عزل قطاع غزة وحصاره.. إبادة الفلسطينيين جماعياً

31 ديسمبر 2023
نفاد الأسرة الطبية في مستشفى شهداء الأقصى (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
+ الخط -

يوصف قطاع غزّة بأنّه أكبر سجنٍ مفتوحٍ في العالم، يسكنه حوالي 2.3 مليون نسمة، لذا يعد من أكثر الأماكن اكتظاظًا بالسكان على وجه الأرض، معظم سكان القطاع من اللاجئين الفلسطينيين الذين هجروا قسرًا عام 1948؛ بعد عمليات تطهيرٍ عرقيٍ هي الكبرى في التاريخ الحديث، من مناطق شمال فلسطين وجنوبها. دخل العدوان على القطاع شهره الثالث، وتسببت الإبادة الجماعية التي يرتكبها النظام الإسرائيلي بحقّ الفلسطينيين في غزّة بدمارٍ واسعٍ في كامل القطاع، وفي كارثة بيئية، كذلك أودى قصف الاحتلال العنيف بحياة آلافٍ من الفلسطينيين المدنيين، بجانب أكثر من 50 ألف إصابةٍ، وشرد ما يزيد عن مليون فلسطيني، نزحوا من شمال قطاع غزّة إلى جنوبه في خان يونس ورفح.

الكارثة الإنسانية الحاصلة الآن في قطاع غزّة ليست عرضًا جانبيًا، إنّما هي نتيجةٌ مباشرةٌ للسياسة الإسرائيلية تجاه القطاع منذ سنواتٍ، التي تهدف إلى إنتاج هذا الواقع بالضبط. يرى واضعو هذه السياسة؛ أنّ إنتاج كارثةٍ إنسانيةٍ بحقّ أكثر من مليوني إنسان في القطاع هي وسيلةٌ شرعيةٌ للضغط على حركة حماس. فمنذ أن فرض الحصار عقابًا جماعيًا انهار اقتصاد القطاع، وبات نحو 80% من سكانه يعتمدون في معيشتهم على منظّمات الإغاثةـ إذ تصل معدلات البطالة إلى 45%، وأكثر من 60% في أوساط الشباب تحت 29 عامًا.

الكارثة الإنسانية ليست عرضًا بل هي سياساتٌ عقابيةٌ

تعود أزمة الكهرباء في قطاع غزّة إلى بداية الحصار عام 2006، حين قصف الاحتلال محولات محطّة الطاقة الوحيدة الستة، وعلى الرغم من الإصلاح الجزئي، يتسبب نقص الوقود اللازم لتشغيلها في عجزٍ كبيرٍ في إمدادات الطاقة الكهربائية، إذ تصل ساعات انقطاع التيّار الكهربي إلى 12 ساعةً في اليوم. كذلك يحرم 30% من سكان غزّة من حقهم في الحصول على المياه النظيفة نتيجة انقطاع الكهرباء المستمر. كما أجبرت أزمة الكهرباء المستشفيات على تأجيل العمليات الجراحية غير الطارئة، وبالتالي زادت فترة الانتظار إلى 16 شهرًا في بداية عام 2021، بعد أن كانت 3 أشهرٍ في عام 2005.

خلال الـ 17 عامًا الماضية، شنت القوات الإسرائيلية ثلاث هجماتٍ رئيسيةً على قطاع غزّة

ترصد التقارير الحقوقية الدولية والإسرائيلية أنّ الشعب الفلسطيني في غزّة لا يحصل على مياهٍ صالحةٍ للشرب منذ فرض الحصار عليه، بل أجهز الجيش الإسرائيلي على شبكات المياه عبر هجماته العسكرية بين عامي 2008 -2021، خاصّةً أثناء حملتي "الرصاص المصبوب" في نهاية 2008، و"الجرف الصامد" في صيف 2014، إذ قدرت قيمة أضرار شبكات المياه بنحو 34 مليون دولار؛ ومع نهاية عام 2015 لم تصل شبكة المياه العمومية إلى نحو 100 ألف شخصٍ، وفقًا للتقديرات.

يعتمد 97% من سكان غزّة على المياه الجوفية الساحلية، غير الصالحة للشرب، نتيجة ضخ مياه الصرف الصحي المفرط، وتسربها إلى المياه الجوفية. يضطر سكان غزّة رغمًا عنهم إلى تقليص كميات المياه التي يشربونها، وإلى شراء المياه المحلاة من الأسواق. تفيد التقديرات أن نحو 68% من المياه المحلاة ملوثةٌ أيضًا، هذا يرفع احتمال تفشي الأمراض بين السكان. وفقًا لمعطيات سلطة المياه الفلسطينية لعام 2018، استهلك كلّ فلسطيني 83.1 لترًا يوميًا من المياه، هذا أقلّ بكثير من الحدّ الأدنى الموصى به من قبل منظّمة الصحة العالمية، المقدر بـ 100 لتر يوميًا للفرد.

لا تنحصر مشكلات الفلسطينيين في غزّة بأزمتي الكهرباء والمياه غير الصالحة للشرب فقط، إذ أثر الحصار الإسرائيلي على القطاع الصحي في غزّة، حيث لا يتوفر الكثير من الأصناف واللوازم الطبية الأساسية، ويضطر كثيرٌ من المرضى للانتظار لأشهرٍ لإجراء العمليات الجراحية. تضمّ مستشفيات القطاع العاملة 4.1 أسرة لكلّ 1000 شخصٍ، وتبلغ نسبة العجز في الأرصدة الدواية نحو 40%، بعد أن كانت 16% في عام 2005، ونسبة عجز المستهلكات الطبية هي 32%، و60% هي نسبة العجز في لوازم المختبرات وبنوك الدم، وتراجعت خدمات الرعاية الطبية بنحو 66%، كما تعاني نصف عائلات القطاع من انعدام الأمن الغذائي.

يبدو للمتابع أنّ الزراعة هي الحلّ المتبقي للفلسطينيين في غزّة لتفادي الكارثة الإنسانية، لكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي لم تترك هذا القطاع بمنأىً عن التدمير، ليس على مستوى منع استيراد مستلزمات الزراعة من سماد ومعدات، والكهرباء المحدودة، وشح مياه الري فقط، لكن عبر منع وصول المزارعين إلى أراضيهم داخل قطاع غزّة نفسه، حيث فرضت منطقة عازلة على طول الحدود الشرقية، التي تعد من أفضل المناطق الصالحة للزراعة، دون أن يكون هناك حدودٌ واضحةٌ لتلك المنطقة، الأمر الذي أعاق الوصول لتلك الأراضي، خاصّةً في منطقة خان يونس.

في عام 2008؛ فرض الاحتلال الابتعاد عن السياج لمسافةٍ تصل إلى 1000-1500 كم، تمثّل تلك الأراضي "العازلة" حوالي 35٪ من أراضي غزّة الصالحة للزراعة. كما دمّرت القوات الإسرائيلية، أو لوثت الكثير من تلك المساحة. بعد الهجوم العسكري الواسع عام 2012، خففت إسرائيل هذه القيود، ثم عادت وفرضتها مرّة أخرى في وقتٍ لاحقٍ، بالإضافة إلى ذلك، ترش إسرائيل بوتيرةٍ متكررةٍ خلال العام مبيدات الآفات من الطائرات على الأراضي الفلسطينية، وعلى طول الحدود، ما يتسبب بتلف المحاصيل الزراعية الفلسطينية، حتّى التي توجد في المناطق التي تبعد أكثر من 300 متر عن السياج. وفقًا للتقارير الحقوقية فإن 35% من أراضي القطاع الصالحة للزراعة محظورٌ العمل فيها، كما تضررت 70% من الماشية التي ترعى في المنطقة العازلة. تقدر خسائر القطاع الزراعي بسبب الحصار الإسرائيلي والهجمات العسكرية بين عامي 2006 -2022 بـ 1.3 مليار دولار. علمًا أنّ الزراعة في غزّة تمثل 7.1% من إجمالي الناتج المحلي.

لم يسلم البحر من الحصار الإسرائيلي أيضًا، إذ منع الصيادون الفلسطينيون من صيد الأسماك لمسافةٍ أكبر من 12 ميلًا بحريًا على أكثر تقدير، بين عامي 2008-2020 كانت منطقة الصيد 6 أميال فقط، ثم تقلصت إلى ثلاثة. في الوقت الذي نصت اتّفاقية أوسلو على الحقّ في الإبحار والصيد حتّى مسافة 20 ميلا. بسبب ذلك؛ 90% من الصيادين يعيشون تحت خط الفقر، كما انخفض عدد الصيادين المسجلين في غزّة من 10000 إلى 4000 منذ عام 2000. كما أطلقت البحرية الإسرائيلية النار على قوارب الصيادين الفلسطينيين بمعدل 30 مرّة شهريًا خلال سنة 2022.

الفئات المهمشة والقتل البطيء

يتحمل الأشخاص ذوو الإعاقة والنساء والأطفال الجزء الأكبر من آثار العدوان على قطاع غزّة، إذ يمثلون النسبة الكبرى من الضحايا، ولا يتلقون أيًا من خدمات الرعاية الصحية الضرورية من أجل بقائهم على قيد الحياة، بحسب تقرير أصدرته لجنة الأمم المتّحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "الإسكوا" تحت عنوان "الحرب على غزّة: الجميع مُهمل"، تضاعف عدد الأشخاص ذوي الإعاقة بين عامي 2007 و2017.

الكارثة الإنسانية الحاصلة الآن في قطاع غزّة ليست عرضًا جانبيًا، إنّما هي نتيجةٌ مباشرةٌ للسياسة الإسرائيلية تجاه القطاع منذ سنواتٍ

يعيش في غزّة حاليًا حوالي 50,000 امرأةٍ حامل، ومن المتوقع أن تلد أكثر من 5,500 منهنّ في الشهر الحالي، في ظلّ فقدان خدمات الصحة الإنجابية، نتيجة الدمار الشديد، والتشريد، وانهيار نظام الرعاية الصحية.
تشير أغلب تقارير وزارة الصحة الفلسطينية على أنّه خلال فترة حصار غزّة هناك 56% من حالات العلاج في الخارج لم يسمح الاحتلال لهم بالسفر. بالإضافة إلى عجزٍ في الأدوية الأساسية يصل إلى 47%، بما فيها أدوية السرطان وأمراض الدم، ونسبة العجز من المستهلكات الأساسية التي وصلت إلى 30%، بما فيها مستهلكات العمليات وأقسام الطوارئ، وما نسبته 49% من العجز في الفحوصات المخبرية.

جرائم القتل الجماعي في غزّة مستمرّة

لم تبدأ سياسات الإبادة الجماعية تجاه قطاع غزّة والفلسطينيين مع الرد على هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل سبقت ذلك بفترةٍ طويلةٍ، إذ جاء الهجوم نتيجةً لـ 16 عامًا من الحصار الجوي والبري والبحري الذي أثر بشدةٍ على الخدمات الأساسية، والذي كان له تأثيرٌ حادٌ وتراكميٌ، و"دمّر الاقتصاد في غزّة، وساهم في تفتيت الشعب الفلسطيني، وهو ما يمثل جزءاً من جرائم سلطات الاحتلال الإسرائيلية ضدّ الإنسانية، المتمثلة في الفصل العنصري والقمع الذين تمارسهما ضدّ ملايين الفلسطينيين" بحسب منظّمة هيومان رايتس ووتش.

خلال الـ 17 عامًا الماضية، شنت القوات الإسرائيلية ثلاث هجماتٍ رئيسيةً على قطاع غزّة: في 2008-2009 و2012 و2014، كما شنت هجماتٍ جويةً وبريةً متفرقةً بينهم. ففي عملية الرصاص المصبوب؛ التي بدأت في ديسمبر/كانون الأول 2008، واستمرت لـ 21 يومًا، أسقطت القوات الإسرائيلية حوالي مليون كيلوغرام من المتفجّرات على القطاع، ما تسبب بمقتل 1.436 فلسطينيٍ، وإصابة حوالي 5.400 آخرين بينهم عددٌ كبيرٌ من النساء والأطفال، وتدمير نحو 4100 منزلٍ وتضرر 17500 منزلٍ آخر. أما في عملية عمود السحاب عام 2012، فقد دمّرت غارات قوات الاحتلال الجوية على غزّة نحو 200 منزلٍ تدميرًا كلّيًا، و1500 منزلٍ آخر تدميرًا جزئيًا.

في حين تعد عملية الجرف الصامد في يوليو/حزيران عام 2014؛ التي استمرت 51 يومًا، الأكثر فتكًا وفقًا للتقارير الدولية. إذ وثق فريق المرصد الأورومتوسطي 60,664 هجومٍ بريٍ وجويٍ وبحريٍ إسرائيليٍ، أسفر عن قتل 2147 فلسطينيًا (قتلت أسر بأكملها في بعض الحالات)، وجرح 10870 آخرين. وتضرر 17123 منزلٍا، منها 2465 دمّر كلّيًا.

في الهجوم الإسرائيلي في مايو/أيّار 2021، في ما عرف بعملية حارس الأسوار، التي استمرت لمدّة 11 يومًا، ركز الجيش الإسرائيلي هجماته الجوية والمدفعية على بنية قطاع غزّة التحتية، ولا سيّما الشوارع وآبار المياه والمرافق العامة، إلى جانب المقدرات الاقتصادية والإنتاجية، ما سبب خسائر فادحةً في هذه القطاعات. وأسفر الهجوم عن مقتل 254 فلسطينيًا، بينهم 66 طفلًا و39 امرأةً و17 مسنًا، إضافة إلى إصابة نحو 1.948 آخرين، حسب وزارة الصحة الفلسطينية.

بعد السابع من أكتوبر 2023، ذكر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّ إسرائيل قتلت نحو 25 ألف فلسطينيٍ، بينهم حوالي 10 آلاف طفلٍ خلال 70 يومًا من جريمة الإبادة الجماعية التي تنفذها بحقّ المدنيين في قطاع غزّة. ثم أضاف موضحًا أنّ 92% من ضحايا الهجمات الجوية والمدفعية الإسرائيلية على قطاع غزّة هم من المدنيين، بواقع 9643 طفلًا، و3109 امرأةً، و210 من الكوادر الصحية، و83 صحفيًا. في ما أصيب 50112 فلسطينيٍ بجروحٍ مختلفةٍ، بينهم المئات في حالةٍ خطيرةٍ. وأضاف المرصد أن أرقامه لا تشمل المفقودين تحت أنقاض المباني، أو جثثهم في الطرقات الذين يتعذر انتشالهم حتّي كتابة المقال.

كما أفاد المرصد بأنّ مليونًا و850 ألف فلسطينيٍ نزحوا من منازل ومناطق سكنهم في قطاع غزّة من دون توفر أيّ ملجأ آمنٍ لهم، في وقت دمّرت غارات إسرائيل 62990 وحدةٍ سكنيةٍ تدميرًا كلّيًا، و172055 وحدةٍ سكنيةٍ تدميرًا جزئيًا. موضحًا أن إسرائيل تعمدت؛ وما زالت، إلحاق تدميرٍ وأضرارٍ جسيمةٍ بمرافق البنى التحتية في قطاع غزّة، شملت استهداف 286 مدرسةٍ، و1356 منشأةٍ صناعيةٍ، و124 مرفقًا صحيًا، بينهم 22 مستشفى و55 عيادةً، و142 مسجدًا و3 كنائس، إضافةً إلى 140 مقرًا صحفيًا.

في الوقت الذي تصرّ فيه إسرائيل على تصعيد جريمة الإبادة الجماعية التي تمارسها بحقّ المدنيين الفلسطينيين بغرض دفعهم نحو التهجير القسري، ينكر قادة الاحتلال الصهيوني وجود كارثةٍ إنسانيةٍ فيها، فها هو رئيس دولتها، إسحاق هرتسوغ يقول "الناس في غزّة يعرفون أنّ هناك حربًا دائرةً الآن، لكن ليست هنالك كارثةٌ إنسانيةٌ لا تمكّنهم من البقاء". تلك الأقوال ليس لها أيّ أساسٍ من الصحة، وتستخدم ذريعةً لاستمرار إبادة الشعب الفلسطيني بنمطٍ ممنهجٍ ومتعمّدٍ، ليس في قطاع غزّة فحسب، بل في الضفّة الغربية والقدس، استكمالًا لعملية التطهير العرقي، التي بدأت عام 1948 ولم تنتهِ بعد.

المساهمون