مرّ عام على تمرير الرئيس التونسي قيس سعيّد دستوره الذي صاغه بمفرده، في استفتاء 25 يوليو/تموز 2022، لتبقى المؤسسات الدستورية حبراً على ورق، وسط تساؤلات عن سبب تعطل تركيزها رغم تفرده بجميع الصلاحيات.
ودخل دستور سعيّد حيز النفاذ بعد نشره في الجريدة الرسمية في 17 أغسطس/آب 2022، أي بعد أسابيع من إجراء استفتاء شعبي، قاطعته غالبية مكونات الطيف الحزبي والسياسي، ليسجل عزوفاً لافتاً بمشاركة 27.5 في المائة فقط ممن يحق لهم المشاركة في الاقتراع، بينما صوت المشاركون، وغالبيتهم من المساندين، بالموافقة بنسبة 94.6 في المائة.
وتُطرح تساؤلات مشروعة حول أسباب عدم تركيز سعيّد للمحكمة الدستورية، ولا المجلس الأعلى للتربية، على الرغم من أنه يمكنه تعيين أعضائهما بحسب الدستور الجديد، ولا يحتاج الأمر انتخابات أو تصويتاً داخل البرلمان كما كان سابقاً.
خالد الدبابي: هناك رغبة في تحجيم دور أي سلطة مضادة للسلطة التنفيذية
كما يستغرب متابعون عدم تنصيب هيئة انتخابات (التي تضم 9 أعضاء) كما يضبطه الدستور الجديد، فيما يتواصل العمل بهيئة انتخابية معينة منقوصة 3 أعضاء، وهي تُعد لانتخاب مجلس الجهات والأقاليم والانتخابات البلدية والمحلية التي لم يحدد موعدها النهائي بعد.
ويواصل البرلمان الجديد ترقب مبادرة الرئيس التونسي اقتراح قوانين أساسية لتنظيم الهيئات الدستورية وتنصيب أعضائها، فيما يتفادى النواب الجدد اقتراح قوانين كما يسمح لهم دستور 2022، لكنها من الناحية السياسية قد تمثل إحراجاً أو استفزازاً لسعيّد.
لا عائق أمام سعيّد لاستكمال تركيز المؤسسات الدستورية
وقال أستاذ القانون الدستوري خالد الدبابي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه "لا يوجد أي عائق قانوني أو دستوري أمام الرئيس يحول دون استكمال تركيز المؤسسات الدستورية، فالنصوص واضحة ودقيقة بخصوص التركيبة والصلاحيات، سواء حول المحكمة الدستورية أو هيئة الانتخابات أو المجلس الأعلى للتربية، وغيرها".
وأوضح أن "الدستور يشترط مرحلة إجرائية، وهي صدور نصوص عن السلطة التشريعية تعطي تفاصيل أكثر حول النظام الداخلي وطريقة سيره وتركيبة هذه المؤسسات، باعتبار أن الدستور لا يمكن أن يشتمل على هذه التفاصيل، لأن طبيعة النص الدستوري العام المقتضب أنه يقتصر على المبادئ العامة ويترك التفاصيل للسلطة التشريعية".
وأوضح الدبابي أن "هذه النصوص لم تصدر إلى اليوم، بالرغم من أن المجلس التشريعي بدأ عمله منذ أشهر، ولم يصدر عن السلطة التنفيذية أي مشروع قانون ينظم هذه المؤسسات، ولا بادر النواب بتقديم مقترحات".
واعتبر الدبابي أن "هذه الهيئات يتم تعيينها، بينما تركيز مجلس الجهات والأقاليم مختلف ومرتبط بإجراء الانتخابات المحلية والجهوية، لأن أعضاءها يتم تصعيدهم من القاعدة إلى الجهوي ثم الوطني".
وأضاف: "كذلك ننتظر صدور قانون ينظم هذا المجلس (الجهات)، لأن المرسوم المتعلق به شحيح في الحديث عن الصلاحيات، وعن علاقته بالغرفة الأولى (البرلمان)، ولا نعلم أيضاً سبب عدم صدور قانون ينظم العلاقة بين الغرفتين".
ورجح أستاذ القانون أن يكون هناك "رغبة في تحجيم دور أي سلطة مضادة للسلطة التنفيذية، بالرغم من أن هذه المحكمة ضعيفة في ما يخص الصلاحيات والتركيبة والاختصاصات، خصوصاً إذا ما قارناه بدستور 2014، ونلاحظ تخوفاً من تركيزها، ولا يمكن أن يفهم من هذا التلكؤ أو البطء في تركيزها إلا الرغبة في إقصائها، أو تحجيم دورها كسلطة مضادة قادرة أن تحمي علوية الدستور والرقابة على دستورية النصوص وتأويل الدستور".
واعتبر أنه "على المستوى الأخلاقي والسياسي لا يمكن قبول هذا البطء والتلكؤ، خصوصاً أننا نتذكر انتقاد رئيس الجمهورية لمسار تركيز المحكمة الدستورية سابقاً، وكيف أنه استعمل الفيتو في رفض قانون أساسي صادق عليه البرلمان السابق، واستعمل حجة أن أجل تركيزها الدستوري قد فات وأصبح مستحيلاً بعد ذلك الأجل".
لا غرابة في عدم إرساء سعيّد للمحكمة الدستورية
من جانبه، رأى شاكر الحوكي، رئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية والقانونية، وأستاذ القانون الدستوري، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "ما يسمى بدستور 2022 نص ارتجالي كتبه شخص واحد بخط يده لنزوة في نفسه، وعليه لا يمكن الحديث عن مؤسسات يمكن أن يفضي إليها هذا الدستور".
وشدد على أن "المؤسسات الدستورية تحتاج إلى دستور ديمقراطي وتشاركي، ونابع من الإرادة الشعبية، وفيه احترام للقانون الدولي والأعراف الدستورية وليس مجرد نص عبثي واعتباطي. ولذلك علينا ألا نستغرب عدم إقدام قيس سعيّد على إرساء المحكمة الدستورية مع أنه يملك أن يفعل ذلك بجرة قلم".
شاكر الحوكي: علينا ألا نستغرب عدم إقدام سعيّد على إرساء المحكمة الدستورية
وقال الحوكي إن "مشكل إرساء المحكمة الدستورية لا يتوقف على الإرادة السياسية بقدر ما يتعلق بوجاهة هذه المحكمة وجدواها، في ظل نظام اعتباطي وانفرادي، لأن المحاكم الدستورية في العالم وضعت لتعمل في ظل أنظمة ديمقراطية لا في ظل أنظمة الفرد الواحد. ولو كان سعيّد يحترم قرارات المحكمة الدستورية وينصاع لها، لكان الأولى به أن ينصاع إلى دستور 2014 الذي قام بإلغائه بجرة قلم".
وتابع الحوكي: "أما بالنسبة للمجلس الأعلى للقضاء فقد تم وضعه بتركيبة معينة، وهو يعمل ضمن تعليماته الصارمة والمسبقة، ومع ذلك فشل إلى حد الآن في تأمين النقلة القضائية السنوية على غرار ما كان مألوفاً ومعتاداً قبل الانقلاب".
واعتبر أن "هذا المجلس الذي وضعه سعيّد وفق هواه أكبر مؤشر على المصير المأساوي الذي ينتظر المحكمة الدستورية في صورة إرسائها. ذلك أن النظام السياسي لا يحتمل وجود مشرعين دستوريين في نفس الوقت: قيس سعيّد الإمام المعصوم، والمشرع والمحكمة الدستورية التي تشرع بدورها، لكنها تتكون من أعضاء بشريين ولا تملك أن تتجرأ على مراقبة ما يشرعه الإمام المعصوم" بحسب قوله.
وأضاف: "أما عن انتخابات مجالس الجهات والأقاليم فهذا جزء من مشروع سعيّد المتعلق بالتأسيس الجديد، وهو ما سيقوم به بلا أدنى شك، باعتباره جزءا من الحلم الذي يراود خياله منذ اندلاع الثورة التونسية". وتابع: "أما بالنسبة للبلديات، فإنه من الواضح أن سعيّد لا يبدي إزاءها أي حماس، فقد اكتفى بالإشارة إليها في فصل يتيم في دستوره الاعتباطي، والأرجح أنه سيعمد إلى نقل صلاحيات البلديات إلى مجالس الجهات".
مؤسسات دستورية ستتشكل
في مقابل ذلك، اعتبر المتحدث باسم "حركة الشعب" (حزب مساند لسعيّد)، أسامة عويدات، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "بالنسبة لتركيز المؤسسات الدستورية لا أرى عوائق أمامها، فهناك مؤسسات دستورية ستتشكل بطبيعتها، ونحن في سياق عام يقود نحو تشكيل مجلس الجهات والأقاليم، والمجالس المحلية بالضرورة".
واعتبر أنه "يمكن توجيه الحديث نحو المحكمة الدستورية دون تعميم مع باقي المؤسسات، لأن المحكمة الدستورية ضمانة حقيقية لاستمرارية هذه الدولة، ونحو مراقبة مدى دستورية الاتفاقيات والقوانين والمعاهدات. وفي تقديري الأهم هو تركيز المحكمة الدستورية اليوم".
وأضاف: "نحن كنا دائماً قاطرة دفع للأمام، وذلك من خلال مقترحات قوانين، وقد قامت الكتلة البرلمانية التي تنتمي لها حركة الشعب، خلال الدورة البرلمانية الأولى، باقتراح 3 مشاريع قوانين و30 سؤالا كتابيا. وبالنسبة لحركة الشعب ستدفع لتشكيل محكمة دستورية وتركيز بقية المؤسسات الدستورية".
لكن عويدات استدرك بأنه "يجب ألا ننسى كيف تم التعامل مع موضوع المحكمة الدستورية في الفترة السابقة، فقد بقينا 13 سنة بلا محكمة دستورية، وبالتالي نحن ما زلنا في السنة الأولى منذ دستور 2022 ولا يمكن مقارنة ذلك بهذا". وتابع: "في السابق كان موضوع المحكمة الدستورية موضوع مزايدة وتطويع سياسي، واليوم لم يعد الوضع كذلك، ولا يمكن بأي حال من الأحوال المقارنة، ونحن في طريقنا لتشكيل هذه المؤسسات الدستورية مستحضرين ما سجل خلال السنوات السابقة من فراغ".