عام لشولتز في السلطة: مزيج من التردد والحزم

06 ديسمبر 2022
شولتز في قمة العشرين بإندونيسيا، نوفمبر الماضي (كيفن لامارك/فرانس برس)
+ الخط -

لألمانيا الموحّدة بدءاً من عام 1990، ثلات حقبات أساسية. الحقبة الأولى مطبوعة بالانتقال السلمي من ألمانيتين شرقية وغربية إلى ألمانيا الاتحادية، بقيادة المستشار هلموت كول.

الحقبة الثانية تتمحور حول مسار المستشارة أنجيلا ميركل بين عامي 2005 و2021. أما الحقبة الثالثة فمزيج مكثف من مرحلة انتقالية عنيفة، تتضمن أحداثا إقليمية ودولية كبرى وانعكاساتها في الداخل الألماني، ومستقبل برلين ما بعد كول وميركل، متصل خصوصاً بما يُمكن أن يفعله المستشار الحالي أولاف شولتز.

ظروف قاسية على شولتز

لا يُمكن أن يُحسد شولتز الذي خلف ميركل، بموجب انتخابات سبتمبر/أيلول 2021، تحديداً لأن ائتلافه الحكومي لم ينجح في تمتين موقعه في السلطة وكسب المواطنين إلى جانبه، كما فعلت المستشارة السابقة. وقد تكون الظروف القاسية التي يمرّ بها العالم، سواء بالغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياته على أسعار الطاقة والتضخّم، أو صعود قوى من خارج المعسكر الغربي، تحديداً الصين، من أهم التحديات التي يواجهها شولتز.

وفي عامه الأول في المستشارية، بدا شولتز متردداً في بعض القرارات وحازماً في أخرى. تردد في إمداد أوكرانيا بالأسلحة قبل تغيير الموقف في الأسابيع التالية للغزو الروسي، الذي بدأ في 24 فبراير/شباط الماضي، وصولاً إلى تنامي الحديث حول إمكانية تزويد كييف بمنظومة صواريخ "باتريوت" من برلين لحماية أجوائها.

وفي الوقت نفسه، حافظ شولتز على تواصله مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مثله مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. في المقابل، بدا حزمه واضحاً في قرار تفعيل الجيش الألماني وتخصيص ميزانية قدرها 100 مليار يورو سنوياً، من أجل تحويله إلى ثاني أقوى جيش في حلف شمال الأطلسي خلف الولايات المتحدة، وهو الموقع الذي يحتله حالياً الجيش التركي.


تردد شولتز في إمداد أوكرانيا بالأسلحة في الأيام الأولى للغزو الروسي

ومع أن 64 في المائة من الألمان غير راضين عن الحكومة الائتلافية التي يقودها شولتز مع البيئيين والليبراليين، وفق استطلاع للرأي أجراه معهد "إنسا" ونُشرت نتائجه أول من أمس الأحد في صحيفة "بيلد"، إلا أنه "نظراً إلى الأحداث المأساوية التي جرت هذه السنة، فهو في وضع جيد جداً"، وفقاً لقول الأستاذ في جامعة برلين الحرة، نيلس ديدريش، لوكالة "فرانس برس"، أول من أمس الأحد.

بدورها، لفتت مديرة أكاديمية التربية السياسية في توتزينغ، أورسولا مونش، لـ"فرانس برس"، إلى أن "حكومة شولتز مؤلفة من ثلاثة أحزاب ذات أهداف مختلفة جداً (الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الحزب الديمقراطي الحر، حزب الخضر)، وهذا لا يسهّل عليه المهمة".

وأوضحت أن "ممارسة الحكم ازدادت صعوبة، إذ بات النظام السياسي مشرذماً أكثر منه في عهد المسيحية الديمقراطية أنجيلا ميركل".
مع العلم أن حكومة شولتز نجحت في تنفيذ بعض نقاط برنامجها، مثل زيادة الحد الأدنى للأجور للساعة إلى 12 يورو مقابل 9.6 يورو من قبل، وإصلاح نظام تعويضات البطالة، وهما موضوعان يتمسك بهما الاشتراكيون الديمقراطيون.

ويجري العمل حالياً على ملفين آخرين هما تشريع الحشيش وتحديث قانون التجنيس. غير أن ملف السياسة المناخية يهدد بتفكيك التحالف الحكومي، كون الحرب الأوكرانية دفعت شولتز إلى تأجيل التركيز على المناخ، بغية تأمين الطاقة للداخل الألماني، سواء عبر إعادة تفعيل الفحم الحجري أو تمديد تشغيل محطات نووية.

"الهمّ الألماني" شكّل هدفاً لطبيعة عمل شولتز، فعمد إلى تخصيص 200 مليار يورو، ضمن خطة المساعدات الوطنية، لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة.

وهي خطة عرضها في سبتمبر/أيلول الماضي، حين كانت أوروبا مرتعبة من فكرة انقطاع الكهرباء ونقص التدفئة في الشتاء، على خلفية التخلي عن الغاز الروسي. ومع أن الخطة لم تلقَ استحسان العديد من دول الاتحاد الأوروبي، التي لا تملك موارد بمستوى موارد ألمانيا، إلا أن شولتز استمر في اندفاعاته.

وأدى ذلك إلى خروج الخلافات في وجهات النظر بين باريس وبرلين إلى العلن، مع توجيه ماكرون انتقاداً مبطناً إلى شولتز بقوله: "لا يجب لألمانيا أن تعزل نفسها، فهو أمر غير مستحب، لا بالنسبة لها ولا بالنسبة لأوروبا".

غير أن شولتز ظلّ متمسكاً بالوحدة الأوروبية، داعياً إلى توسيع الاتحاد الأوروبي ووضع حد لحق "الفيتو" في مؤسساته. أما النقطة الأهم التي يركّز عليها، فهي تراجع شعبية ميركل بالذات، مما يسمح بخروجه من ظلالها تدريجياً.

ويعود السبب إلى أن ميركل شكّلت عملياً نقطة وصل بين الغرب الأوروبي وروسيا، وسعت إلى تمتين العلاقات بين الطرفين، عدا عن كونها عرقلت دخول أوكرانيا إلى حلف الأطلسي في عام 2008، ودعمت العمل بخط أنابيب "نورد ستريم 2"، بعد ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014.

وهو ما دفع شولتز إلى القول في "البوندستاغ" (البرلمان) في الفترة الماضي، إن الحكومات السابقة لم تضع خطة للاعتماد على الطاقة المتجددة، والتخلي عن الطاقة النفطية والغازية.


دعا شولتز إلى بناء شراكات جديدة في عالم متعدد الأقطاب

وتزايدت النقمة على ميركل في الأوساط الشعبية الألمانية، إذ كشف استطلاع أجراه معهد "كيفي" الألماني في أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن "23 في المائة فقط من الألمان يرغبون في عودتها إلى السلطة".

وعملياً، مع كل صاروخ روسي يطاول البنى التحتية الأوكرانية، ومع كل قرار لبوتين بشأن ضمّ أراضٍ أوكرانية إلى روسيا، ومع كل تهديد بقطع الغاز الروسي عن أوروبا، تتدهور شعبية ميركل أكثر.

واعترفت المستشارة السابقة بخطئها بالتقارب مع بوتين بصورة غير مباشرة، حين تعهّدت للرئيس الأميركي، جو بايدن، قبل مغادرتها السلطة العام الماضي، بأنها ستوقف العمل بخط "نورد ستريم 2"، في حال اجتاحت روسيا أوكرانيا. وهو تعهّد طبّقه شولتز.

ألمانيا الضامن الأمني لأوروبا

وبمناسبة مرور عام على توليه السلطة، كتب شولتز مقالاً في مجلة "فورين أفيرز"، نُشر أمس الاثنين. وكان واضحاً تركيزه على أولوية ألمانيا في الأمن الأوروبي من جهة، وتمسّكه بمبادئ الأمم المتحدة من جهة أخرى، لكنه فتح باباً أمام ما وصفه بـ"عالم جديد متعدد الأقطاب".

ومع تشديده في مقاله على وجوب الاتحاد أوروبياً، غير أنه طرح مسائل عدة للنقاش، وأبرزها تتمحور حول كيفية تفاعل أوروبا مع "العالم متعدد الأقطاب؟".

وبدا جلياً أن شولتز بزيارته الشهر الماضي إلى الصين، لا ينوي إغلاق أبواب التعاون معها، على الرغم من تمسّكه بالمبادئ والقيم الديمقراطية والحرية والعدالة وحقوق الإنسان وتصاعد الغضب الفرنسي ضده، إذ عاد عبر مقاله للإيحاء بأن منطق "الواقعية" يبقى الأنسب لألمانيا، تحديداً عبر تطرّقه إلى أهمية التقدم التقني والاتصالات وتنامي التجارة الدولية وتوسّع سلاسل التوريد والإنتاج. وهو ما أتاح، وفقاً له، تبادل المعرفة وانتشال أكثر من مليار شخص من الفقر.

وضمن السياسة الواقعية الجديدة، شدّد شولتز على أن "العالم ليس محكوماً عليه بالانفصال مرة أخرى إلى كتل متنافسة"، محذّراً من إثارة حرب باردة جديدة، بل دعا إلى بذل كل الجهود نحو بناء شراكات جديدة. وإن كان شولتز ناقداً لأفعال بوتين، إلا أنه أكد أن الأخير أخذ روسيا إلى مسار بعيد عن أوروبا وعن أي نظام تعاوني سلمي.

وانطلاقاً من الغزو الروسي لأوكرانيا، اعتبر المستشار الألماني أن "الدور الحاسم لألمانيا في هذه اللحظة هو أن تتقدم كواحدة من العناصر الرئيسية للأمن في أوروبا، من خلال الاستثمار في جيشنا، وتعزيز صناعة الدفاع الأوروبية، وتعزيز وجودنا العسكري على الجناح الشرقي (بولندا، لاتفيا، إستونيا، ليتوانيا) لحلف الأطلسي، وتدريب وتجهيز القوات المسلحة الأوكرانية".

ورأى أن "الدور الجديد الذي تؤديه ألمانيا يتطلب ثقافة استراتيجية جديدة، ستظهرها استراتيجية الأمن القومي التي ستتبناها حكومتي بعد بضعة أشهر".

ومع الصين، اعتمد شولتز خطاباً هادئاً، مستنداً في الأساس إلى زيارته بكين الشهر الماضي، والاتفاق مع الرئيس الصيني شي جين بينغ على أن "التهديد باستخدام الأسلحة النووية أمر غير مقبول، وأن استخدامها من شأنه أن يتجاوز خطاً أحمر رسمته البشرية"، وذلك في خضمّ تلويح روسيا مراراً باستخدام النووي في أوكرانيا. يبدو حتى الآن أن "واقعية شولتز" حاضراً ومستقبلاً، قادرة على مقارعة "واقعية ميركل" السابقة.

(العربي الجديد، رويترز، فرانس برس)