عبد السلام جلود رئيس وزراء ليبيا الأسبق ( 16 يوليو/ تموز 1972 - 2 مارس/ آذار 1977). ولد في 15 ديسمبر/ كانون الأول 1944. كان من الضباط البارزين ممن شاركوا في ثورة الفاتح من سبتمبر 1969. وظل طويلا في مواقع الحكم في بلاده بقيادة معمّر القذافي. اعتبر الرجل الثاني في ليبيا، فقد تولى مهام ومناصب حساسة في النظام: وزير الداخلية والحكم المحلي، المالية، الاقتصاد والصناعة، وعضو الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام (مجلس الرئاسة)، فضلا عن أن له أدواره في ملفات عربية، منها في أثناء الحرب الأهلية في لبنان. نشبت في 1992 خلافاته مع القذافي، فترك المشهد الرسمي نهائيا. وبعد اندلاع الثورة في 17 فبراير/ شباط 2011، غادر ليبيا إلى الخارج.
يستعرض في كتاب مذكّراته "الملحمة"، والذي يصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فصولا عديدة من سيرته، الشخصية والسياسية، ويضيء على علاقات ليبيا الدولية والعربية في زمن القذافي. ويكشف معلومات مثيرة، سيعرف القارئ كثيرا منها لأول مرة. ينشر "العربي الجديد" أجزاء ومقاطع منه في خمس حلقات. وفي الحلقة التالية يوضح وقائع تهيئة حركة الضباط الأحرار في الجيش الليبي لثورة الفاتح. ويكتب إن رفيقه معمّر القذافي "تخاذل" تلك الليلة، ونام في غرفته في المعسكر ونام. كما يورد إن القذافي في مرّة في الثمانينيات، أدّيا صلاة المغرب معا، وأمّها القذافي، ولاحظ أن الأخير لا يسجُد جيدا، ولما سأله عن هذا، أجاب: "لا أريد أن أنحني لأحد حتى لربّي".
الثورة
في الساعة الثانية والنصف فجر الفاتح من أيلول/سبتمبر 1969، كلفت ضباط صف بالسيطرة على الباب الرئيس لمعسكر باب العزيزية في طرابلس، حيث كان بإمرتي كتيبة الهندسة وقوات من البحرية والدفاع الجوي، وطلبت منهم أن يحتجزوا أيّ سيارة بركابها إذا ما حاولت الدخول إلى المعسكر. وحدث أن وقع حادثان طريفان. الأول، حين جاءت سيارة "فولكس فاغن" نحو الساعة الثالثة فجرًا. اعتقد ضباط الصف أن السيارة هي دورية للمخابرات الحربية، ففتحوا لها الباب، ثم أحاطوا بها من كل جانب ووجهوا نحوها بنادقهم، وطلبوا من السائق الدخول إلى المعسكر. لما دخلت السيارة، اتّضح أن السائق هو جندي من كتيبتي يُدعى "أقصودة" كان قد اشترى السيارة وكان سعيدًا بها؛ ولذا خرج في جولة مع أصدقائه في المدينة ثم عاد إلى المعسكر، فقال له ضباط الصف: "عطكْ دعوة، خلعتنا يا رجل (أي لا سامحك الله لقد أرعبتنا)"، فقهقه الجنود وأخلوا سبيله. أما الحادث الآخر، فوقع نحو الساعة الثالثة والربع فجرًا، حين عاد ضابط صف من الدفاع الجوي اسمه التومي، وكان مخمورًا، ولمّا لاحظ وجود حركة غير اعتيادية تساءل عمّا يحدث، فقال له رئيس العرفاء خليفة: "غيّر ملابسك بسرعة والبس بدلتك العسكرية. بعد ساعة ونصف سنتحرك لإسقاط النظام". كان ضابط الصف التومي شابًّا مثقفًا، فقال لخليفة: "لن أتزحزح من هنا إلا حينما أعرف مَن على رأس الحركة وما هي أهدافها؟". بالطبع، لم يكن لدينا وقت ولا رغبة في حوار من هذا النوع.
جاء خليفة مسرعًا وأبلغني بالأمر وسألني "كيف نتصرف معه. أليس من الأفضل أن نقوم بإعدامه؟ بقاؤه حيًّا قد يتسبّب في إفشاء سر الثورة"، فقلت له: "كلّا. ضعه في حجرة وأقفل الباب". كان لدينا في كتيبة الهندسة نحو عشرة من الجنود المشاغبين وغير المنضبطين والمثيرين للمتاعب، وغالبًا ما كانوا يتغيّبون عن الحضور إلى المعسكر، حتى إنهم لم يشاركوا في التدريب الليلي وظلوا لساعات متأخرة من الليل خارج المعسكر. عاد هؤلاء إلى المعسكر ليناموا ليلتهم، ويبدو أنهم استيقظوا فجأة على وقع تحرك الجنود. وحين علموا أننا سوف ننطلق لتفجير الثورة جاؤوا إليّ وهم يبكون قائلين: "كيف تحرمنا يا ريس عبد السلام من هذا الشرف؟". لقد قام هؤلاء بأهم الأدوار في يوم الثورة.
فجر الثورة، كان على جميع الوحدات أن تكون متأهبة لمغادرة المعسكر في الساعة الرابعة والنصف صباحًا
وبحسب الخطة الموضوعة التي تتضمّن السيطرة على الأهداف الحيوية، كالإذاعات الثلاث في كل من طرابلس وبنغازي والبيضاء، لأهميتها في تلك الفترة في التواصل مع الشعب الليبي، والسيطرة على البريد وقطع الاتصالات وتحييد القوة المتحركة وشلّ حركتها واعتقال رموز النظام من مدنيين وعسكريين وعلى رأسهم ولي العهد ورئيس الوزراء ونيس القذافي، ووزير الدفاع حامد علي العبيدي، ووزير الداخلية أحمد عون سوف. لم يكن لدينا خطة بديلة: فلا بديل عن النجاح. فقد كان على جميع الوحدات أن تكون متأهبة لمغادرة المعسكر في الساعة الرابعة والنصف صباحًا. وفي أثناء صعود الجنود إلى سيارات النقل في الساعة الرابعة تقريبًا، توقف الخويلدي الحميدي أمام معسكري، وكان في سيارة نقل عسكرية مع بعض الجنود، قادمًا من مدينة ترهونة، حيث كانت كتيبتَا مشاة ومدرعات بقيادة الخويلدي وأبو بكر جابر يونس قد توجهتَا من ترهونة صوب طرابلس لتنفيذ الخطة. ولأن حركة الوحدات كانت بطيئة، ونظرًا إلى حماسة الخويلدي، ترك كتيبته في أثناء انطلاقها نحو طرابلس، وفضّل أن يسبق الكتيبة بساعات.
لمّا توقف الخويلدي أمام معسكري، ركب معه السيارة عبد المنعم الهوني، وانطلقا نحو الإذاعة، وكنت قد ذهبت أنا والهوني إلى ترهونة واجتمعنا بالخويلدي وأبو بكر جابر يونس، وأبلغناهما بموعد الثورة وحددنا لهما المهمات بحسب الخطة ثم عدنا إلى طرابلس. في مساء هذا اليوم التقيت عددًا من الضباط الأحرار من مدينة الزاوية غربًا إلى مصراتة شرقًا، مرورًا بمدينة الخمس لإبلاغ أعضاء الحركة بالموعد والخطة والمهمات. قبيل الثورة بأسابيع، حصل خلاف وشجار بين عمر المحيشي وعدد من الضباط الأحرار في الكتيبة السادسة بمدينة الزاوية. كان السبب الرئيس في هذا الخلاف يكمن في شخصية عمر المحيشي؛ إذ إنه لا يحسن التواصل والحوار مع الآخرين نتيجة أسلوبه الاستفزازي والمنفّر، وأحيانًا المقزز، وفي شخصيته الاستعلائية، وقد جرّ عليه هذا نقمة الكثير من الضباط الأحرار، وكانوا يعاملونه بقسوة وكثيرًا ما حاولوا اتخاذ إجراءات ضده. لكن الأخ معمّر يحميه ويدافع عنه، وكثيرًا ما كان يأتيني ويقول لي يجب ألَّا نتخذ قرار تفجير الثورة قبل التأكد من جذريتها، وكان يقول إن الكثير من الضباط الأحرار لا يملكون الثقافة والوعي لتفجير الثورة، وهذا اعتقاد يشاركه فيه الكثيرون، وكنت أقول له: "إن هذا ليس مفاجئًا لي، وهو ناجم عن تحول الحركة من حركة مدنية، حيث الشروط والمعايير الصارمة، إلى حركة عسكرية تستهدف أكبر عدد من الضباط". ولذلك، كنت قد قاومت وعارضت تحول الحركة إلى حركة عسكرية، ولكن - للأسف - حصل الأخ معمّر على موافقة أغلبية اللجنة المركزية للوحدويين الأحرار.
في هذه الأجواء، وقبيل الثورة، كنت أنا والأخ معمّر في طريقنا إلى الزاوية لمعالجة هذا الخلاف. ثم حدث عند وصولنا إلى منطقة باب قرقارش في جزيرة الدوران أن استوقفتنا دورية للشرطة وطلبوا منّا التعرّف على هوياتنا، فقال لهم الأخ معمّر: "نحن ضباط جيش"، فردّوا بوقاحة: "نحن لا نعرف ضباط جيش. هاتوا بطاقاتكم". فغضب الأخ معمّر وزعق في وجوههم: "احترموا أنفسكم"، ثم دخل معهم في شجار لم ينته إلا بالسماح لنا بمواصلة الرحلة.
حينما كنت في الولايات المتحدة، اشتريت أحد عشر مسدسًا مع ذخائرها واحتفظت بها في منزلي طوال سنتين. ليلة الثورة، وزعت المسدسات بين الضباط الذين كانوا معي. في هذه الليلة حدث أمر غريب ومثير، فحين كان الضباط والجنود يغادرون معسكر قاريونس في بنغازي متجهين إلى الأهداف التي حددناها في الخطة، علمت أن الأخ معمّر "تخاذل" في هذه اللحظة، وترك ضباطه وجنوده وذهب لينام في غرفته بالمعسكر.
في ما بعد - في أواخر الثمانينيات - أدلى الأخ عبد المنعم الهوني بتصريح، من القاهرة حيث كان يعيش، مذكّرا بهذه الحادثة. وحين استمع الأخ معمّر إلى تصريحه، لم ينكر، وقال: "فعلًا ذهبت إلى غرفتي ونمت"، وقال في معرض تبرير هذا "التخاذل": "أنا قائد الأوركسترا، ومهمتي هي ضبط الإيقاع وتنظيم الفرقة وبعد ذلك تنتهي مهمتي".
وصباح يوم الثورة، فوجئنا بأن أوامر صدرت للكتيبة السادسة المتمركزة بمدينة الزاوية بالتحرك إلى طرابلس، وبالتحديد معسكر تاجوراء، وحتى اليوم ظل تحرك الكتيبة لغزًا بالنسبة إلينا: أكان تحركًا لإجهاض الثورة أم عملية نقل روتيني؟ لقد واجهت ليلة الثورة تحدّيَين كبيرين: الأول، كيف يمكن الحصول على ذخيرة؟ فمن دون ذخيرة سيكون موقفنا ضعيفًا وصعبًا في حالة حصول أي مواجهة. لما سحبوا الذخيرة من كتيبتي، أخبرني رئيس عرفاء كتيبتي خليفة إحنيش بأنه يعرف ضابط الشرطة المسؤول عن مخازن الذخيرة، فطلبت من إحنيش أن يتقرّب إليه ويحاول أن يقيم معه صداقة وثيقة، والأهم أن يعرف مكان إقامته.
في الساعة الرابعة والنصف لما انطلقنا نحو أهدافنا، انطلق إحنيش مع مجموعة من الجنود صوب منزل ضابط الشرطة، فاصطحبوه إلى مخازن الذخيرة، ثم عادوا إلينا بسيارات محمّلة بكل أنواع الذخيرة، فارتفعت معنويات الجنود، وأخذوا يطلقون طلقات نارية في الهواء ابتهاجًا. كانت الأهداف التي حُددت لقواتي هي السيطرة على البريد وقطع الاتصالات، والسيطرة على وزارة الداخلية ومديرية الشرطة وجهاز الأمن ورئاسة الأركان، وشلّ القوة المتحركة الموجودة في معسكر قرقارش من دون الدخول في أي صدام معها، بل الاكتفاء بمحاصرة المعسكر ومنع هذه القوة من الخروج. ثم قمنا بزرع ألغام تدريبية حول المعسكر، ووجهنا إلى عناصر القوة المتحركة تحذيرًا صارمًا، بأن أي محاولة منهم لمغادرة المعسكر تعني تفجير الألغام وإبادتهم، ثم قام الجنود باعتقال كبار ضباط الشرطة الذين يقيمون في مركز المدينة. في هذه الأثناء، فكرت في خطة لتوفير الوقت والجهد. حين اعتقلنا عددًا من الضباط الكبار، وعلى رأسهم مدير الأمن علي عقيلة، كنّا نتصل عبر البريد العام مع بقية ضباط الشرطة الذين لم نعتقلهم؛ ولذا طلبت من العقيد علي عقيلة أن يتحدث إلى زملائه ويبلغهم أن الثورة انتصرت، وأن عليهم ألا يقاوموا حفاظًا على سلامتهم. وبالفعل، حققت الخطة أهدافها. أمّا التحدي الآخر، فكان يتمثل في السيطرة على الطرق الرئيسة المؤدية إلى القاعدة الأميركية (تُعرف باسم الملاحة)، وهي أكبر قاعدة جوية خارج الولايات المتحدة، وكانت تحتوي على قنابل نووية، ثم الحيلولة دون وصول ولي العهد أو رئيس الوزراء وكبار ضباط الجيش والشرطة إلى القاعدة. كان وصول أي واحد من هؤلاء إلى القاعدة يعني أنه يمكن أن يطلب من حكومة الولايات المتحدة تفعيل المعاهدة العسكرية والتدخل لصالح النظام؛ فضلًا عن إمكانية استغلال إذاعة القاعدة، لتوجيه نداءات بمقاومة الثورة وعدم الاعتراف بها، ودعوة الشرطة والجيش إلى المقاومة والتصدّي لهذا التمرد بحسب مفهومهم.
طلبت من مدير الأمن العقيد علي عقيلة أن يتحدّث إلى زملائه ويبلغهم أن الثورة انتصرت، وأن عليهم ألا يقاوموا حفاظًا على سلامتهم
في الساعة العاشرة والنصف صباحًا، وصلت كتيبة مدفعية من مصراتة تحت إمرة الضباط الأحرار، فاتصل بي عبد الله الحجاز، أحد ضباط الكتيبة، وسألني: "أين ستتمركز الكتيبة؟ وما هو الواجب؟" فقلت له: "تتمركز في منطقة تاجوراء وتصوّب مدافعها في اتجاه القاعدة الأميركية. وفي حالة إقلاع أي طائرات من القاعدة يجب تدمير 'هناجر' (مخابئ) الطائرات والمهابط. امنعوا أيّ طائرة من الإقلاع". وبالفعل تلقت القاعدة الرسالة وفهم ضباطها مضمونها الصارم، وهكذا تمّ شلّ حركة القاعدة الأميركية منذ ساعات الصباح الأولى. في الظهيرة، ذهبت صحبة الأخ عبد المنعم الهوني لمقابلة ولي العهد حسن الرضا السنوسي الذي كان قد اعتُقل في معسكري بباب العزيزية، وأخذنا معنا جهاز تسجيل، ثم طلبنا منه أن يتنازل طوعًا عن العرش، فوافق. وهكذا أعلنا عبر الإذاعة تنازل ولي العهد عن الحكم، وكان هذا أمرًا بالغ الأهمية؛ إذ كان الملك إدريس السنوسي في رحلة إلى اليونان، وقد أناب عنه ولي العهد. أتذكر أنني أنا والأخ معمّر كنّا خلال الفترة 1968-1969 نقوم بزيارة بعض المناضلين من القوميين العرب الذين وضعهم النظام الملكي العميل في السجون، وكان من بينهم الدكتور محمود المغربي، وعمر المنتصر، وعز الدين الغدامسي، وعبد السلام الزقعار، وسواهم ممن نسيت أسماءهم، ولكن من دون أن أنسى نضالهم، وقد بنينا معهم علاقات نضالية وشخصية حتى حين كانوا في السجون. تولى هؤلاء المناضلون مناصب سياسية مهمة في أعقاب الثورة، فأصبح محمود المغربي أول رئيس وزراء، بينما تولى عمر المنتصر مناصب وزارية عدّة، وكذلك الأمر مع الغدامسي الذي تولى حقيبة المالية. قبل الثورة بأشهر قليلة، علمنا أن بعض الضباط الوطنيين الأعلى رتبة منّا، شكلوا تنظيمًا. وعلى الرغم من أن التنظيم كان في بداياته، فإننا - أنا ومعمّر - قرّرنا الاتصال بهم، وأذكر أن من بينهم الرائد المكي أبو زيد، والرائد محمد عزوز، وعرضنا عليهم التعاون وتوحيد الجهود لإنجاز الثورة، وقال لهم الأخ معمّر: "نحن مستعدون لأن نضع حركتنا تحت تصرفكم"، لكنهم رفضوا أي شكل من أشكال التعاون، بل إنهم أنكروا أن يكون لهم "تنظيم". بعد انتصار الثورة بثلاثة أيام، اجتمعت بإخوتي وقلت لهم: "اسمعوا جيدًا ما سأقول. أولًا، أنا منذ يوم الفاتح، لست أخًا لكم. أنا أخ لكل الليبيين. ثانيًا، ستجدون الكثير من الليبيين يتقرّبون منكم ويطلبون صداقتكم فاحذروهم، وحافظوا على صداقاتكم القديمة". لقد تثقفت وتعلمت أن الحدّ الأدنى في سلّم الأيديولوجيات، هو الوطنية. لا أستطيع أن أنزل إلى العائلة أو القبيلة والعشيرة والطائفة.
على هذا النحو، تصرفت مع عائلتي وقبيلتي بقسوة، حفاظًا على إيماني بأنني لكل الليبيين. كما كنت عدوًّا للأجهزة الأمنية، والمستشارين المعيّنين أو المتطوعين، وحذرًا إلى أبعد الحدود منهم، لأنني تعلمت من التاريخ أن هؤلاء جميعًا يشكلون خطرًا على أيّ زعيم أو قائد سياسي؛ إذ إن دورهم هو تخويف القيادي والزعيم من الشعب، وخداعه بفكرة زائفة مفادها أن الجميع يكرهونه أو يقفون ضده، وأنهم وحدهم منْ يكنّون له الحب الصادق، وأنهم "مستعدون للموت من أجله". في صباح يوم "الفاتح" تمّت السيطرة على العاصمة ودار الإذاعة ومحطات الإرسال.
القذافي: لا أريد أن أنحني لأحد حتى لربي.
قبل أيام قليلة من الثورة، كنت قد ذهبت صحبة الأخ إبراهيم أبجاد لاستطلاع منزل مذيع متميّز في الإذاعة اسمه محمد المطماطي، ولذلك ذهبت صباح يوم الثورة إلى منزله ومعي قوة عسكرية وقمنا بإحضاره إلى دار الإذاعة، ثم ربطنا الاتصال مع بنغازي لتمكين الأخ معمّر القذافي من إذاعة البيان الأول للثورة. بيد أن إذاعة البيان تأخرت؛ ولذا سيطر علينا الخوف، وبعد ذلك علمنا أنّ الأخ معمّر ظل في غرفته ولم يتوجه إلى دار الإذاعة من أجل إذاعة البيان الأول، لأنه كان يريد التأكد مِن أنّ الثورة انتصرت وسيطرت سيطرة تامة. في هذا الوقت، كنّا نعتقد أن الإخوة لم يتمكنوا من السيطرة على مدينة بنغازي والبيضاء وعلى محطة الإذاعة، فانتابنا القلق الشديد. وبعد ذلك علمنا أن القوات، التي تحركت من مدينة درنة إلى مدينة البيضاء قد طلبت من قوة من الجنود بقيادة أحد الضباط تنفيذ مهمة الاستيلاء على الإذاعة في البيضاء. ولكن المجموعة المكلّفة ضلّت الطريق في البداية، بينما كانت بنغازي تنتظر الربط الإذاعي ليذاع البيان في آنٍ واحد من طرابلس وبنغازي والبيضاء. وقد صاغ البيان الأخ معمّر، الذي كان موجودًا في بنغازي، وجعله عامًّا، وهدف إلى إعلام الشعب الليبي بقيام الثورة وانتصارها للشعب والعالم، وليطمئن العالم بأن الثورة عمل داخلي يخص ليبيا والليبيين، وأن الثورة تحترم الاتفاقيات الدولية.
قاومت وعارضت تحول الحركة إلى حركة عسكرية، ولكن - للأسف - حصل الأخ معمّر على موافقة أغلبية اللجنة المركزية للوحدويين الأحرار.
أكدت لنا مجريات الأحداث أن النظام الملكي كان منهارًا، وأن ثورة الفاتح جاءت لتعلن سقوطه فحسب، ودليلي على ذلك ما يلي:
- لم تواجه الثورة أي نوع من المقاومة، ولم تطلق القوة المتحركة، الجيش الموازي، ومعها الجيش، رصاصة واحدة، ما عدا بعض أعمال المقاومة المحدودة في طرابلس. ولذا، عُرفت ثورة الفاتح في الأوساط الشعبية الليبية بـ "الثورة البيضاء".
- رغم إعلان حالة الطوارئ ومنع التجوال، فإن الجماهير رفضت الإذعان للقرار، وخرجت المدن والقرى عن بكرة أبيها إلى الشوارع في كتل بشرية هائلة دعمًا للثورة، وصعدت حشود من الجماهير فوق المدرعات والسيارات، وأخذت تغمر الجنود بالقبلات ومشاعر الحب والتأييد، كما أن الأسر الليبية خرجت لتوزع الطعام بين الجنود.
وتعود بي الذاكرة إلى حادثة مهمة وقعت في مدرسة سبها الإعدادية. كان أحد مدرسينا، واسمه محمد مصطفى المازق، من مدينة مصراتة، وكان على مستوى رفيع من الثقافة والوعي، وشجاعًا، وكان يرأس في هذا الوقت تحرير صحيفة فزّان، فحوّلها من صحيفة صفراء إلى صحيفة رأي تحظى باحترام القرّاء. وبعد أن أحيل إلى التقاعد، ذهب إلى مدينة بنغازي وأسس "وكالة آسيا للاستيراد"، وهو أول من أدخل بضائع الصين الشعبية إلى السوق الليبية، وكنت أنا والأخ معمّر نزوره في منزله أو في الوكالة، وكان على علم بتنظيمنا؛ ولذا أصبح أحد أكثر المشجعين والمحرضين لنا على الثورة، فكان يقول لنا:"يا أبنائي، الجيش والقوة المتحركة وكبار الضباط بنياشينهم هم عبارة عن هيكل كارتوني. هؤلاء مثل 'الهبي' (الرماد تنفخه يطير)".
كانت الجماهير، وهي تخرج لتأييد الثورة، تشكل صورة رائعة لتلاحم عفوي وصادق
كانت الجماهير، وهي تخرج لتأييد الثورة، تشكل صورة رائعة لتلاحم عفوي وصادق، وكنّا في منتهى السعادة حينما نشاهد من خلال شاشة التلفزيون هذه الصورة الرائعة. وقد سألني أحد الصحافيين الأجانب، لا أذكر من أي وسيلة إعلامية كان: "ماذا تتمنى؟"، فقلت: "أتمنى لو أني مواطن عادي لأعيش هذه اللحظات، لأن الذي يصنع الحدث لا يتذوق حلاوته".
وقد صدرت عن الثورة مجموعة من القرارات المهمة عشية قيامها، كطرد القوات الأميركية والبريطانية من ليبيا، وطرد الجالية الإيطالية، والبدء الفوري بالمفاوضات مع شركات النفط؛ لأننا كنّا نؤمن بضرورة استغلال زخم الثورة وتحقيق المفاجأة في هذه المعارك الثلاث. وبعد انتصار الثورة بأسابيع، تأسس بصفة عفوية تنظيم سياسي شعبي اسمه "التنظيم الشعبي"، وكان نتاجًا لتنادي بعض الوطنيين والقوى الثورية والواعية والفاعلين الاجتماعيين. كان التنظيم حركة شعبية ذاتية بامتياز، تكونت في الشوارع والأحياء في أهم المدن والقرى، واعتمد التنظيم على إمكانيات أفراده المادية. ومع أنه ضعيف تنظيميًا، فإنه كان فعالًا جدًّا وأدى دورًا رائدًا في احتضان الثورة، ووفّر لها عمقًا جماهيريًا، ولم يعتمد على "قوة الثورة" بل على قوته وإمكانياته، فكان تنظيمًا دعويًا فاعلًا. ثمّ طورت الثورة هذا التنظيم وأصبح جزءًا من مرحلة بناء "الاتحاد الاشتراكي" عام 1971. كان قرار تأسيس الاتحاد الاشتراكيقرارًا "فوقيًا" في مرحلة انتصار الثورة، واعتمد على إمكانيات الثورة المادية والمعنوية، وقد اعتُمِدت معايير دقيقة في اختيار أعضائه، وكانت مهماته سياسية ودعوية، فأصبح تنظيمًا منضبطًا، وظل بعيدًا عن التورط في قمع الجماهير؛ لأننا اعتمدنا أسس بناء الأحزاب ومعاييره. وهكذا أصبح الاتحاد الاشتراكي هو "واجهة الثورة" السياسية والدعوية، وبات لديه رؤية جماعية، وانتقل سريعًا من مرحلة التعلق والإعجاب بالأشخاص إلى مرحلة الالتزام والإيمان بأيديولوجية الثورة. ثمّ تنبه الأخ معمّر لهذا الأمر، وشعر بأنه سيشكل عائقًا أمام تحوله إلى دكتاتور وشيخ قبيلة؛ ولذا قام بحله في نهاية عام 1972، وأسس محله ما سوف يعرف باسم "حركة اللجان الثورية"، وهي حركة مفتوحة لكل مَن هبّ ودبّ، وكان القصد منها أن تصبح أداة في قمع الجماهير وتخويفها، وجهازًا للتطبيل والتزمير.
في الأيام الأولى للثورة، ذهبت إلى مدينة بنغازي للاجتماع بالأخ معمّر. قرّرنا أن نستقل طائرتين تابعتين لوزارة الزراعة لرش المُبيدات. الطائرتان صغيرتان ويمكنهما أن تقلَّا شخصًا آخر إضافة إلى الطيّار. اتجهنا من بنغازي إلى منطقة الأبيار ومنها إلى البيضاء لتفقّد الأوضاع في هذه المناطق، وكان هذا من وجهة نظري قرارًا متهورًا وقاتلًا؛ إذْ كان يمكن إسقاط الطائرتين ببندقية. لما وصلنا إلى منطقة الأبيار، لاحظنا في عيون بعض الضباط ووجوههم ممّن هم أعلى رتبة منّا، نظرات التآمر، وهذا ما لاحظناه في البيضاء. لقد رأينا في عيونهم علامات بدايات التآمر على الثورة في أيامها الأولى. كان من السهل جدًّا القبض علينا، وكان هذا كافيًا لإفشال الثورة. بيد أن العناية الإلهية شلّت تفكيرهم، وأدخل الله الرعب والخوف في قلوبهم؛ وهذا أكبر دليل على أن الله أراد أن ينتصر للشعب الليبي، وما نحن سوى "أداة". عدت مع الأخ معمّر إلى طرابلس بعد هذه الجولة، وكان مجلس قيادة الثورة قد أصدر، في 2 أيلول/ سبتمبر 1969، قرارًا بتعيين سعد الدين أبو شويربرئيسًا للأركان. كان أبو شويرب يتمتع بمواصفات تجعلنا نختاره لهذا المنصب؛ فهو إنسان طيب القلب وليس له أي مطامع في السلطة. وبوصفه عسكريًا محترفًا، فقد كانت له سمعة طيبة في أوساط الجيش. بيد أننا اكتشفنا، بعد إصدار القرار، أن أبو شويرب لم يكن في ليبيا. كان في رحلة إلى إسبانيا وعاد منها يوم 17 أيلول/سبتمبر، أي بعد سبعة عشر يومًا من الثورة. رفض الأخ القذافي تعيينه على رأس مجلس قيادة الثورة، كما رفض قرار ترقيته إلى رتبة عقيد. وهكذا بدأ معمّر في وقت مبكر رحلة الخبث والخداع؛ فقد كان يتقمص شخصية الزاهد والملاك لإخفاء شخصيته الحقيقية بوصفه شيخ قبيلة، ورجلًا سلطويًّا من طراز الشخصيات المتعطشة للمال والسلطة. في هذا الوقت، كان جمال عبد الناصر يتصل بنا في مجلس قيادة الثورة؛ ويطالبنا بإعلان معمّر القذافي رئيسًا للمجلس، وكان يقول لنا صراحة: "إذا لم تعلنوا هذا، فسوف يكون هناك خطر على الثورة، وقد تتعرض للسرقة". قرّرنا، أخيرًا تحت ضغط عبد الناصر، الإعلان بأن معمّر القذافي هو رئيس مجلس قيادة الثورة وترقيته إلى رتبة عقيد، وكتبت بنفسي نصّ خبر الترقية وتعيينه رئيسًا لمجلس قيادة الثورة في 8 أيلول/سبتمبر 1969، ثم سلّمت النصّ إلى الإذاعة.
بعد انتصار الثورة بأسابيع، تأسس بصفة عفوية تنظيم سياسي شعبي اسمه "التنظيم الشعبي"، وكان نتاجًا لتنادي بعض الوطنيين والقوى الثورية والواعية والفاعلين الاجتماعيين
في الأسابيع الأولى للثورة، كنّا نمارس مهماتنا من مبنى وكالة الأنباء الليبية والإذاعة كذلك. في هذا الوقت، بدأ بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة يمارس ضغوطًا من أجل الإعلان عن أسماء أعضاء المجلس، وكان الأخ معمّر يقاوم هذه الضغوط مُعللًا الأمر بشتى الأسباب، حتى قال صراحةً ذات يوم: "من مصلحة الثورة ألا نعلن الآن عن أسماء أعضاء المجلس"، لكن لم يكن أحدنا مقتنعًا بكلام معمّر. وفي حين كنت في زيارة سريعة لفرنسا، دخل الأخ معمّر إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية بسيطة، فبادر أعضاء المجلس إلى الإعلان عن أسماء "أعضاء مجلس قيادة الثورة"، وكان هذا بمبادرة من إمحمد المقريف.
في 16 كانون الثاني/يناير 1970، أصدر مجلس قيادة الثورة قرارًا بتشكيل الوزارة برئاسة الأخ معمّر، وتوليت حقيبة وزارة الداخلية. كان أكبر تحدٍّ واجهني هو العمل على تأسيس ثقافة وعلاقة جديدة بين المواطن والشرطة، وكيف تقوم مؤسسة الشرطة بمهماتها بصفتها "شرطة الشعب"، وكيف نقنع المواطن بأنّ الشرطة هي "شرطته"، بخاصة أنّ القيادة شنّت حملة إعلامية على النظام الملكي العميل، وكنّا نصفه بأنه "نظام بوليسي". وكذلك فعلت وسائل الإعلام، بحيث اعتقد المنتسبون إلى الشرطة أننا نقصدهم، وأدى هذا الوضع إلى تدنّي معنوياتهم، بالتلازم مع ظهور السلبية في أعمالهم، بل كانوا يتوارون عن الأنظار، فقرّرت أن أنظّم عدة لقاءات في مناطق كثيرة، فقلت لهم: "حينما تتحدث القيادة ووسائل الإعلام عن الحكم البوليسي، فنحن لا نقصد المنتسبين إلى الشرطة، وإنما نقصد السياسة التي كان النظام الملكي العميل ينتهجها، أمّا أنتم، فتنفذون الأوامر لأنكم في النهاية مواطنون، ولو أنكم كنتم في الجيش لقمتم بالثورة". والمثل الشعبي يقول: "الذي سبقه أخوه في المعركة ما ذل". ورغم مشاغلي، فقد أشرفت بنفسي، بمعونة وكيل وزارة الداخلية أحمد فوزي إهلال - وهو عقيد في الجيش كنت تحت إمرته في مدرسة الهندسة، وكان يتمتع بقدرٍ عال من سمو الأخلاق والمعرفة والعلم - على اختيار الملابس الجديدة للشرطة.
في إثر ذلك، اقترح الأخ معمّر عليّ أن أتولى وزارات الاقتصاد والخزانة والصناعة، فرفضت، لكنه ظل متشبثًا بمقترحه هذا، حتى إن الرئيس عبد الناصر اتصل بي مرتين، طالبًا مني أن أتولى الوزارات الثلاث نظرًا إلى أهميتها وحيويتها، وقال لي حرفيًّا: "يا عبد السلام، الثورة هي تغيير حياة الناس ورفع مستواهم المعيشي والحياتي. أنت الوحيد الذي يستطيع أن يفعل ذلك". وتحت ضغط المطالبات المتكررة من الأخ معمّر وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، وعبد الناصر، قبلت على مضض، فطلبت من النقيب الريفي علي الشريف، الذي كان يشغل منصب الأمين العام لمجلس قيادة الثورة، أن يتصل بوكلاء الوزارات الثلاث ويطلب منهم تجميع كل الموظفين والعاملين في قاعة مركز البحوث الصناعية بمنطقة طريق الشط، ثم ذهبت للالتقاء بهم، وقلت: "جاءت الثورة لتحرّر طاقاتكم وقدراتكم وإبداعاتكم كمواطنين أحرار، ولتبدأوا رحلة بناء بلدكم. إن الثورة هي التي منحتكم هذه الفرصة. من الآن فصاعدًا، يجب على كل فرد منكم، أن يشعر أنه 'معمّر' و'المحيشي' و'أبو بكر يونس' و'المقريف'. يجب أن تتحرروا من الخوف، وأن تثوروا على البيروقراطية. وهذا كله يتطلب منكم أن تتمتعوا بثقة عالية في النفس. هذه الثورة ثورتكم، وإذا ما وقع أحد في أي أخطاء، فأنا أتعهد أمامكم أنني من سوف يتحمل المسؤولية. تصرفوا دون خوف واعملوا بنشاط". وقلت: "أنا أفرّق بين الخطأ المقصود الذي يرقى إلى درجة التآمر، والخطأ المصاحب للعمل والحركة"، ثم وقّعت أمامهم قرارًا كنت قد أعددته. بعد الثورة مباشرة، أصبح الدكتور محمود المغربي رئيسًا للوزراء خلال فترة قصيرة، وقد حاولنا أن تكون الوزارات من نصيب الوطنيين والمناضلين ضد الملكية وأصحاب الكفاءات والقدرات العلمية، وكان من بين الوزراء في الوزارة التي شكّلتها، الدكتور علي عميّش والدكتور عبد الرحيم بالو، ومنصور الكيخيا، كما أن صالح مسعود بويصير الذي عين وزيرًا للخارجية كان عضوًا في مجلس النواب في العهد الملكي وحاول مع مجموعة من النواب المعارضين سحب الثقة من حكومة الملك، فجرى إلقاء القبض عليهم، إلا أن بويصير هرب إلى مصر متنكرًا في زيّ امرأة، ثم عاد بعد الثورة إلى ليبيا. ثم تولى المنصب الأخ معمّر القذافي، فأصبحت نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للداخلية. في هذا الوقت، قررت قضاء فصل الصيف في المصيف البلدي، وهو مصيف شعبي يعرفه كل سكان طرابلس، وكانت دورات المياه والحمامات مشتركة، واحدة للرجال وأخرى للنساء. كنت مع أسرتي في المصيف عام 1970 وكان رواد المصيف من بسطاء الناس والمواطنين العاديين ورجال الشرطة والجنود والعمال وعدد قليل من الكوادر. ذات يوم جاءتني مجموعة من المصطافين، وقال هؤلاء: "نحن نشعر بإحراج وحتى إهانة حين نشاهد عبد السلام جلود وزوجته وأولاده وبناته، ينتظرون، في الطابور، دورهم لاستخدام هذه المرافق. نريد أن نتبرع بمبلغ من المال لنبني لك ولأسرتك دورة مياه وحمام مستقلين"، فقلت لهم: "أنا أشكر لكم مشاعركم، ولكنني أشعر بسعادة وراحة نفسية حينما أقف في الصف أنا وأسرتي وننتظر دورنا مثلكم". وهكذا كنت كل عام أقضي الصيف وسط الناس. في مطلع الثمانينيات، وحين بدأت بوادر الخلافات مع الأخ معمّر، أخذ معمّر يشعر بالضيق وربما الغيرة من وجودي وسط الناس، وكان يقول لي: "يا عبد السلام، خلينا نبني لك استراحة خاصة على شاطئ البحر في أي مكان ترغب فيه"، فرفضت الفكرة من أساسها؛ لأنني كنت أدرك أنه يريد ضرب صدقيتي، ولأن كان لمعظم الضباط الأحرار والوزراء والقيادات الشعبية وقيادات اللجان الثورية إمّا استراحات خاصة وإمّا كانوا يقيمون في المدن السياحية. ويبدو أن العناصر الفاسدة كانت تنقل له صورة زائفة وكاذبة عن وجودي في هذا المصيف، وأن عبد السلام يقضي سهرات راقصة ويشرب الخمور مع المصطافين، حتى إنه فاجأني، كما فاجأ رواد المصيف ذات ليلة، بزيارة غير متوقعة، فوجدني مع المصطافين، بعضنا يلعب طاولة الزهر وآخرون يلعبون "الكوتشينة" (الورق) ونحن نتناول الشاي. أمضى معمّر معنا نحو ساعتين ثم غادر. في اليوم التالي، اتصل بي هاتفيًّا وهو يشتم "العناصر الفاسدة". وقال: "هؤلاء أعطوني صورة زائفة عنك وعن رواد المصيف"، فقلت له: "يا أخ معمّر أنا أشعر بالأسف لحالك حين تعتمد على هؤلاء الفاسدين وتستمع لأكاذيبهم". في عام 1983، قرر الأخ معمّر هدم المصيف وإزالته، وكان هذا مثار حيرة وتساؤل من كل سكان طرابلس تقريبًا، لم يكن أحد يعرف أي سبب مقنع لهذا التصرف.
في أواخر الثمانينيات، كنت أنا ومعمّر في منطقة "جهنم" التي تقع جنوب شرق مدينة سرت، وقد عُرفت بهذا الاسم لارتفاع درجة حرارتها في فصل الصيف. وبينما كنّا مع بعض نتجاذب أطراف الحديث، ونستعيد ذكريات الماضي، جاء وقت صلاة المغرب، فقمنا للصلاة، وأَمّنا معمّر، وكنت خلفه قليلًا، فلاحظت أنه لم يسجد بشكل صحيح، فقلت له: اسجد صح، يا رجل. .. لكنه لم يُعر طلبي أيَّ اهتمام. وبعد الصلاة قال لي: أنا لا أريد أن أفقص لأحد، حتى لربي، أي إنني لا أريد أن أنحني لأحد حتى لربي.