لاتزال عربة محمد البوعزيزي وأغراضه الخاصة موجودة في مستودع بسيدي بوزيد، في بيت جده هناك، رغم مضي 10 أعوام على الثورة التونسية، حتى إن العربة تحمل آثار النيران التي طاولتها جراء حرق البوعزيزي لنفسه، بحسب تأكيد شقيقه سالم البوعزيزي.
وأكد سالم، في تصريح لـ"العربي الجديد"، اليوم الخميس أنّ شقيقه محمد لم يكن يفكر في الانتحار حرقاً، بل يتذكر أنه وفي آخر زيارة قام بها الراحل محمد إلى بيته في محافظة صفاقس، أخبره يومها بأنه ينوي اقتناء شاحنة ليبيع الخضر والغلال مباشرة، أي بعد أن يتزود بحاجياته من الفلاحين، في محاولة منه للتخلص من ملاحقات أعوان المراقبة الاقتصادية، مشيراً إلى أن محمد كان منزعجاً من المضايقات التي لحقته.
وكشف أنّ شقيقه تخلّى عن دراسته في صف البكالوريا للتكفل بمصاريف دراسة شقيقته التي كانت تدرس بالمنستير، والإنفاق على الأسرة، فحتى وهو يدرس كان يعمل في أوقات الفراغ لمساعدة العائلة، مؤكدًا أنّ "عربة البوعزيزي وأغراضه الخاصة لا تزال موجودة إلى غاية اليوم في مستودع بسيدي بوزيد في بيت الجد، حتى أن العربة تحمل آثار الحروق والنيران التي طاولتها جراء حرق البوعزيزي لنفسه".
أما عن والدته، فيقول سالم إنها لم تعد إلى تونس منذ 5 أعوام، وتعيش رفقة ابنتها في كندا بعد المضايقات التي لحقتها، والإشاعات التي ضايقتها كثيراً من قبيل حصولها على أموال ومساعدات وعقارات، إلى جانب تحميل البعض الأسرة مسؤولية تدهور الأوضاع الاجتماعية جراء حرق البوعزيزي لنفسه والاحتجاجات في العديد من المحافظات، مبيناً أنّ "التاريخ سيكشف العديد من المسائل وحقيقة الإشاعات، ولكن، وإلى حين هدوء الوضع، فربما تعود الوالدة مجدداً إلى تونس".
شعور بالغبن
"سكبت البنزين على جسدي وأضرمت النار، محاولاً وضع حد لحياتي، وكررت العملية مرتين، وفي تلك اللحظة يغيب الشعور بأي إحساس، فعندما يصل الإنسان إلى هذه المرحلة يتجرد من أي تفكير، فالغبن والظلم هما اللذان يحركان الشخص المقدم على الانتحار في تلك اللحظات"، هكذا يتحدث رضا بالراضية، السجين السياسي سابقا، عن محاولتين قام بهما للانتحار حرقاً، في تصريح لـ"العربي الجديد".
وأكد بالراضية أنه أصغر سجين حوكم في عهد زين العابدين بن علي في التسعينيات، وعمره آنذاك 14 عاماً فقط، بتهمة الانتماء لجمعية غير مرخص لها (النهضة حالياً) وقلب النظام، وحرق مركز أمني وتوزيع مناشير.
وخرج بالراضية من السجن في سن الـ20، حيث سجن في زنزانة فردية رغم أنه قاصر، مضيفاً أنه ومنذ الثورة، وبعد 10 أعوام، تحققت عدة مكاسب على مستوى الحريات، حيث كانت الأفواه في النظام السابق مكممة، و"لكننا كسجناء سابقين نالنا بطش النظام. لم نحصل على حقوقنا ولم يتم إنصافنا".
ويوضح أنه "بسبب المماطلات والتسويف والتجاهل، حاولت في مناسبة أولى، وتحديداً في 3 أغسطس/ آب 2015، حرق نفسي أمام مقر محافظة المهدية، احتجاجاً على عدم تنفيذ الحكومة لوعودها في تشغيل المتمتعين بالعفو التشريعي"، مبيناً أنّ "الظلم لم ينقطع، والإحباط متواصل، وتم التلاعب بملف ضحايا الاستبداد، وهو ما دفعني إلى محاولة حرق نفسي مجدداً أمام مقر هيئة الحقيقة والكرامة، لأن ملف العدالة الانتقالية والانتهاكات تم تضخيمه وتعويمه بقبول الكثير من الملفات، ما جعل العديد من القضايا تهمش، إضافة إلى نسج العديد من الإشاعات حول المبالغ التي حصلنا عليها كسجناء سياسيين، في حين أنه يموت منا سنوياً العديد من الأشخاص دون أن يستردوا حقوقهم".
الانتحار حرقاً
ويبين تقرير صادر عن "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، أنه سجل، خلال 2020، 218 محاولة انتحار، منها 9 خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، وأعلاها كانت في شهر مايو/ أيار بـ36 حالة، فيما تمثل حالات الانتحار حرقاً نحو 55.6% من الحالات في تونس.
ولاحظ المنتدى أنّ الانتحار ومحاولات الانتحار تظل شكلاً من أشكال التعبير الاحتجاجي، و"لكن السلطات للأسف لم تدرس الظاهرة، وتحللها لفهمها ووضع حد لأسبابها".
وحوادث الانتحار حرقاً، لم تتوقف في تونس. ففي 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، قامت بائعة فول بحرق جسدها أمام المحكمة الابتدائية بقبلي، جنوبي تونس، بعد أن تم منعها من طرف أعوان البلدية من البيع، وتم نقلها إلى المستشفى وتشخيص الحروق التي طاولت جسدها بالدرجة الثانية.
وتوفي في 8 يوليو/ تموز 2016 الأستاذ المتعاقد في الرياضيات عماد الغانمي من منطقة جبل الأحمر، الحي الشعبي، متأثراً بحروقه البليغة بعد إقدامه على الانتحار حرقاً، إذ بعد أن تولت وزارة التعليم العالي طرد 2500 أستاذ متعاقد، اضطر عماد لبيع السجائر لإعالة أطفاله، ولكن تم حجز بضاعته.
ورغم أنّ عماد قاد العديد من التحركات الاحتجاجية أمام وزارة التعليم العالي، إلا أنّ شعوره بالظلم والقهر دفعه إلى الانتحار.
وأكد شقيقة عماد، شريفة الغانمي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه رغم مضي 4 أعوام على إقدام شقيقها على حرق نفسه، تماماً مثل البوعزيزي، إلا أن تفاصيل الحادثة تتجدد في كل ذكرى وكأنها حصلت بالأمس، مبينة أنها باتصالها بزملائه الأساتذة المتعاقدين، فإنّ الوضع لم يتغير بعد هذه الأعوام، إذ "لا يزالون يعانون نفس الإقصاء والتهميش، ووضعياتهم المهنية لم تسوّ".
وأضافت أنّ أبناء الراحل الثلاثة، أكبرهم عمره 14 عاما حالياً، وأصغرهم 8 أعوام، بدأوا يستوعبون حقيقة وفاة والدهم، وبمجرد أن عرفوا أنه مات حرقاً صدمهم الخبر، وهم يعيشون الألم مرتين، مشيرة إلى أن "وضع أسرته صعب، ولا تزال أرملته تركض وراء المحامين لاسترجاع حق زوجها، ولكن لا جديد".
وذكرت الغانمي أنّ شقيقها أقدم على الانتحار "في لحظة يأس، رغم أنه كان ينتقد بشدة إقدام البوعزيزي على حرق نفسه، ويرى أنّ الانتحار سلوك غير مقبول، ولكنه لم يتوقع يوماً أن يحصل له نفس السيناريو، ويموت بنفس الطريقة وكأنّ لعنة البوعزيزي تلاحق المهمشين".
في السياق، أقدم نور الدين، وهو عامل حراسة بجامعة المنار، على سكب البنزين على جسده في مايو/ أيار 2018 احتجاجاً على تعسف المسؤولين، وإحساسه بالظلم، والقهر نتيجة عدم تسوية وضعيته المهنية بعد مرور عدة أعوام على اشتغاله في الحراسة. وهزت هذه الحادثة الوسط الجامعي والطلبة.
كما أقدم شاب من جندوبة بالشمال الغربي على محاولة الانتحار حرقاً، حيث كشف رئيس غرفة تجار الأعلاف المدعمة بجندوبة، عبد الكريم الخميري، أنّ زميلهم الشاب تعرض للظلم بعد حرمانه من مورد رزقه، مضيفاً، في تصريح إعلامي، في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، أنه لا بد من إنصافه و"إيقاف نزيف المظالم".