شهدت إسرائيل في سبتمبر/أيلول الماضي، قبل نحو أسبوعين من عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، صداماً جديا بين التيار الديني الصهيوني والتيار الصهيوني العلماني الليبرالي، حول إقامة صلاة "يوم الغفران" منفصلة للرجال والنساء في ميدان "ديزنغوف" في مدينة تل أبيب، الذي يعتبر معقل العلمانية والليبرالية الصهيونية.
تحوّل هذا الصدام إلى نقاش عام حول مكانة الدين في الحيز العام في إسرائيل، وتَرجم الصراع على تقاسم القوى بين التيار الصهيوني العلماني الليبرالي والتيارات المتدينة المحافظة.
هذا الصدام كان الأبرز في المشهد السياسي في إسرائيل قبل عملية "طوفان الأقصى"، وهو امتداد مباشر للتصدع داخل المجتمع الإسرائيلي حول الخطة الحكومية لتقييد القضاء. حمل هذا الصدام طاقات للتوسع والتصاعد، وعكس عمق التصدعات في المجتمع الإسرائيلي، والتداخل البنيوي بين التصدعات السياسية والدينية والإثنية.
كانت المرة الأولى في تاريخ إسرائيل تلغي المحكمة "قانون أساس" سنّه الكنيست
عملية "طوفان الأقصى" والحرب على غزة خففت، ولو بشكل مؤقت، حدة هذا الصراع والتصدع داخل المجتمع الإسرائيلي، بسبب حالة الطوارئ والهلع. إلا أن التصدع عاد إلى الواجهة بداية العام الجديد، بعد أن أصدرت المحكمة العليا في الأول من يناير/كانون الثاني الحالي قرارها بإلغاء تعديل "قانون أساس: القضاء" لإلغاء "حجة المعقولية"، بأغلبية 8 مقابل 7 قضاة، معتبرة أن الكنيست تجاوز سلطته "التأسيسية (الدستورية)"، وأن القانون يحد من صلاحيات السلطة القضائية. ويعتبر قرار المحكمة سابقة قضائية بحيث كانت هذه أول مرة في تاريخ إسرائيل تلغي المحكمة "قانون أساس" سنّه الكنيست.
يرى العديد من السياسيين والمحليين في إسرائيل علاقة مباشرة بين عملية "طوفان الأقصى" والحرب على غزة، وبين التصدع السياسي الداخلي في العام الأخير في إسرائيل. ويدور النقاش حول عملية "طوفان الأقصى"، وتحميل بنيامين نتنياهو وحكومته المسؤولية المباشرة عن الإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر، وتبعات الحرب على غزة.
وهو امتداد للنقاشات التي كانت قائمة في المجتمع الاسرائيلي وللتصدع السياسي في العام الأخير. قرار المحكمة العليا إلغاء قانون حجة المعقولية يضاف الآن إلى محاور التصدع القائم ويتشابك مع حالة الحرب على غزة.
اعتراض على التوقيت
معسكر اليمين الحاكم لم يفاجأ بمضمون قرار المحكمة العليا. وبدل خوض معركة حول ماهية القرار، كان الانتقاد الأساسي حول توقيت نشر قرار خلافي يمكن أن يضعف الوحدة الداخلية وقت الحرب، في محاولة لكسب اليمين للرأي العام ضد قرار المحكمة. بذلك يعمل اليمين على استغلال حالة الحرب للطعن في قرار المحكمة.
في تعليقه على قرار المحكمة، قال وزير القضاء، ياريف ليفين، إن "قرار قضاة المحكمة العليا بنشر الحكم أثناء الحرب، يناقض روح الوحدة المطلوبة هذه الأيام لنجاح مقاتلينا على الجبهة".
واعتبر أن القضاة "استأثروا لنفسهم فعلياً بجميع الصلاحيات التي من المفترض أن تكون مقسمة بشكل متوازن بين السلطات الثلاث في الأنظمة الديمقراطية". وشدّد ليفين على أن "الحكم، الذي لا مثيل له في أي ديمقراطية غربية، لن يضعفنا. ومع استمرار المعركة على مختلف الجبهات، سنواصل ممارسة ضبط النفس".
حزب الليكود قال إنه "من المؤسف أن المحكمة العليا اختارت إصدار حكم في مسألة تقع في قلب الخلافات في إسرائيل، في الوقت الذي يقاتل فيه جنود الجيش الإسرائيلي من اليمين واليسار ويخاطرون بحياتهم في المعركة. قرار المحكمة يتعارض مع إرادة الشعب في الوحدة، خصوصاً أثناء الحرب".
بن غفير: المحكمة العليا قررت إضعاف معنويات المقاتلين في غزة
بدوره، اعتبر وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، أن "المحكمة العليا قررت إضعاف معنويات المقاتلين في غزة وإيذاءهم أولاً قبل كل شيء". وأضاف بن غفير أن "حكم المحكمة العليا غير قانوني، ويتضمن إلغاء قانون أساس بشكل غير مسبوق، في ظل غياب مصدر للصلاحيات الدستورية، في حين أن القضاة لديهم تضارب في المصالح. وهذا حدث خطير وغير ديمقراطي، وفي هذا الوقت، حكم العليا يضر بالمجهود الحربي الذي تقوم به إسرائيل ضد أعدائها".
وزير المالية بتسلئيل سموتريتش قال إن "قضاة المحكمة منفصلون عن الواقع. لا ينبغي نشر الحكم الآن، ولن نسمح لإيستر حيوت (رئيسة المحكمة العليا السابقة) بتقسيمنا. كل شعب إسرائيل منهمك الآن في حرب غزة ومتأهب على حدود الشمال. هذا وقت غير مناسب لقرارات تضرب الوحدة. في هذا الوقت يجب أن نضع جانبا القضايا التي تفرقنا. بعد الحرب وإزالة تهديد حماس وحزب الله سنتعامل مع هذه المواضيع بمسؤولية ووحدة".
استخلاص عِبَر 7 أكتوبر
في المقابل يدعم معارضو الخطة الحكومة لتقييد القضاء قرار المحكمة، ويتعامل مع قرارها بأنه جزء من عملية استخلاص العبر المفروض إجراؤها داخل المجتمع الإسرائيلي ومؤسسات صناعة القرار، حول الإخفاق الكبير في 7 أكتوبر.
رئيس "المعسكر الرسمي" الوزير في مجلس الحرب، بني غانتس، دعم قرار المحكمة بإلغاء القانون، وقال: يجب احترام القرار، ويجب استيعاب الدرس من سلوك العام الماضي. نحن إخوة، ولدينا جميعا مصير مشترك. هذه ليست أياما ملائمة للجدل السياسي، فلا يوجد فائزون وخاسرون اليوم. وبعد الحرب، من الضروري تنظيم العلاقة بين السلطات وسنّ قانون أساس "القضاء" لترتيب مكانة المحكمة العليا والسلطة القضائية.
كذلك دعم رئيس المعارضة يئير لبيد قرار المحكمة وقال إن "قرار المحكمة العليا يختم سنة صعبة من الصراع الذي مزّقنا من الداخل وأدى إلى الكارثة الرهيبة في تاريخنا. مصدر قوة دولة إسرائيل، أساس القوة الإسرائيلية، هو حقيقة أننا دولة يهودية، ديمقراطية، ليبرالية، تلتزم بالقانون. لقد قامت المحكمة العليا بأمانة بدورها اليوم في حماية مواطني إسرائيل. نحن نمنح المحكمة العليا الدعم الكامل. إذا بدأت الحكومة الإسرائيلية النزاع حول المحكمة العليا مرة أخرى، فهم لم يتعلموا شيئاً من السابع من أكتوبر، لم يتعلموا شيئا من 87 يوماً من الحرب من أجل الوطن".
التداخل بين التصدع السياسي والحرب على غزة
قرار المحكمة أعاد، ولو بشكل جزئي، أجواء التصدع السياسي التي سادت في إسرائيل قبل الحرب على غزة. ردود الفعل توضح محاولة الأطراف استغلال حالة الحرب والإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر، لدعم مواقفه تجاه قرار المحكمة. الحرب على غزة لم تلغ التصدع ولم تنه الخلافات القائمة في المجتمع الإسرائيلي، إنما أجّلتها لفترة ما، وأضافت إليها محور الإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر.
تحالف اليمين يسعى إلى تأجيل المعركة على خطة تقييد القضاء إلى ما بعد الحرب، ويربط بين استخلاص العبر من الإخفاق الكبير والتصدع السياسي وقرار المحكمة إلغاء قانون حجة المعقولية. بذلك يرهن خطة تقييد القضاء واستمرار حكم اليمين بنتائج الحرب.
تحالف اليمين يسعى إلى تأجيل المعركة على خطة تقييد القضاء إلى ما بعد الحرب
ويسعى المعسكر المعارض إلى تحويل عملية "طوفان الأقصى" والحرب على غزة، إلى جزء من حملته ضد الخطة الحكومية لتقييد القضاء، عبر الإشارة إلى العلاقة بين "طوفان الأقصى" والتصدعات التي سادت المجتمع الإسرائيلي في العام الماضي.
من الواضح أن معسكر اليمين الذي شكل التحالف الحكومي بشكل حصري لغاية السابع من أكتوبر، لم يتنازل عن رؤيته لتغيير التوازن القائم بين سلطات الحكم في إسرائيل وتقييد السلطة القضائية. هذا المعسكر يقول إن الوقت غير مناسب الآن للخوض في صراع داخلي في ظل الحرب على غزة، ويحاول تأجيل الصراع لليوم التالي للحرب.
هذا الربط بإمكانه إعادة ترتيب المشهد السياسي في إسرائيل، بحيث يمكن أن يؤدي إلى إعادة تنظيم حدود المعسكرات، فمن يرى أن قضية الاحتلال ومصير دولة إسرائيل هما المحور الأخطر والأهم بعد الحرب، كما يدعي نتنياهو واليمين، قد يعيد تموضعه ويتبنى موقف معسكر التحالف الحكومي حتى لو عارض لغاية الآن الخطة الحكومية لتقييد القضاء، تحت حجة أن الأخطر والأهم هو ما يوحد المجتمع الإسرائيلي ويجب تأجيل كافة المعارك الأخرى.
نتنياهو يعمل على بلورة هذه العلاقة من الآن، بواسطة رفضه مناقشة الترتيبات السياسية لليوم التالي للحرب، وإبراز الخلافات مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حول هذه النقطة، بل إبراز خلافه مع المؤسسة العسكرية في هذا الجانب أيضاً.
نتنياهو قدّر أن قرار المحكمة سيكون إلغاء قانون حجة المعقولية وبدأ ببناء سردية سياسية تضع محور الاحتلال ومستقبل دولة إسرائيل في لبّ النقاش السياسي، وعلاقة ذلك بالخطة الحكومية لتقييد القضاء.
نتنياهو سيربط بين أي اقتراح لليوم التالي للحرب على غزة، وأي تصور لكيفية إدارة القطاع أو إنهاء الصراع، مع الخطة الحكومية لتقييد القضاء، من ضمنها قرار المحكمة بإلغاء قانون حجة المعقولية. ولن يتردد في توسيع التصدع داخل المجتمع الإسرائيلي للبقاء في منصبه، كما أنه سيحاول إطالة أمد الحرب لنفس الهدف.
قد يكون اغتيال القيادي في "حماس" صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت بهذا التوقيت، جزءاً من حملة نتنياهو لإطالة أمد الحرب، ومحاولة لتغيير وحذف النقاش الحالي في إسرائيل حول قرار المحكمة، وحول تعثر تحقيق نتائج عسكرية استراتيجية على أرض المعركة.