريطانية ذا لانست بعنوان (داخل مستشفى الشفاء) لخّص فيه حال المشفى والعاملين فيه: "موظفو الصحة بمستشفى الشفاء استنفدوا تماماً حيث ينامون من ساعة إلى ثلاث ساعات كحد أقصى يومياً، شحوب رمادي في وجوهنا، جياع". يضيف أن "مهاجمة المستشفى بحجة أن قادة حماس يختبئون في ملجأ تحته ليست حقيقية، وهي ذريعة لقصف المستشفى، لا أحد في المستشفى يصدق هذا الادعاء".
رسائل لمن له قلب
لم يكفّ الطبيب مادس جيلبرت عن إرسال الرسائل للداعمين الأميركيين وللعالم الصامت عن جرائم إسرائيل، ظهر كثيراً في العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة عبر وسائل الإعلام، وقدم أفلام فيديو عن جرائم القصف الإسرائيلي على غزة، وعلى مستشفى الشفاء تحديداً، ومنها رسالة وجهها إلى الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن ورؤساء الحكومات في دول الاتحاد الأوروبي، مترافقة مع صرخات الجرحى من المستشفى: "هل يمكنكم سماعي؟ هل يمكنكم سماع الصراخ من مستشفى الشفاء؟ من مستشفى العودة؟ هل يمكنكم سماع صرخات الناس الأبرياء؟ لاجئون احتموا هنا يحاولون العثور على مكان آمن يتعرضون للقصف الإسرائيلي هذا الصباح داخل المستشفى. المستشفيات التي هي معابد الإنسانية والحماية! متى توقفون هذا؟ أنتم متورطون جميعاً".
وكان جيلبرت قد وجه رسالة للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما خلال عدوان 2008 دعاه فيها للمبيت ليلة في مستشفى الشفاء، قائلاً: "يمكن أن نخفيك كعامل تنظيفات، وأنا متأكد أن ما ستراه سيجعلك تغير التاريخ إذا ما كان عندك قلب".