استمع إلى الملخص
- التحديات والأخطاء: واجهت حماس تحديات في إدارة الهجوم، خاصة في احتجاز رهائن إسرائيليين، وصعوبة ترجمة الإنجاز الميداني إلى سياسي، وغياب الدعم الإقليمي والدولي، مما صب في صالح المناورات التفاوضية الإسرائيلية.
- الخطط المستقبلية: تشمل خطط حماس المستقبلية توحيد الجهود الفلسطينية، ابتكار أدوات تناسب "صراع الإرادات"، وتعزيز الروابط الداخلية، وتطوير استراتيجية متكاملة تشمل المقاومة والتفاوض والدبلوماسية، مع التركيز على عدم استنزاف المجتمع الفلسطيني.
كشف هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على غلاف غزّة (7 /10 /2023) عن قدرة المقاومة الفلسطينية على إرباك الاستراتيجية الإسرائيلية، وإظهار أوجه قصورها الكثيرة، كما أثار الهجوم المباغت تساؤلات عميقة بشأن "سياسات" حماس، وقدرتها على بلورة "استراتيجية تحرير وطني"، ولا سيما في ثلاثة مستويات، هي: أولها؛ دوافع شنّ هجوم السابع من أكتوبر، وثانيها؛ تكتيكات حماس في إدارة هذه الحرب، خصوصاً الرهان على إنجاز "صفقة تبادل" لتحرير الأسرى الفلسطينيين، وثالثها؛ خطط حماس المستقبلية لما بعد الهجوم، وكيفية تعاملها مع تحديات ما بعد الحرب.
بغية تحليل السياسات المستقبلية لحماس، يمكن التوقف أمام ثلاث ملاحظات؛ أولاها تأكيد أن اختلاف التقويمات حول هجوم السابع من أكتوبر وتداعياته، على مسار قضية فلسطين، يعكس "أمراً طبيعياً"، بالنظر إلى توقيت الهجوم الحاسم، وتوظيف إسرائيل له، مدعومة بالمواقف الأميركية والدولية، لبلوغ هدف تصفية القضية الفلسطينية بكل أركانها، في ظلّ "المرحلة الانتقالية"، التي يمرُّ بها النظامان الدولي والإقليمي.
وبهذا المعنى لم يكن قرار هجوم 7 أكتوبر، خاطئاً، من حيث المبدأ؛ إذ جاء في سياق ضرورة مقاومة تحولات المشروع الصهيوني بعد صعود "الصهيونية الجديدة"، ذات الطابع القومي/الديني، وتخلّي إسرائيل عن سياسات إدارة الصراع أو "تجميده"، والتوجّه نحو مرحلة "حسم الصراع"، بالتهجير والإبادة للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزّة، مع استمرار حصار غزّة وعزلها تماماً عن الجسد الفلسطيني، ومنع أي احتمال لتوحيد الساحات، (كما حدث إبان سيف القدس في مايو/أيّار 2021).
يتعلق التحدي الثالث بأن تعمل فصائل المقاومة على ابتكار أدوات وآليات تناسب مستوى "صراع الإرادات والشعوب"
ووفقاً لهذا الفهم، يمثّل طوفان الأقصى "قطيعة حاسمة" مع سياسات حماس قبله؛ إذ كان متاحاً خيار الإبقاء على "التوازن الهش" مع إسرائيل لوقت طويل، لكنها اختارت بوضوح إرباك نظام الهيمنة الإسرائيلي، وضرب الردع الإسرائيلي، واستعادة "زمام المبادرة".
تتعلق الملاحظة الثانية بأخطاء حماس في إدارة هجوم السابع من أكتوبر، وتداعياته اللاحقة، ولا سيما احتجاز رهائن إسرائيليين لمبادلتهم بالأسرى الفلسطينيين، على ضوء متغيرين؛ أحدهما صعوبة ترجمة الإنجاز الميداني لفصائل المقاومة إلى "إنجاز سياسي فوري"، أي تحقيق كلّ مطالب المقاومة "دفعة واحدة" (أو صفقة "الكلّ مقابل الكلّ"، بمعنى تحرير جميع الأسرى الفلسطينيين)؛ بسبب غياب، الظهير الإقليمي والدولي، سواء في قضية الأسرى أم غيرها، ما يصبّ، في النهاية، لصالح المناورات التفاوضية الإسرائيلية، خصوصاً مع بروز قدرة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزراء اليمين المتطرف، على تهميش قضية "المحتجزين"، من دون دفع أثمان داخلية كبيرة، وترويجه أن البلاد تخوض "حرباً وجودية ضد التهديد الإيراني، وأذرعه في المنطقة".
والآخر ميل الإدارة الأميركية إلى تبني المواقف الإسرائيلية بالكامل ودعمها، ولا سيما في تحميل حماس مسؤولية تعطيل إبرام صفقة تبادل، على الرغم من مناورات واشنطن التفاوضية؛ التي كانت ترمي بوضوح إلى إطالة أمد المفاوضات، وعرقلة أية تدخلات إيرانية أو لبنانية أو يمنية أو عراقية لدعم حماس، إضافة إلى إرهاقها وحاضنتها الاجتماعية/الشعبية، تحت وطأة تصاعد المجازر الإسرائيلية بحق المدنيين، واستخدام أسلحة التجويع والحرمان من الرعاية الصحية والنزوح المتكرر، بغية إرغام حماس على الاستسلام للشروط الإسرائيلية.
واستطراداً، يبدو صعباً تكرار صفقة "وفاء الأحرار" (18 /10 /2011)، التي حرّرت 1027 فلسطينياً، مقابل الجندي جلعاد شاليط، لثلاثة أسباب؛ تغيّر الموقف الرسمي المصري من غزّة جذرياً، بعد انقلاب الثالث يوليو/تموز 2013. وهشاشة الإطار العربي، ومجمل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. وتصاعد الدعم الأميركي لإسرائيل في سنة انتخابية حاسمة.
تتعلق الملاحظة الثالثة بخطط حماس المستقبلية، وكيفية تعاملها مع ثلاثة تحديات؛ أولها دور قطاع غزّة في النضال الفلسطيني، وتحميل غزّة وحدها كلفة قيادة المشروع الفلسطيني بكامله، وجذب بقية مكونات الشعب الفلسطيني (في الضفة الغربية، وفلسطينيي 48، وفلسطينيي الخارج) إلى مشروع مقاومة شاملة لكسر آليات الهيمنة الكولونيالية الإسرائيلية على مجمل فلسطين التاريخية.
وعلى الرغم من صمود فصائل المقاومة في قطاع غزّة، وتضحيات الغزيين ووعيهم بمخططات التهجير الصهيونية، يقتضي منطق التحرر الوطني النجاحَ في تعبئة باقي فئات الشعب الفلسطيني، بغية تخفيف الأعباء عن القطاع المحاصر، وتشتيت قوات الاحتلال وإرباك مخططاتها ومشاريعها. يبدو مستحيلاً في هذا السياق الحديث عن استراتيجية وطنية (أو حمساوية) من دون أن تضغط كل الأطراف الفلسطينية الحريصة على خروج المشروع الوطني من أزمته الممتدّة نحو "وحدة وطنية"، بغية تجاوز الانقسام القائم بين الضفة الغربية وقطاع غزّة، وإعادة تجميع القوى الفلسطينية، لتوحيد القيادة الفلسطينية، لتكون مرجعية وطنية للعمل السياسي والنضالي الفلسطيني بعد وقف العدوان؛ فالوحدة الوطنية هي أهم أوراق القوة الفلسطينية، في هذه المرحلة الصعبة التي تشهد مستوى غير مسبوق من الضغوط الأميركية/ الإسرائيلية/ المصرية، على فصائل المقاومة (بل حتى على السلطة في رام الله)، ما يطرح بدوره سؤالاً مستقبلياً مهماً حول أهمية التفكير في سبل توسيع الصراع إلى الضفة الغربية والقدس المحتلة، بدل استفراد إسرائيل بأهالي غزّة، ودراسة نماذج انتفاضة 1987، وأنماط مقاومة حي الشيخ جراح، وباب العامود، وبيتا، وكذا وحدة الساحات في عملية سيف القدس 2021، واستخلاص دروسها جميعاً، في بلورة "استراتيجية تحرير وطني شاملة".
بهذا المعنى لم يكن قرار هجوم 7 أكتوبر، خاطئاً، من حيث المبدأ؛ إذ جاء في سياق ضرورة مقاومة تحولات المشروع الصهيوني بعد صعود "الصهيونية الجديدة"
يتعلق التحدي الثاني بضرورة أن تفكّر المقاومة في البحث عن أدوات ضغط مختلفة ومتنوّعة، لتحرير الأسرى الفلسطينيين، بدل تدفيع المدنيين العزّل كلفة ذلك؛ فلا مناص من إخراج المدنيين الفلسطينيين من تبعات الصراع مع إسرائيل، التي تضغط على المقاومة عبر ارتكاب المجازر بحقّهم وتجويعهم؛ إذ لا يشكّل قطاع غزّة "قاعدة ارتكاز آمنة"، (مقارنة مثلاً ببيروت في حالة حزب الله).
يتعلق التحدي الثالث بأن تعمل فصائل المقاومة على ابتكار أدوات وآليات تناسب مستوى "صراع الإرادات والشعوب"، (مثل مسيرات العودة 2018)، ما يستلزم استنهاض إرادة المجتمع الفلسطيني (عبر تعزيز روابطه وعلاقاته الداخلية وشبكاته الاجتماعية والطلابية والنقابية ولجانه الشعبية ومبادراته الشبابية... إلخ)، توطئةً لخوض "صراع اجتماعي سياسي ممتدّ"، (ربما يتشابه نسبياً مع نموذج انتفاضة 1987، وآلياته في الإبداع التنظيمي الاجتماعي)، بغية شلّ "الأدوات الفعّالة" في تنفيذ المشروع الصهيوني، وأهمها الأدوات العسكرية/ الأمنية/ الاستخبارية /تسليح المستوطنين.. إلخ.
واستطراداً، تحتاج حماس إلى إعادة النظر في شكل العلاقة بين مكوناتها العسكرية والسياسية والإعلامية، و"توزيع الأدوار" بينها، وتوظيف معادلات التشدد والاعتدال لخدمة سياساتها، وتحديد نوعية استراتيجيتها النضالية (دفاعية أم هجومية؟). وإذا كان هجوم السابع من أكتوبر قد عكس ثِقل كتائب القسّام في قرار حماس، على حساب المكتب السياسي، فإن أية استراتيجية مستقبلية عليها إيجاد علاقةٍ تكامليةٍ بين أدوات المقاومة والتفاوض والدبلوماسية والإعلام على أرضية توافقاتٍ وطنيةٍ فلسطينيةٍ.
يبقى القول إن امتلاك حماس لاستراتيجية متكاملة ليس مرهوناً بفعلها وحدها، وإنما بتطوير النضال الفلسطيني برمته، ولا سيما في تعامله مع مفهوم "إدارة الصراع" مع إسرائيل، على مستويين؛ أحدهما عدم السماح بأن تؤدي حروب غزّة المتكررة، إلى "استنزاف/إضعاف" المجتمع الفلسطيني، على نحو يفضي إلى خسارته كثيراً من العناصر اللازمة لمعركة "النفس الطويل" مع الاحتلال. والآخر تطوير "دبلوماسية انخراط" في علاقات إقليمية ودولية أقوى، على الصعيدين الرسمي والشعبي، كي يجني الشعب الفلسطيني ثمار معركة "عولمة" قضية فلسطين، في النهاية.