تعكس الصورة التي التُقطت في قصر الرئاسة، الخميس الماضي، للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بصحبة عدد من رجال الأعمال، المساهمين في تمويل مبادرة "حياة كريمة" لتطوير الريف، تطور علاقة النظام برجال الأعمال ومجتمع الصناعة والتجارة المحلي، والتي حملت عدداً من المفاجآت، بظهور بعض الأشخاص الذين كانوا لفترة طويلة على خلاف مع النظام.
على رأس هذه المفاجآت، رجل الأعمال صلاح دياب، مؤسس صحيفة "المصري اليوم"، ونجله توفيق. ويُعتبر هذا الظهور هو الأول لهما مع السيسي في قاعة واحدة. بل تم اختيار توفيق كأحد سفراء المبادرة، بعد أشهر معدودة من الاستيلاء على حصة الأغلبية من أسهم الصحيفة، وإجبار دياب على التخلي عن بعض ممتلكاته وأصوله الأخرى، بسبب سلسلة من التصرفات، التي اعتبرتها أجهزة النظام تقويضاً لسياسات الحكم، وتعبيراً عن "لوبي" معارض داخل الأعمال.
ينتهي الاحتكاك دائماً بين النظام ودياب بمطالبته بدفع مبالغ مالية لتسوية القضايا
ومنذ ثمانية أشهر فقط، كان دياب معتقلاً على ذمة قضية عسكرية لمدة شهر وخمسة أيام، بتهمة البناء على أراضي الدولة من دون ترخيص، والتراخي في تقديم تصالح على المخالفات الموجهة له في بعض قطع الأراضي التابعة لمصنع حلويات كبير يملكه في منطقة البساتين. وتطورت القضايا الصغيرة التي تثار ضد دياب، ووجد نفسه أمام نيابة شرق القاهرة العسكرية، مطالباً بتسوية ملف مخالفات إنشائية في مجمع مصانع "لابوار" للحلويات، الذي يملكه في حي البساتين. وتبيّن من التحقيقات أن محاميه سبق أن عرضوا التصالح في هذه المخالفة، وقبل الرد عليهم أحيلت القضية للنيابة العسكرية.
وينتهي الاحتكاك المتواصل بين النظام ودياب دوماً بمطالبته بدفع مبالغ مالية لتسوية القضايا، ثم تهدئة الأمور. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2015، أمرت النيابة العامة بضبط وإحضار دياب على ذمة قضية المنتجع السكني "نيو جيزة"، بعد التحفظ على أمواله ومنعه من السفر، على عكس المعتاد في القضايا المالية. فالأصل أن هذين التصرفين كافيان للاحتراز من إهداره مال الدولة، أو تصرفه فيه، أو هروبه من التحقيق، وخصوصاً أن دياب مثُل بنفسه خمس مرات أمام النيابة قبل الأمر بضبطه وإحضاره. وانتهت الأزمة بسداده نحو 300 مليون جنيه (الدولار يساوي 15.65 جنيهاً) لحفظ التحقيقات المتهم فيها بالفساد في مجال تسقيع وبيع أراضي الدولة المخصصة للاستصلاح الزراعي، على الرغم من أن النيابة العامة كانت قد طلبت منه سداد 800 مليون جنيه.
وشهدت المحاكم دعاوى أخرى ضد دياب بتهم التجمهر وحيازة الأسلحة، بمناسبة واقعة قديمة تعود للعام 2011 في منطقة معيشته بمنيل شيحة في الجيزة، عندما وقع اشتباك بين بعض الأهالي ورجاله بسبب نزاع على قطعة أرض. ثم حصل فيها على البراءة أيضاً، تزامناً مع تغيير في سياسة "المصري اليوم"، إلى جانب قبوله التبرع لصندوق "تحيا مصر" التابع للسيسي والجيش، لكنه بقي من أقل رجال الأعمال تبرعاً للصندوق. وفي 2019 صدرت قرارات بمنع دياب من السفر، والتحفّظ على أمواله في قضية جديدة تتعلق بمنتجع "صن ست هيلز"، وحصوله على أراضٍ بقيمة أقل من قيمتها الحقيقية والاتجار فيها بأسعار أعلى، وبمخالفة اشتراطات بنائها. وفي نهاية العام اضطر دياب لدفع 270 مليون جنيه لتسوية القضية والتصالح.
لكن ظهور دياب ونجله إلى جانب السيسي في هذه المرحلة المتأخرة من الصدام، يحمل معاني أخرى، بحسب مصادر حكومية مطلعة، أبرزها إجابة وسطاء "غير مصريين"، وعلى رأسهم مسؤولون إماراتيون نافذون، لطلبهم الكف عن ملاحقة دياب، المقرب لهم، وتأكيد "فتح صفحة جديدة معه بعد الحصول على حقوق الدولة منه، متمثلة في التمويل الضخم الذي سيدفعه في مبادرة حياة كريمة، بالإضافة إلى ما سبق وتنازل عنه". ولدياب صلة قرابة وثيقة بالسفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، فهو ابن خالة والدته سامية محمود دياب زوجة الوزير والشاعر مانع سعيد العتيبة.
وثاني رجل أعمال يعد ظهوره مع السيسي حدثاً لافتاً، بعد سنوات من السجن ثم التضييق، هو أحمد عز، أمين التنظيم في "الحزب الوطني" المنحل، والذي كان يُعتبر رأس حربة فلول نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، وتم منعه من الترشح لمجلس النواب في العام 2015. وبعد سنوات من الكمون والتركيز على إحياء أعماله الواسعة والتصدي لمنافسيه المدعومين من الدولة في مجال صناعة الحديد والصلب، بدأ عز منذ عامين تقريباً محاولة الاندماج مع الأوضاع الجديدة، من خلال شراكات محدودة مع الحكومة في بعض القطاعات، بعيداً عن السياسة. ثم جاءت جائحة كورونا لتمنحه الفرصة كاملة، بتقديم عروض للحكومة للمساعدة في إنتاج أسطوانات الأكسجين للمستشفيات، وتمويل استيراد اللقاحات، الأمر الذي مثّل مقدمة مناسبة ليلقي بثقله في مبادرة "حياة كريمة" لتمويل تجهيزات المشاريع الإنشائية.
استطاع هشام طلعت مصطفى أن يضمن موقعاً متميزاً في خريطة الاستثمارات المحلية
ولا يعتبر مفاجئاً ظهور رجال أعمال آخرين إلى جانب السيسي سبق اتهامهم في قضايا كبيرة، كالمدان بالقتل هشام طلعت مصطفى، والذي استطاع من خلال مشاريعه في العاصمة الإدارية الجديدة تحديداً، ولكونه أكبر وأسرع مطور عقاري محلي فيها، واستغنائه عن مساعدات الدولة في العديد من المشاريع الأخرى، أن يضمن موقعاً متميزاً في خريطة الاستثمارات المحلية. كما وقّع منذ بضعة أشهر، على اتفاقية مع وزارة الصحة لتوفير أربعة ملايين جرعة لقاح على بضع مراحل. وتم تسليم التمويل إلى صندوق "تحيا مصر"، الذي يديره الجيش تحت إشراف السيسي، وذلك كله بعد العفو الرئاسي الاستثنائي عنه، بعد قضائه عقداً في السجن لجريمة قتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم.
وكذلك رجل الأعمال أيمن رفعت الجميل، الذي تم حبسه سابقاً وتقديمه للمحاكمة على ذمة اتهامه في قضية الرشوة في قضية وزير الزراعة الأسبق صلاح هلال (لم يُعاقب هو والوسيط بسبب اعترافه على المرتشين وفقاً للقانون المصري)، والذي توطدت، بعد القضية، علاقته بالمخابرات العامة، ودخل في شراكة معها ببعض المجالات، فضلاً عن لعبه دور الواجهة لبعض أنشطتها، وتوسيع أعماله الشخصية في مجال الخدمات اللوجستية والنقل.
وأوضحت المصادر الحكومية أن رجال الأعمال الذين ظهروا مع السيسي قبل حفل المبادرة الخميس الماضي، تبرعوا إجمالاً بأكثر من 6 مليارات جنيه لأنشطة المبادرة، إلى جانب تعاقدهم، مع آخرين، على تمويل مشاريع بقيمة تتجاوز 12 مليار جنيه. ويدير مكتب مدير المخابرات العامة عباس كامل مبادرة "حياة كريمة" لتطوير الريف المصري، بإقامة تنسيق متنامٍ بين السلطة ومجتمع الأعمال، مع الاستعانة بالجيش كجهة إشراف على التنفيذ وتسلم الأعمال في كل قرية، وكذلك الدفع بعدد كبير من خريجي البرنامج الرئاسي لإعداد الشباب للقيادة والأكاديمية الوطنية للتدريب، كمشرفين ومراقبين على تعاملات الجهاز الإداري للدولة، وتبرعات رجال الأعمال وأنشطة المتطوعين. ويعتمد النظام على هذه المبادرة لتوطيد شعبيته في المناطق الريفية، خصوصاً بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2020، التي شهدت احتجاجات في بعض تلك المناطق بالجيزة ومحافظات الصعيد، على خلفية انتشار البطالة والفقر وسوء الأحوال المعيشية، خصوصاً بعد قرارات وقف البناء التي تضرر منها عمال اليومية والنقل ومصانع الطوب (الحجارة).