عام على طوفان الأقصى: قراءة تقييمية

29 سبتمبر 2024
تظاهرة داعمة للفلسطينيين في ليون في فرنسا، 21/9/2024 (إلسا بييك/ فرانس برس)
+ الخط -

أيام قليلة وتحل الذكرى السنوية الأولى لـ"طوفان الأقصى"، ما يطرح تساؤلاً بشأن تقييمه الأولي، القابل للتغير والتغيير كون الحرب ما زالت قائمة، والمشهد لم ينته بعد، والمعلومات الدقيقة لم تتوفر للخبراء والمتابعين، لصعوبة الحديث مع صاحب قرار الطوفان خلال الحرب.

يدفعنا تقييم "طوفان الأقصى" الأولي إلى دراسة البيئة الاستراتيجية التي انطلق قرار الطوفان من رحمها، والعملية العسكرية التي مثلت شرارتها الأولى، والتداعيات التي رافقت العملية فلسطينيا وإسرائيليا، وإقليميا ودوليا.

أولاً: تحليل البيئة الاستراتيجية ما قبل طوفان الأقصى

يمكن تحليل البيئة الاستراتيجية ما قبل "طوفان الأقصى" ضمن ثلاثة مسارات، هي:

1-    المسار الفلسطيني: منذ فوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في انتخابات 2006 التشريعية، سعت بعض الدول الغربية، وإسرائيل، إلى فرض شروط على حركة حماس مقابل اعتراف دولي بالانتخابات، عرفت بشروط الرباعية الدولية، تتمثل في: الاعتراف بدولة إسرائيل، الالتزام بالاتفاقيات الموقعة، نبذ العنف. رفضت حركة حماس شروط الرباعية، وانقسم الوطن ما بين قطاع غزة، الذي تسيطر عليه حركة حماس، التي قادت قبل الانقسام الحكومة الفلسطينية، وبين سيطرة حركة فتح على الضفة الغربية، بعد ذلك فرض الاحتلال على قطاع غزة حصارا مشددا، منذ منتصف يونيو/ حزيران 2007، أثر على كافة مكونات الحياة في القطاع، كما شهد قطاع غزة أكثر من عدوان واسع، سقط خلالها آلاف الشهداء والجرحى، كما ازدادت معدلات الفقر والبطالة وانعدام الأمن الغذائي؛ أيضا عانى سكان قطاع غزة، نتيجة الحصار وإغلاق المعابر، من ويلات الفقر والمرض خلال السنوات الممتدة من 2007 – 2023.

نجح طوفان الأقصى في كسر هيبة دولة الاحتلال الإسرائيلي وأسطورته الأمنية أمام دول وشعوب المنطقة

إضافة لما سبق كله، لم تكن الضفة الغربية، والقدس، بعيدة عن إجرام دولة الاحتلال وممارسات مليشيات مستوطنيه، لا سيما في العام الأخير، منذ تأليف حكومة بنيامين نتنياهو الائتلافية، التي تشكلت على أساس حسم الصراع مع الفلسطينيين، وتضم من تيار الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش، صاحب نظرية الحسم وضم الضفة الغربية، وإيتمار بن غفير وغيرهما. إذ شهدت مدينة القدس العديد من الاعتداءات ومحاولات التهويد، وجلبت بعض التيارات الدينية الصهيونية البقرات الحمر لتنفيذ طقوس توراتية، ولتطهير الصحن المقدس من دنس المسلمين والمسيحيين على حد سواء، والبدء بخطوات بناء الهيكل المزعوم، وفقا لادعاءات هذه التيارات.

كما عانى الأسرى في السجون الصهيونية، خصوصا بعد تولي بن غفير مقاليد وزارة الأمن القومي، والمسؤولية المباشرة عن الشرطة ومصلحة السجون، إذ تعرض أسرانا الأبطال لانتهاكات عديدة وسط صمت دولي مطبق للأسف.

بناء عليه، يمكن قراءة المشهد الفلسطيني، باعتباره مدخلا من مدخلات صناعة قرار طوفان الأقصى، من زاويتين، هما:
الزاوية الأولى: تعتبر من بين أهم مبررات اتخاذ قرار "طوفان الأقصى"، والتي تنطلق من أنه خطوة اضطرارية لخلط أوراق مخططات حكومة الاحتلال، حسم الصراع، ورد طبيعي على سلوك الاحتلال ما قبل الطوفان، سواء المتمثل بانسداد الأفق السياسي، أو بالحصار الصهيوني لقطاع غزة وتداعياته، أو سلوك الاحتلال بحق الأسرى والمسرى والضفة المحتلة، في بيئة إقليمية ودولية تشهد مزيدا من اتفاقيات التطبيع، والتنكر للحقوق الفلسطينية، والكشف عن مخططات تمنح إسرائيل مكانة جيوسياسية في إقليم الشرق الأوسط، مثل ما أعلنه جو بايدن في قمة العشرين، المتمثل في إعلانه عن الممر الكبير، الذي يتطلب تشييد خط سكة حديدية تربط الهند مع القارة الأوروبية عبر إسرائيل ومروراً ببعض الدول العربية.

الزاوية الثانية: يمكن اعتبارها كابحة لاتخاذ قرار الطوفان، يقوم جوهرها على تحليل البيئة الاستراتيجية لقطاع غزة ما قبل طوفان الأقصى، إذ وصل معدل الفقر في قطاع غزة، نتيجة الحصار الصهيوني، حسب إحصاءات البنك الدولي إلى نحو 64%، كما بلغ معدل انعدام الأمن الغذائي في القطاع قرابة 68%، ووصلت نسبة البطالة إلى 46%، أغلب العاطلين من العمل من الشباب والخريجين. فوفقاً لما سبق يعارض بعضهم "طوفان الأقصى"، انطلاقاً من عدم قدرة قطاع غزة على مواجهة تداعياته.

بكل الأحوال يبقى السؤال عن أسباب ترجيح الزاوية الأولى على الثانية في سياق تحليل البيئة الاستراتيجية لقطاع غزة متروكاً للبحث والتقييم لاحقا، بعد انتهاء الحرب والاستماع إلى صناع القرار بشأن المعطيات التي رافقت صناعة القرار.

2. المسار الإسرائيلي: ازدادت الفاشية والتوحش والإجرام ضد الفلسطينيين في كافة أماكن وجودهم بعد تأليف حكومة نتنياهو الأخيرة، فكما ذكرنا بالمسار الفلسطيني حول شكل هذا الإجرام، وطبيعة المخططات التهويدية، وسط دعم لامحدود من دول الغرب الأطلسي، وعجز أممي عن تنفيذ مقررات الأمم المتحدة، وقرارات المحاكم الدولية بشأن إسرائيل.

إن تداعيات جريمة/ إرهاب الدولة الإسرائيلية على صورة إسرائيل ومكانتها الدولية سيكون لها ما بعدها

وفقا لرأي الكاتب، استند صانعو القرار في المقاومة الفلسطينية إلى هذا المسار ليخلصوا إلى ضرورة توجيه ضربة مباغتة لإسرائيل، تكبح جماحها وتفسد مخططاتها. أيضاً، لا بد عند تحليل البيئة الاستراتيجية للمشهد الإسرائيلي ما قبل طوفان الأقصى من الوقوف عند الأزمة السياسية والاجتماعية التي رافقت خطة الإصلاح القضائي والحراك الشعبي ما بين مؤيديه ومعارضيه، الذي وصل في بعض فصوله إلى حالة الصدام. هنا يعتقد الكاتب أنه كان من الأفضل لو تريث صناع قرار "طوفان الأقصى"، بل والأفضل لو ذهبوا نحو سيناريو وقف أعمال المقاومة كافة في الأراضي الفلسطينية، ومنح الفرصة لتزايد حدة الانقسامات والصراعات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي.

بناء عليه ووفقاً لتحليل البيئة الاستراتيجية الإسرائيلية تحليلا أوليا استنادا إلى المعطيات المتاحة اليوم، كان من الأفضل عدم تنفيذ "طوفان الأقصى" في ظل حالة اللااستقرار داخل المجتمع الإسرائيلي. هنا لا بد من التأكيد على أن هذا تقييم أولي، إذ إن التقييم الموضوعي مؤجل لما بعد انتهاء المعركة والاستماع لما استند إليه متخذو قرار الطوفان.

3. المسار الإقليمي والدولي: تراجعت مكانة القضية الفلسطينية قبل "طوفان الأقصى" تراجعاً لافتاً إقليمياً ودولياً، وبدأت عجلة التطبيع (السلام الإبراهيمي) بالدوران، استناداً إلى قاعدة السلام مقابل السلام، وليس الأرض مقابل السلام، وانشغل العالم بملفات أكثر أهمية من الملف الفلسطيني، مثل: الحرب الروسية الأوكرانية، سوق الطاقة، نفوذ الصين، الصراع المذهبي، والحرب على الإرهاب... إلخ.

هنا نلحظ أن البيئة الاستراتيجية الإقليمية والدولية داعمة لاتخاذ قرار "طوفان الأقصى" وتدعم صحة القرار، وهو ما تعزز بعد مرور عام على الطوفان، في ظل بعض المؤشرات الإيجابية التي تؤكد على نجاح "طوفان الأقصى" على المستوى الإقليمي والدولي، حيث أعاد للقضية الفلسطينية مكانتها وزخمها، وفي إطار حرب الرواية والسردية تفوقت السردية الفلسطينية على سردية إسرائيل، وهو ما انعكس على المزاج العام الغربي انعكاسا لافتا، لا سيما في الولايات المتحدة بين شريحة الشباب، فعلى الرغم من المجازر وجرائم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، إلا أن تلك الجرائم قد انقلبت على رأس إسرائيل وصورتها أمام الرأي العام العالمي، وفي المحاكم الدولية، وكبر حجم الإدانات والمقاطعة الاقتصادية التي باتت تهدد مصالح إسرائيل.

ثانياً: عملية السابع من أكتوبر (طوفان الأقصى)

في تمام الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة من صباح يوم السبت الموافق في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، دوت صافرات الإنذار في مدن دولة الاحتلال، ومع بزوغ الشمس بدأت تتكشف الأسباب، عملية طوفان الأقصى النوعية والأكبر في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من حيث التخطيط، والعمل الاستخباراتي، واختيار التوقيت، والنتائج. أسفرت العملية عن مقتل أكثر من ألف إسرائيلي، فضلاً عن عشرات الأسرى. كما كانت لها نتائج أكثر عمقا وأهمية تتمثل في:

1.    تمكنت عملية طوفان الأقصى من كي وعي الجمهور الإسرائيلي بشأن صورة جيشه، ما يعني أن ميزان المناعة القومي في إسرائيل (العلاقة بين المجتمع والمؤسسة العسكرية والأمنية) خلال الفترة المقبلة سيشهد تراجعا ملحوظا، ما يعني أن معدل الهجرة العكسية لرأس المال الاجتماعي في إسرائيل سيزداد.

عانى الأسرى في السجون الصهيونية، خصوصا بعد تولي بن غفير مقاليد وزارة الأمن القومي، والمسؤولية المباشرة عن الشرطة ومصلحة السجون

2.    نجح طوفان الأقصى في كسر هيبة دولة الاحتلال الإسرائيلي وأسطورته الأمنية أمام دول وشعوب المنطقة.

3.    أفشل طوفان الأقصى مخططات ومشاريع دولية عديدة كادت تمنح إسرائيل مكانة في الشرق الأوسط وقوة سياسية واقتصادية.

4.    رفعت روح الشعب الفلسطيني المعنوية، وأحيت واقعية فكرة التحرر الوطني والانعتاق من الاحتلال.

ثالثاً: تداعيات طوفان الأقصى داخلياً وخارجياً

تتمثل أخطر تداعيات طوفان الأقصى فلسطينياً في ما قامت به دولة الاحتلال من إبادة جماعية، أسفرت حتى الآن عن استشهاد أكثر من أربعين ألف فلسطيني، وتدمير معظم البنى التحتية، مستشفيات ومساجد ومدارس وكنائس وطرق ومنازل، ونزوح قسري جماعي لأكثر من مرة، وسط حصار خانق وتجويع وتعطيش، فضلا عن تقسيم القطاع ما بين شمال وجنوب.

لا يزال شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة يعاني من هذه التداعيات المؤلمة؛ لكن، ورغم ألم الفراق والخوف والمرض والجوع والواقع المؤلم لشعبنا ولكل المؤمنين بقيم الإنسانية وعدالة القانون الدولي الإنساني، فإن تداعيات جريمة/ إرهاب الدولة الإسرائيلية على صورة إسرائيل ومكانتها الدولية سيكون لها ما بعدها، والأهم هنا، بعد مرور عام كامل على طوفان الأقصى وحرب الإبادة الصهيونية على شعبنا، اشتعال جبهات داخلية وخارجية ضد إسرائيل ومصالح حلفائها، وهذه مسألة مهمة في توحيد جهود الأمة في مواجهة الكيان الغاصب. كما أن من تداعياته الدولية حجم التضامن الدولي والشعبي الرافض لجرائم إسرائيل والمطالب بمنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة.

بناء عليه، فإن المطلوب وطنياً اليوم هو:

1. التركيز على المشهد الإنساني ضمن حرب رواية وسردية قادرة على هزيمة الرواية والسردية الصهيونية لدى الرأي العام العالمي، وبناء رأي عام ضاغط لتنفيذ مبادئ بايدن (2/6/2024)، ومخرجات قرار مجلس الأمن (رقم 2735).

2. التوافق الوطني الفلسطيني الداخلي على ترتيبات اليوم التالي للحرب، ليكون يوماً فلسطينياً بامتياز.

3. عقد الإطار القيادي المؤقت لتنفيذ مخرجات اتفاق بكين، والتوافق على استراتيجية وطنية لدفع سيناريو المقاربة السياسية على أساس حل الدولتين باعتباره مدخلاً رئيساً لتوظيف طوفان الأقصى سياسياً.

4. منح الأولوية داخلياً وخارجياً لتعزيز صمود الفلسطينيين داخل قطاع غزة بكافة الوسائل والسبل.

إن الألم الذي صنعته الآلة الحربية الصهيونية الإجرامية بحق شعبنا في قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر، متخذة من طوفان الأقصى مبرراً وذريعة لها، هو امتداد للألم الفلسطيني ذاته السابق للعملية، الذي ضرب ويضرب كل الفلسطينيين منذ احتلال إسرائيل لفلسطين في مايو/ أيّار 1948، فمنذ النكبة حتى طوفان الأقصى لم تتوقف الجرائم الصهيونية بحق شعبنا ومقدساته.

المساهمون