تشهد عدة جهات في تونس إضرابات واحتجاجات في الأيام الأخيرة، تنظمها تنسيقيات محلية من الغاضبين الذين يطالبون بحقهم في التنمية اقتداءً بنسيقية "الكامور" في محافظة تطاوين، التي قامت منذ أشهر بغلق منصة ضخّ البترول وفرضت على الحكومة أن تتفاوض معها مباشرة وتمضي معها اتفاقاً تنموياً يخص الجهة.
وتحاول عدة جهات تونسية استنساخ تجربة "الكامور" بما أصبح يوصف بـ”عدوى الكامور”، وسط مخاوف من ارتفاع حدة الإضرابات وتداعياتها على الاستقرار الأمني والاجتماعي، وخصوصاً الاقتصادي بسبب غلق مناطق الإنتاج كلياً.
وتبلغ ذروة الاحتجاج في محافظة قفصة التي تنتج الفوسفات، إذ تشهد شركة فوسفات قفصة حالياً حالة شلل تام وتوقف العمل بجميع المقاطع والمغاسل والإدارات التابعة للشركة، وذلك بسبب الاحتجاجات التي تعيشها مدن الحوض المنجمي إثر صدور قرارات المجلس الوزاري يوم أمس الثلاثاء، والتي اعتبرها المحتجون غير كافية ولا تلبي مطالبهم.
وتبلغ ذروة الاحتجاج في محافظة قفصة التي تنتج الفوسفات، إذ تشهد شركة فوسفات قفصة حالياً حالة شلل تام وتوقف العمل بجميع المقاطع والمغاسل والإدارات التابعة للشركة
وتوجّه عدد من شباب “عمادة سرديانة” التابعة لمعتمدية السبيخة من ولاية القيروان أمس الأربعاء، إلى محطة ضخ الغاز القادم من الجزائر، وقاموا بالاعتصام أمام مقر الإدارة مطالبين بالتشغيل والتنمية.
وشهدت مدينة "أم العرائس" ليلة الأربعاء الخميس، احتجاجات ليلية، حيث عمد عدد من الشبان إلى إشعال العجلات المطاطية وسط المدينة، كما تم خلع مقر القباضة المالية وسرقة محتوياتها، وعمد آخرون إلى خلع بعض المحلات التجارية خاصة. ويتواصل إضراب الشباب في محافظة قابس جنوب شرقي تونس، بما عطل حركة القطارات ووصول أسطوانات الغاز البيتي إلى مدن الجنوب.
وأُعلن أمس ببنزرت شمالاً عن تكوين تنسيقية جهوية للمنظمات الوطنية هدفها "الدفاع عن حق بنزرت في تنمية مستدامة وشاملة، في إطار وحدة الدولة ومدنيتها لتحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع الفئات".
وأمام توسع هذه التنسيقيات، احتدم الجدل حول خلفياتها السياسية وحول التعاطي الإعلامي والسياسي الحكومي الذي أوحى بعد اتفاق الكامور للشباب المحتج بشرعية غلق مواقع الإنتاج، بحسب مراقبين.
ولكن رئيس ديوان رئيس الحكومة، المعز لدين الله المقدم، أوضح أن مقاربة الحكومة تتركز بالأساس على اعتماد الحوار كخيار استراتيجي للتوصل إلى حلول تنموية واجتماعية بكل الجهات، مفيداً بأنه سيتم نشر جدول زمني محدد لكلّ ولاية الأسبوع القادم.
وخاطب المحتجين، في تصريح لإذاعة "موزاييك" بالقول: "نحن قادمون، فقط يلزمنا بعض الوقت، وخصصنا كل المجالس الوزارية والجهوية لصالح التنمية والاستجابة للمطالب". وكشف أن الاحتجاجات التي تشهدها مختلف البلاد أخيرًا ليست كلها تلقائية، مشددًا على أن هناك دفعًا نحو الفوضى والعدمية، على حد قوله.
وقال المسؤول الحكومي، في هذا السياق، إن ما يحدث اليوم من احتجاجات ليس بالأمر الجديد على تونس، وإن هذا المشهد يتكرّر مع تجدّد الحكومات، مستدركًا أن بقاء الحكومة أو عدمه ليست له قيمة مقابل إنقاذ الدولة. واعتبر المقدم أن الدولة وصلت اليوم إلى نقطة صعبة وخطرة، مؤكدًا أن الحكومة ستعمل على الحيلولة دون انهيار الدولة، وفق تعبيره.
من جهة أخرى، اعتبر مستشار رئيس الحكومة المكلف بالملفات الاجتماعية، سليم التيساوي، أن ثقة المواطنين في الدولة تهتز، مشيراً إلى أن المثير للقلق والمخيف في التحركات الاجتماعية هو ظهور العديد من التنسيقيات التي تريد أن تكون بديلاً عن الهياكل والمنظمات القائمة، وهو ما اعتبره أمراً خطيراً وغير طبيعي.
وأشار التيساوي، في تصريح لإذاعة الديوان المحلية، إلى أن "الحكومة اختارت عدم التعامل بمنطق القوة في فض مختلف الاعتصامات والاحتجاجات الاجتماعية التي تشهدها البلاد، نظراً لانعكاساتها السلبية على الوضع العام في البلاد"، مؤكداً أن الحكومة ستعلن قريباً عن تفاصيل الجدول الزمني للحوار مع المحتجين في الجهات.
ولمّح مدونون إلى أن هذه التنسيقيات تذكر بتنسيقيات الشباب التي تشكلت إبان الحملة الانتخابية للرئيس قيس سعيد، بما يوجه إليه اتهامات غير مباشرة، إلا أن رئاسة الجمهورية أعلنت مساء أمس الأربعاء أن الرئيس قيس سعيد دعا خلال لقاء جمعه برئيس الحكومة هشام المشيشي إلى ”تطبيق القانون على كل من يسعى لقطع الطرقات والحيلولة دون وصول المواد الغذائية والأساسية إلى المواطنين”.
ونقلت رئاسة الجمهورية، في بلاغ صادر عنها نشرته بصفحتها على موقع “فايسبوك" عن سعيد، تأكيده في ظل بعض التحركات الاحتجاجية بعدد من الجهات، على ”وجوب الحرص على توفير المواد الضرورية للتونسيين والتونسيات في مختلف مناطق الجمهورية”.
وتعليقاً على هذه الأحداث، قال أستاذ علم الاجتماع، سامي براهم، في تصريح لـ"العربي الجديد" إن الحراك الاجتماعي جوهره حقيقي ودوافعه اجتماعية، وهو قديم متجدد، ولكن هناك محاولات لتوظيفه سياسياً.
براهم: الحراك الاجتماعي جوهره حقيقي ودوافعه اجتماعية، وهو قديم متجدد، ولكن هناك محاولات لتوظيفه سياسياً
وتابع براهم أن من أسباب الحراك الاجتماعي عدم تسوية ملفات حقيقية، مشيراً إلى أن ثورات الاحتجاج الاجتماعي لم تنقطع منذ بداية الثورة، وربما كان اتفاق الكامور الدافع نحو الحراك الاحتجاجي.
وأضاف أن "ما تم إقراره في الكامور كان بمثابة إعطاء شرعية للجهات للتحرك باسم المطلب الاجتماعي، وكأن الكامور أعطى شرعية لفكرة تجسيد التمييز الإيجابي، الذي هو فصل في الدستور لصالح الجهات المهمشة، بمعنى أن كل جهة لديها ثروات وموارد بإمكانها المطالبة بحصة منها للتنمية وهي فكرة خطيرة تهدد وحدة الدولة الوطنية".
وبين أن الأخطر أن كل جهة بدل المطالبة بحصتها من الميزانية ومن السياسات العامة، تطالب باقتطاع قسط من الموارد الطبيعية على أرضها وفي حدودها.
وأفاد بأن هناك بعض المحاولات للركوب على الحراك وتوظيفه سياسياً لحسم المعركة مع المنظومة القائمة، مؤكداً أن الحكومة لم ترتكب خطأ طالما أن جزءا من أزمة البلد لا يرتبط بغياب الحلول والموارد، بل بغياب إرادة سياسية لدى الطبقة السياسية والأحزاب والمنظمات الوطنية للاتفاق على برنامج قصير ومتوسط وطويل المدى لإصلاح أوضاع البلد.
وأشار إلى أن الأزمة ليست أزمة حلول أو موارد بل إرادة سياسية تتخذ قرارات جريئة، فما وقع في الكامور يمكن أن يقع في كل الجهات، ولا يؤثر في السياسات العامة لو اتُخذت إجراءات حقيقية من فرض العدالة الجبائية وملاحقة المتهربين وإرجاع الأموال المنهوبة، وتونس لها ما يكفي من الموارد التي تمكنها من حل الأزمة الخانقة.
ويرى براهم أن السبب الأساسي للأزمة يعود لتركة 60 عاماً من الفشل التنموي، والسياسات العامة والتفاوت الطبقي، مبيناً أن الطبقة السياسية إن لم تستمع إلى نداء الحركات الاحتجاجية فهي مهددة بالقضاء على شرعيتها السياسية.
وأوضح براهم أن الحراك الاجتماعي يثير من ناحية مخاوف من أن يتحول إلى فوضى أو يستغل من طرف المنظومة القديمة، وهي تخوفات مشروعة ولكن من مزاياه أن له بعدا إيجابياً، وهو مدى نجاحه في إحداث حالة وعي لدى الطبقة السياسية المنشغلة بصراع الوجود الحزبي ومصالحها الضيقة على حساب الملف الاجتماعي الحارق.
ولفت إلى أن هذا الحراك الاجتماعي إن لم يؤد إلى يقظة سياسية، فإنه سيؤدي إلى بروز وصعود الشعبوية التي تترصد اليوم الحراك وهناك تنسيقيات تنشأ بطريقة غير مفهومة، لأن حلم تغيير منظومة الحكم التي وقع إقرارها في الدستور بطريقة هي أقرب للديمقراطية الشعبية والتمثيلية الشعبية، هو ما دعا إليه رئيس الجمهورية.
وأشار إلى أن فشل الطبقة السياسية في أخذ الحراك بجدية سيؤدي لانتصار الشعبوية، وهو ما يعني نهاية الثورة والمسار الديمقراطي وهزيمة الانتقال الديمقراطي لصالح الشعبوية.