أعلنت الحكومة الإسرائيلية عند إقامتها قبل عام أنها ستحافظ على "الوضع القائم"، في المجالات السياسية الخلافية، وكل ما يتعلق بقضية الاحتلال، بغية عدم تهديد تماسك التحالف الجديد، الذي جمع بين أحزاب متناقضة سياسياً وأيديولوجياً. إلا أن مراجعة سياسة وتصرفات حكومة بينت-لبيد تجاه احتلال الضفة الغربية وغزة تظهر أن الحكومة تعمل منذ إقامتها، بشكل فاعل ومنهجي، على توسيع وتعزيز المستوطنات، والسيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، وإطلاق عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين، بهدف السيطرة على أراضي فلسطينية، وفرض أجواء الخوف والرعب لدى الفلسطينيين، وكذلك استعمال عنف الجيش الإسرائيلي كأداة لترهيب وردع الفلسطينيين، لمنع تطور احتجاج فلسطيني، أو هبة شعبية ضد الاحتلال.
يتناول هذا المقال استعمال الحكومة الحالية عنف المستوطنين في الأراضي المحتلة كأداة عنف غير رسمية، لتحقيق أهداف سياسية، إلى جانب عنف قوات الاحتلال، كي لا تُتَهم الحكومة أو قوات الجيش الإسرائيلي بذلك، أو بأنها تبادر لتغيير الوضع القائم. بذلك نرى أن أهداف الحكومة الحالية وأدواتها تنسجم مع رؤية وأهداف اليمين المتطرف، التي تعني المزيد من مصادرة الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس، وطرد وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، والمزيد من الجرحى والقتلى على يد قوات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين. هذه السياسة تخدم مصالح تيارات المستوطنين، الذين باتوا أقرب إلى نقل تجربة الاستعمار الاستيطاني، الذي وقع عام 1948، إلى المناطق المحتلة عام 1967، أي إعادة تجربة المحو والاستبدال، التي وقعت في الـ 48، إلى مناطق الضفة الغربية.
تؤكد تقارير حركة "السلام الآن" أنه منذ تشكيل حكومة الحالية هناك تعزيز للنشاط الاستيطاني ودعمه وتوسيعه، منها إقرار خطة للبناء في منطقة 1E، التي يمكن أن توجه ضربة قاتلة لحل الدولتين؛ بناء جديد في مدينة الخليل؛ إصدار مناقصات لبناء 1,355 وحدة سكنية في المستوطنات؛ بناء 731 وحدة سكنية في مستوطنة أريئيل؛ إقرار بناء في "غفعات عمتوس" (تلة الطيارة) في القدس الشرقية. كما صادق مجلس التخطيط في الإدارة المدنية على بناء ما يقارب 3,000 وحدة سكنية في المستوطنات، وإقامة مستوطنة جديدة في عطروت؛ مطار عطروت/ قلنديا القديم.
زيادة البناء في المستوطنات، وبناء مستوطنات جديدة، تحت غطاء توسيع المستوطنات القائمة، وإنشاء البؤر الاستيطانية، وزيادة عدد المستوطنين من قبل الحكومة الحالية، مثل الحكومات السابقة، يوضح أن الحكومات الإسرائيلية تواصل جهودها لتغيير التوازن الديموغرافي في الأراضي المحتلة، وقضم أراضٍ فلسطينية بذرائع وحجج متنوعة، وبذلك وضع صعوبات ومنع أي إمكانية لتفكيك المستوطنات في أي تسوية سياسية مستقبلية، أو العودة إلى خطوط الرابع من حزيران 67. هذه السياسيات توضح أن الحكومة الحالية تعبر عن تطلعات اليمين الاستيطاني، وتعمل أيضاً على فرض الحقائق على الأرض، وتثبيت الوضع الراهن، مما يساهم في استدامة وتعزيز الاحتلال، والسيطرة على الأراضي الفلسطينية. لتحقيق ذلك؛ تستعين الدولة أو تتواطأ مع العنف الذي يمارسه المستوطنون ضد السكان الفلسطينيين.
عنف المستوطنين
وفقاً لتقارير حركة "السلام الآن" لا يكاد يمر يوم دون اعتداء من المستوطنين على الفلسطينيين، وخاصة المزارعين وممتلكاتهم. هذا يحصل دون أن تحرك الحكومة ساكناً، ودون أي رد فعل أو تصريح من قبل وزير الأمن وغالبية أعضاء الحكومة، وكأنه بالإمكان تجاوز كل هذه الممارسات بالصمت. يشمل عنف المستوطنين الاعتداءات الجسدية، الضرب، إلقاء الحجارة، التهديدات، حرق الأراضي الزراعية، سرقة محاصيل زراعية، إلحاق أضرار بالمنازل، وتدمير سيارات، وفي بعض الحالات القتل، وفقاً لتقارير مركز "بتسيلم".
يتم عنف المستوطنين بدعم كامل من الدولة، أو تواطئها، وبمشاركة ومساعدة ممثليها، كجزء من خطوات نظام الفصل العنصري الإسرائيلي الاستراتيجية. ترى صحيفة "هآرتس" أن الهدف من هذه الخطوات، خاصة عنف المستوطنين تجاه الفلسطينيين، المسمى بـ "انفلات أفراد"، واضح ومعلن؛ طرد الفلسطينيين من الحيز العام ومن الحيز الخاص، وبعدها الاستيلاء على دونم آخر ونبع جديد وبئر مياه إضافية.
توضح منظمة "بتسيلم" أن عنف المستوطنين جزء من آليات الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وأن الدولة تسمح للمستوطنين بالبقاء في الأراضي التي سُرقت بالقوة من الفلسطينيين. فعلى سبيل المثال؛ أقيمت عشرات البؤر الاستيطانية و"المزارع الزراعية"، وهي مستوطنات بكل معنى الكلمة، لكنها دون اعتراف حكومي رسمي بذلك، ومع ذلك تتلقى الدعم والميزانيات من أذرع ومؤسسات السلطات الإسرائيلية، ولا يُقدم أحد على إخلائها، ومؤخراً قررت الحكومة ربط هذه البؤر الاستيطانية بالكهرباء.
يمتنع الجيش، كسياسة، عن مواجهة المستوطنين العنيفين، رغم سلطة وقدرة الجنود على اعتقالهم. بشكل عام، يفضل الجيش إبعاد الفلسطينيين عن أراضيهم الزراعية أو مراعيهم، بدلاً من مواجهة المستوطنين، إما عن طريق إصدار أوامر بمنطقة عسكرية مغلقة، تنطبق فقط على الفلسطينيين، أو بإطلاق الغاز المسيل للدموع، والقنابل الصوتية، والرصاص المعدني المغلف بالمطاط، وحتى الرصاص الحي. وفي بعض الحالات يشارك جنود الاحتلال بأنفسهم في اعتداءات المستوطنين، أو يراقبونهم من بعيد دون فعل أي شيء.
بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، في الأشهر العشرة الأولى من عام 2021 كان هناك 410 اعتداءات من قبل المستوطنين ضد الفلسطينيين (302 ضد الممتلكات و108 ضد الأفراد)، وقُتل أربعة فلسطينيين على أيدي مستوطنين في نفس العام. وكان هناك ما مجموعه 358 اعتداء مسجلاً، و335 هجوماً خلال عام 2019. وفقاً للتقارير، فإن اعتداءات المستوطنين موجهة بشكل أساسي ضد العائلات الفلسطينية القروية، التي تعيش في مزارع صغيرة، أو في قرى وبلدات داخل الضفة الغربية المحتلة، المحاذية للمستوطنات الإسرائيلية. والكثير من هؤلاء الفلسطينيين يعيشون في منطقة "ج"، الخاضعة للسيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية الكاملة، حيث تتجلى حيلة الضم الإسرائيلية بشكل أوضح.
يشير رصد مؤسسة "ييش دين" إلى أنّ جهاز تطبيق القانون الإسرائيليّ يُخفق بشكل بنيويّ ومُمنهَج في القيام بواجبه، وفق القانون الدَّوليّ بحماية الفلسطينيّين من عنف المستوطنين. ويسمح غياب تطبيق القانون بمواصلة ارتكاب الجرائم الأيديولوجيّة في الضفّة الغربيّة، وبقيام إسرائيل بتطبيع ممارسة العنف ودعمه.
غياب تطبيق القانون في وجه الجرائم التي يرتكبها إسرائيليّون ضدّ فلسطينيّين يسمح بارتكاب جرائم إضافيّة
في إطار الرصد الذي تجريه مؤسسة "ييش دين"، فُحص 1,395 ملفّ تحقيق فُتحتْ منذ عام 2005 لغاية عام 2021، في لواء “شاي” (الضفة الغربية) التابع للشّرطة الإسرائيليّة، وانتهت معالجتها، وذلك في أعقاب شكاوى قدّمها متضرّرون فلسطينيّون. وقد أُغلق 1,279 ملفاً مع انتهاء التحقيق فيها من دون تقديم لائحة اتّهام (أي 92% من الملفات)، فيما لم تُقدّم لوائح اتّهام إلّا في 116 ملفاً (8% من الملفات). تشير نسبة الإخفاقات المرتفعة إلى وجود فشل بُنيويّ متواصل لدى وكالات تطبيق القانون، في معالجتها للجريمة الأيديولوجيّة الموجّهة ضدّ الفلسطينيّين في الضفة الغربيّة. وفي المجمل، نرى أنّ نسبة الملفات التي فُتحت بخصوص الجرائم الأيديولوجيّة المرتكَبة ضدّ فلسطينيّين في الضفة الغربيّة، منذ عام 2005، والتي أفضت في نهاية الأمر إلى إدانة المتهمين، بلغت 3% فقط (52 ملفّاً).
تُضاف إلى ذلك المعطيات التي أوردتها الشرطة الإسرائيليّة لمؤسسة "يش دين"، بخصوص 732 ملفّ تحقيق فُتحت في لواء “شاي” بين 2018 – 2020، تركّزت حول "أعمال شغب إسرائيليّة، وجرائم قوميّة يهوديّة". وكان المتضرّرون في نصف هذه الأعمال تقريباً (369 ملفّ تحقيق) من الفلسطينيّين. وتتطرّق الملفات التي لم يكن المتضرّرون منها من الفلسطينيّين بشكل خاصّ إلى جنح ومخالفات ارتُكبت ضدّ قوّات الأمن، والقليل منها يتطرّق إلى الإخلال بأوامر إداريّة، وإلحاق الأذى بمواطنين إسرائيليّين، وبأجانب (ناشطين). في الحالات التي كان فيها المتضرّر فلسطينيّاً قُدّمتْ 11 لائحة اتّهام (3% من مُجمل الملفّات)، لكن في الحالات التي لم يكن المتضرّر فلسطينيّاً قُدّمت 70 لائحة اتّهام (19%). أي احتمالية توجيه سلطات القانون الإسرائيليّة لوائحَ اتهام ضدّ إسرائيليّ ألحق الأذى بأشخاص ليسوا فلسطينيّين في الضفة الغربيّة (أفراد قوّات الأمن وآخرين) أعلى بستّة أضعاف من احتمال تقديم لائحة اتهام ضدّ إسرائيليّ ألحق الأذى بفلسطينيّ.
غياب تطبيق القانون والردع في وجه الجرائم الأيديولوجيّة التي يرتكبها إسرائيليّون ضدّ فلسطينيّين يسمح بارتكاب جرائم إضافيّة تجاه سُكّان غير مَحميّين. ويُضاف إلى ذلك أنّ سياسة تطبيق القانون التي تنتهجها إسرائيل ضدّ عنف المستوطنين تُبطل أيّ إمكانية ردع ضدّ المُجرمين، وتشير إلى أنّ إسرائيل شريكة في العنف المُوجَّه ضدّ الفلسطينيّين، وهي مسؤولة عنه.
مزيج من العنف الرسمي وغير الرسمي يسمح لإسرائيل بالاحتفاظ بمساحة من الإنكار والادعاء بأن "هؤلاء المستوطنين" من يقومون بالعنف من جهة، وتعزيز مصادرة الأراضي الفلسطينية من جهة أخرى. يمكن القول إن عنف المستوطنين يخدم مصالح وأهداف الحكومة الحالية، من دون أن تتحمل الأخيرة المسؤولية المباشرة. بخلاف حكومات نتنياهو، فإن السياسة الحالية تطبق في ظل صمت الأحزاب الصهيونية "اليسارية"، والحزب العربي الشريك في الائتلاف الحكومي، مما يقلل من الانتقادات داخل إسرائيل وفي العالم العربي والساحة الدولية، الأمر الذي يزيد من شهية المستوطنين، واستمرار العنف تجاه الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة عام 1967 ويزيد من حجمه وخطورته.