قبل سنوات قليلة دخلت بعض الأطراف الأوروبية في خلاف مع الحليف الأميركي، بشأن زيادة الإنفاق العسكري على مستوى حلف شمال الأطلسي. وحتى مع التقارير الاستخبارية الغربية عن أهداف الحشود الروسية على تخوم أوكرانيا في خريف 2021، كان التردد واضحاً في تصرف بعض الأوروبيين.
لكن منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022 تغير الحال والخطاب، فعمدت حكومات غربية، بمختلف تلاوينها السياسية، إلى زيادة الإنفاق على عسكرتها.
ليس النموذج الألماني وحده من تجاوز "معارضة العسكرة"، إذ قررت برلين على وقع صدمة غزو أوكرانيا تخصيص 100 مليار يورو لتحديث جيشها بعد تردد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، كما أن دولاً أصغر بكثير، كالدنمارك والسويد وفنلندا وسويسرا ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا وغيرها، زادت إنفاقها العسكري.
الإنفاق العسكري في أوروبا
ففي آخر تقاريره عن زيادة الإنفاق العسكري في أوروبا قدم "معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام" (سيبري)، أول من أمس، بعضاً من صور الاتجاه العام في أوروبا نحو رفع مستوى الإنفاق العسكري خلال عام 2022، وأكثر مما كانوا ينفقونه خلال فترة الحرب الباردة السابقة (1947 ـ 1991)، بزيادة بلغت 13 في المائة خلال الأشهر التالية لغزو أوكرانيا.
وهو ما رفع الإنفاق على التسلح بنحو 2.2 في المائة من الناتج الإجمالي العالمي، رغم أن صرف القارة للأموال تجاوز فعلياً صرفها على جيوشها. فأوروبا عملياً باتت المصدر الرئيس لدعم التسلح الأوكراني، الذي تضاعف، وفقاً لتقرير "سيبري" بنحو 7 مرات، ووصل إلى 44 مليار دولار، أو ما يقدر بثلث ناتجها المحلي الإجمالي. وفي المقابل، رفعت روسيا صرفها على التسلح ليصل إلى حوالي 9 في المائة من ذلك الناتج خلال 2022.
خصص الاتحاد الأوروبي 15 مليار يورو على الأقل، للحفاظ على طرق تأمين الذخيرة
وخصص الاتحاد الأوروبي 15 مليار يورو على الأقل، للحفاظ على طرق تأمين الذخيرة بشكل مشترك، وتظهر التقارير أن أوكرانيا استهلكت الكثير من مخزوناتها خلال الأشهر الـ12 الماضية.
معارضة العسكرة اليوم لم تعد كما كانت في زمن السلم، إذ يبدو أن حمى التسلح أصبحت السمة الطاغية لدول القارة، مع تتالي اجتماعات وزراء دفاع تلك الدول لتحديد سياسة جماعية في مجال التسلح. وفي مارس/آذار الماضي احتضنت السويد، المرشحة لعضوية حلف شمال الأطلسي، واحداً منها، وبدا من تصريحات مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن الخط البياني للعسكرة آخذ في التصاعد.
وركز بوريل على أن أوروبا ستواصل نهجها في إنتاج المزيد من الذخيرة على الأرض الأوروبية وسد النقص الذي تسبب فيه تزويد أوكرانيا. وكانت كييف قد طلبت من الاتحاد الأوروبي تسليم 250 ألف قذيفة مدفعية شهرياً. واقترحت إستونيا خطة بقيمة أربعة مليارات يورو لتزويد أوكرانيا بمليون قذيفة مدفعية على مدى ستة أشهر.
إنتاج الأسلحة والذخيرة
ومنذ أشهر طويلة عادت عجلة إنتاج الأسلحة والذخيرة إلى مصانع كانت مقفلة، كما هو على سبيل المثال حال شركة السلاح الإسبانية (إكسبال)، التي انطلق من خلالها خط إنتاج الذخيرة مجدداً، وغيرها من الشركات التي تحقق اليوم مداخيل هائلة، بعد سنوات من التوقف.
ولعل ما يثير في عودة إنتاج الذخائر أن القطاعات العامة تتولى مسؤولية تأمين بعض الأصول المالية لضمان سرعة سد الحاجة. وذلك أيضاً وسط تسويق التسلح بناء على خطابات تتعلق بـ"العدوانية الروسية"، والإبقاء على التغطية الإعلامية والسياسية للحرب الأوكرانية في يوميات الأوروبيين.
يسود خطاب أوروبي عن أن "صدّ أي هجوم روسي يتطلب تسليحاً آخر"، وهو ما يسوّق مثلاً في دول إسكندنافية زادت من جرعة تسلحها، ونصب صواريخ دفاعية بشكل لم تعهده منذ الحرب الباردة. فمنطقة بحر البلطيق، التي تتقابل فيها القوات الروسية في جيب كالينينغراد والقوات السويدية والدنماركية وأطلسية، باتت اليوم تضم أحدث الطائرات الأميركية (أف ـ 35)، على الأراضي الدنماركية، بينما اتفقت فنلندا المنضوية حديثاً في الأطلسي على شراء 64 طائرة من الطراز نفسه. وإلى جانب تأمين صواريخ دفاعية، تدفع الدول الأوروبية بأحدث مخزوناتها العسكرية نحو أوكرانيا.
وتقوم فلسفة أوروبا على إقناع الرأي العام بقبول تمرير مشرعيهم وساستهم استراتيجية "الصرف السخي" على الأنظمة التسليحية، ومنها تلك المتعلقة بـ"الحرب الهجينة"، كهجمات سيبرانية مدمرة، على اعتبار أن "التكلفة الحالية، ودعم أوكرانيا، أسهل وأقل فداحة من المواجهة المباشرة مع روسيا"، كما لخصت بوضوح رئيسة حكومة الدنمارك ميتا فريدركسن، نيابة عن باقي الأوروبيين.
ويعني هذا أن جهود أوروبا في عام 2022، وصولاً إلى قرارات تزويد أوكرانيا بأحدث الدبابات الألمانية وأنظمة صواريخ أوروبية متعددة الاستخدامات وقذائف مدفعية بكميات كبيرة، جاءت في سياق إبقاء نيران الحرب المدمرة بعيدة عن عمقها.
فقلق بعض الدول القريبة من روسيا، كإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا والدنمارك وفنلندا والسويد والنرويج وأيسلندا، يتعلق بقدرة الروس على الاستهداف الصاروخي لبنيتها التحتية الحيوية، وبالتالي ذهاب دولة مثل السويد إلى تعزيز دفاعاتها بالتنسيق مع أوروبا يتعلق أيضاً بالدفاع عن الدنمارك والنرويج.
ويرى الخبراء في المجالات العسكرية أن روسيا لديها القدرة على استهداف الدول المجاورة، ومطاراتها العسكرية، في حال وقوع مواجهة مباشرة مع أوروبا. ويعترف بذلك المتحدث باسم وزارة الدفاع الدنماركية، راسموس يارلوف، إذ يرى أن بلده "يحتاج لسد الفجوة العسكرية في مجال دفاعه الجوي"، وبالتالي فإن التسلح بمنظومات دفاعية أميركية هو على الأبواب، بعد مفاوضات الأشهر الماضية.
أوروبا مقتنعة بأن دعم أوكرانيا يُبعد الحرب عنها
العسكرة الأوروبية الشمالية وصلت خلال الأشهر الماضية إلى استعادة أسخن فترات أجواء الحرب الباردة بين الغرب والكتلة الشرقية السابقة بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق. وكمؤشر على ذلك ينظر البعض من محللي الشؤون الدفاعية الغربية إلى إعادة تشغيل إحدى أهم قواعد حلف شمال الأطلسي في ثولا في جزيرة غرينلاند الدنماركية، كنوع من الاتجاه العام في قبول عودة التسلح إلى سابق عهده.
فالأميركيون يعودون بقوة إلى ثولا، وفي بحر البلطيق (المتحول فعلياً منذ غزو أوكرانيا إلى بحر للأطلسي) تعود جزيرتا بورنهولم الدنماركية وغوتلاند السويدية لتأدية دور متقدم في مواجهة روسيا، التي باتت تجد نفسها أكثر تماساً مع أوروبا والأطلسي، وبصورة لم تتخيلها ربما القيادة الروسية حين بررت "العملية الخاصة" في أوكرانيا باعتبارها دفاعية ولإبعاد شبح الأطلسي عن حدودها.
موسكو تنصب صواريخ "إسكندر" على أراضي جيب كالينينغراد على بحر البلطيق، ومداها بين 400 و500 كيلومتر، وقادرة على حمل رؤوس نووية. لكن في المقابل، أثمرت جهود التسلح الأوروبي المتزايدة عن مشهد مختلف تماماً.
ففرقاطات أوروبا، بما فيها البريطانية من خارج الاتحاد الأوروبي، باتت اليوم منتشرة بشكل شبه دائم مقابل روسيا، وهي تؤدي أدواراً دفاعية وتجسسية كبيرة. وأدت الحرب الأوكرانية إلى توسع تسلح الدول بمنظومات صواريخ دفاعية قادرة على صد هجمات روسية، ومنها نظام "باتريوت" الأميركي المنتشر في بولندا، والآن في الدول الإسكندنافية، التي تتسلح الآن بنظام دفاعي بعيد المدى.
بشكل عام فإن إنفاق أوروبا مئات مليارات الدولارات على تسلحها، وإيلاءها الأهمية لمنظومات صد عمليات تخريب البنى التحتية الحيوية، تدعمها تقارير استخبارية ـ عسكرية مفادها أنه "على الرغم من خسائر روسيا الكبيرة في أوكرانيا إلا أنها لا تزال تملك موارد عسكرية كبيرة".
وعليه، فصورة التهديد الأخطر، المنتقلة من "العمليات الإرهابية" خلال عقدين ماضيين إلى التركيز على روسيا باعتبارها "أكبر التهديدات للقارة"، تجعل الأوروبيين على قناعة بأن التحالف مع الأميركيين يتطلب أيضاً زيادة اعتمادهم على أنفسهم ليكونوا قادرين على الدفاع عن قارتهم.
فعلى سبيل المثال ذهب أخيراً بوريل إلى حث دول القارة على تكثيف دورياتها البحرية قرب تايوان، وبالتالي فإن الوجه العسكري لأوروبا، التي ظلت أكثر توجهاً نحو العلاقات الاقتصادية ـ التجارية عالمياً، يعيدها مجددا إلى الأجواء التي خبرتها في ذروة تسلحها قبل سقوط جدار برلين قبل أكثر من 30 سنة.
نظام تسوق جماعي للذخيرة
وما يوضح المستوى الذي سارت إليه أوروبا في ارتداء ثياب العسكرة أن القارة، وعلى الرغم من اختلاف وجهات نظر بعض الدول فيها، إلا أنها في الأغلب تتفق على مفهوم "التعويض المشترك" لمخزونات تسلحها التي تُدفع نحو ساحة المواجهة في أوكرانيا، والاتفاق أخيراً على "نظام تسوق جماعي" للذخيرة.
الاتحاد الأوروبي بطبيعته ليس اتحاداً عسكرياً، إذا ظل اعتماده دائماً على عضوية الأطلسي كمظلة دفاعية، فيما التطورات المتسارعة في العلاقة المتأزمة مع روسيا جعل الاتحاد ينقلب 180 درجة على نهجه السابق، الذي اعتمد على تخفيف التسلح والرهان على السياسة والدبلوماسية.
يسود خطاب أوروبي عن أن "صدّ أي هجوم روسي يتطلب تسليحاً آخر"
ومن بين أفضل الأمثلة على السير نحو تنسيق دفاعي أوروبي، أن بلداً مثل الدنمارك نزع عنه التحفظات على التعاون الدفاعي والأمني في أوروبا بعد استفتاء شعبي في العام الماضي. وسويسرا، التي ظلّت محايدة طيلة الحربين العالميتين الأولى (1914 ـ 1918) والثانية، وجدت نفسها مضطرة أخيراً لفتح مخازن ذخيرتها أمام الأوكرانيين، ودخلت أيضاً في تنسيق مع أوروبا حول العسكرة.
وصورة السويد وفنلندا، المحايدتين لعقود طويلة، توضح إلى أي مدى بات الصرف على التسلح أولوية لم تعد تجد معارضة في شارعيهما، كما كانت سابقاً لو أن طائرة عسكرية أميركية حطت في البلدين.
وكان مفوض السوق الداخلية في الاتحاد الأوروبي، الفرنسي تيري بريتون، قد صرح بأن أوروبا "يجب أن تتكيف صناعتها الدفاعية بسرعة مع اقتصاد الحرب"، وذلك في أعقاب اجتماعات أوروبية في مارس/آذار الماضي، وتركزت على مزيد من التسلح.
أما بالنسبة للأموال اللازمة لزيادة إيقاع الصناعات العسكرية، فلفت بريتون إلى أن المفوضية الأوروبية "مستعدة لتخصيص بعض الأموال من ميزانيتنا لتسريع توسيع نطاق أعمالنا". كما دعا القطاع المالي إلى دعم صناعة الدفاع والسماح لمصرف الاستثمار الأوروبي "إي آي بي" بتوفير التمويل للقطاع.
ومن الواضح أن الأوروبيين الذين انتقدوا تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن ضرورة صرف مزيد من المال على الموازنات الدفاعية، سارعوا الخطى نحو تأسيس "مجمع صناعي عسكري أوروبي"، لتوفير الذخائر والسلاح لدولهم ولأوكرانيا بنفس الوقت.
وذلك بالطبع يصب في مصلحة مصنّعي الذخيرة والأسلحة الأوروبيين والأميركيين، وربما أنظمة تصنيع من خارج القارة، في الوقت الذي تكافح فيها روسيا للبحث عن تعويض في نقص أنواع معينة من الأسلحة، خصوصاً المسيرات بديلاً لنقص في الصواريخ الموجهة. وبدأت 15 شركة أوروبية تنظيم العودة إلى إنتاج السلاح والذخيرة، بعد توصل الأوروبيين لاتفاق على السعر وأوقات التسليم في الشهر الماضي، وفقاً لبوريل، الذي اعتبر في تصريحات أنه "كلما بدأنا أبكر كان ذلك أفضل".
وكان الأمين العام لحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ، دعا مراراً إلى مزيد من إنتاج الذخيرة في أوروبا، معللاً ذلك بأن "الاستهلاك الحالي فيما يتعلق بإنتاج الذخيرة غير مستدام". وشدّد على أن "هذا هو السبب في وجوب زيادة إنتاج الذخيرة". وحضور ستولتنبرغ للاجتماعات الأوروبية له مدلولاته الكبيرة في امتلاك الأوروبيين منظمة دفاع مزدوجة، أطلسية وأوروبية.