يدخل الاتفاق الذي أبرمته تركيا وروسيا في الخامس من شهر مارس/آذار الماضي حول الشمال الغربي من سورية، عامه الثاني، في ظلّ معطيات تشير إلى أن الجانبين مُصّران على استمراره، على الرغم من أن بنوداً مهمة منه لم تنفذ حتى اللحظة. ويأتي ذلك فضلاً عن كون هذا الاتفاق، لم يراع على الإطلاق أوضاع أكثر من مليون مدني نزحوا من منازلهم خشية عمليات انتقام جماعية من قوات النظام السوري. ويجمع مراقبون على أن اتفاق موسكو حول إدلب بين الروس والأتراك، لا يزال صامداً، على الرغم من هشاشته، لكنه لم يحقّق المطلوب منه، لاسيما روسياً، لجهة تأمين كامل للطريق الدولي "أم 4" بغية استخدامه.
وفي الخلفيات التي قادت إلى التوصل للاتفاق، فقد كان الموقف في محافظة إدلب، شديد الصعوبة، في مطلع مارس/ آذار الماضي، وينذر بما هو أسوأ، حيث تولدت خشية حقيقية من صدامٍ عسكري بين الأتراك والروس في المحافظة الواقعة شمالي سورية. وفي ذلك الوقت، كان الجيش التركي قد دخل طرفاً مباشراً في الصراع، عقب مقتل أكثر من 30 جندياً تركياً، جرّاء قصفٍ جوي لقوات النظام على نقطة تمركز عسكرية تركية في إدلب. وتحت الضغط الشعبي، ردّ الجيش التركي على مقتل جنوده بطريقة غير مسبوقة، وقصف عشرات المواقع لقوات النظام في أرياف إدلب وحلب، واستخدم للمرة الأولى طائرات مسيّرة في هذا القصف، الذي أدى إلى مقتل وإصابة المئات من عناصر هذه القوات.
يصر الجانبان التركي والسوري على استمرار الاتفاق، رغم أن بنوداً مهمة منه لم تنفذ
وسبق ذلك أيضاً قضم قوات النظام ومليشيات تساندها، في الربع الأول من العام الماضي، وتحت غطاء ناري روسي، مناطق واسعة من أرياف إدلب وحلب، بعدما كانت انتزعت ريف حماة الشمالي أواخر العام 2019 من فصائل المعارضة السورية التي تراجعت بشكل دراماتيكي. وخسرت هذه الفصائل ريف حماة الشمالي، وريفي حلب الجنوبي والغربي، وجانباً كبيراً من ريفي إدلب الجنوبي والشرقي، بما فيه مدن كبيرة مثل معرة النعمان وسراقب وخان شيخون. وحينذاك لم يجد الروس والأتراك بديلاً عن التوصل إلى اتفاق جديد بينهما، ينهي تردي الأوضاع في المنطقة، وينزع فتيل صدام كان من شأنه خلط أوراق الأوضاع في الشمال الغربي من سورية.
ووقّع الرئيسان التركي والروسي، رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، في 5 مارس/آذار الماضي، اتفاقاً في العاصمة الروسية موسكو حول محافظة إدلب ومحيطها. ونصّ الاتفاق على وقف لإطلاق النار في المحافظة السورية، بالإضافة إلى إنشاء ممر آمن على طول الطريق الدولي حلب - اللاذقية "أم 4"، بعمق ستة كيلومترات من الجنوب ومثلها من الشمال، على أن يُتَّفَق على معايير محددة لإنشاء الممر بين وزارتي الدفاع التركية والروسية. أمّا البند الثالث، الذي يتمحور كذلك حول الطريق الدولي "أم 4"، فأشار إلى بدء تسيير دوريات مشتركة بين موسكو وأنقرة على الطريق الدولي من بلدة الترنبة (غربي سراقب)، وصولاً إلى بلدة عين الحور (آخر نقطة في إدلب من الغرب على تخوم ريف اللاذقية)، مع حلول يوم 15 مارس من العام الماضي.
لكن الوقائع المعقدة على الأرض حالت دون تنفيذ الاتفاق بحذافيره، باستثناء وقف إطلاق النار الذي تعرض لعدد من الخروقات من قبل قوات النظام والمليشيات الإيرانية، فضلاً عن غارات متقطعة من الطيران الروسي، أدّت إلى مقتل مدنيين، بينهم أطفال. ولم يستطع الجانبان التركي والروسي استعادة حركة الحافلات على الطريق الدولي "أم 4" الذي يربط غربي البلاد بشمالها ويقطع محافظة إدلب من الجنوب، حيث تعرضت الدوريات الروسية - التركية المشتركة لأكثر من استهداف من قبل مجموعات متشددة، ما أدى إلى إيقاف هذه الدوريات أواخر العام الماضي. وأعلنت مجموعة أطلقت على نفسها اسم "كتائب خطاب الشيشاني" مسؤوليتها عن استهداف الدوريات التركية والروسية أكثر من مرة على الطريق الدولي. ومدّد الثلاثي الضامن لمسار أستانة السوري (تركيا، إيران وروسيا) وقف إطلاق النار في محافظة إدلب في الجولة الأخيرة من محادثات هذا المسار، والتي جرت في مدينة سوتشي منتصف شهر فبراير/شباط الماضي.
ويبيّن محمد حلاج، وهو مدير فريق الاستجابة في محافظة إدلب، أن قوات النظام والمليشيات المساندة لها، والجانب الروسي، خرقوا اتفاق موسكو منذ إقراره حتى بداية الشهر الحالي 5289 مرة، واصفاً في حديث لـ"العربي الجديد"، هذا الاتفاق بـ"الهش، لكن الصامد لغاية اليوم". ويشير حلاج إلى أن المدنيين الذين نزحوا بعد تقدم قوات النظام "لا قدرة لديهم للعودة الى منازلهم"، موضحاً أن بعضهم عاد إلى مناطق قريبة من خطوط التماس تحت سيطرة فصائل المعارضة عقب الاتفاق "ولكن ليس على المستوى المأمول". ويلفت مدير فريق الاستجابة في إدلب إلى أن اتفاق موسكو "أمّن تهدئة في محافظة إدلب، ولكن الكارثة الإنسانية زادت وتعمّقت أكثر بسبب زيادة عدد النازحين في المخيمات القريبة من الحدود السورية التركية"، متحدثاً عن "مخاوف جدّية من انتشار فيروس كورونا المستجد بسبب الاكتظاظ السكاني".
لم يستطع الجانبان التركي والروسي استعادة حركة الحافلات على الطريق الدولي "أم 4"
وكان اتفاق موسكو قد خيّب آمال أكثر من مليون مدني نزحوا من المنطقة في الربع الأول من العام 2020، حيث لم ينص على انسحاب قوات النظام من المناطق التي سيطرت عليها في فبراير/شباط الذي سبقه، وخصوصاً مدينتي معرة النعمان في ريف إدلب الجنوبي وسراقب في ريف إدلب الشرقي. وعلى الرغم من اجتماع الخبراء الأتراك والروس خلال العام الماضي أكثر من مرة، إلا أنهم لم يتوصلوا إلى تفاهمات تدفع قوات النظام عن ريفي إدلب الجنوبي والشرقي لعودة النازحين.
من جهته، يشير القيادي في فصائل المعارضة السورية، العميد فاتح حسّون، إلى أن الاتفاق "عزّز تفاهمات سابقة بين موسكو وأنقرة حول الشمال الغربي من سورية، وثبّت خطوط تماس جبهات منطقة إدلب"، معتبراً أنه "بعد عام، فإن الاتفاق يسير بشكل مقبول نسبياً". ويرى حسّون أن "تحوّل نقاط المراقبة التركية إلى ثكنات عسكرية تضّم أعداداً كبيرة من القوى والوسائط، منع روسيا من التملص من الاتفاق كعادتها مع الاتفاقات السابقة". مبيناً أن "أهم بنود الاتفاق بالنسبة لروسيا، هو تأمين استخدام الطريق الدولي أم 4، وهذا لم يتحقق". لكن القيادي في فصائل المعارضة، يرى على الرغم من ذلك، أن "الاتفاق مضى بتفتيت فصائل متطرفة، على رأسها تنظيم حراس الدين التابع لتنظيم القاعدة، وكذلك أمّن تسيير دوريات مشتركة لروسيا مع الجيش التركي على الطريق الدولي، على الرغم من تعرض هذه الدوريات أحياناً لهجمات من الفصائل غير المعتدلة".
ويوضح حسّون أيضاً أن الاتفاق "حقّق لأهالي المناطق المحررة قدراً من الأمان والاستقرار، وإن لم يكن بالشكل المطلوب، وأبعد شبح حدوث هجوم عسكري كبير على المنطقة قد يؤدي إلى موجات لجوء جديدة باتجاه الأراضي التركية، لكنه لم يؤمّن عودة اللاجئين إلى بيوتهم التي هُجّروا منها، ولم يحقق وقفاً كاملاً لإطلاق النار". ويشير حسّون كذلك إلى أن المعارضة السورية "لم تستفد من الاتفاق لتحقيق مستوى أعلى إدارياً وخدمياً للأهالي في محافظة إدلب"، لكن "وسط الواقع المظلم الذي تعيشه سورية بسبب سياسة نظام الأسد وداعميه، فإن اتفاق موسكو يبقى طوق النجاة الوحيد المتوفر لإدلب في بحر التقاعس الدولي" بحسب رأيه.
لم يراع الاتفاق على الإطلاق أوضاع أكثر من مليون نازح وضرورة عودتهم
من جهته، استغل الجانب التركي اتفاق موسكو لتعزيز وجوده العسكري في عموم محافظة إدلب، حيث نشر آلاف الجنود في أكثر من 60 نقطة تمركز، فضلاً عن قيام الجيش التركي بإنشاء قواعد في المحافظة، وهو ما شكّل حائطاً دفاعياً على خطوط التماس بين فصائل المعارضة السورية وقوات النظام. وفي منطقة جبل الزاوية في ريف إدلب الجنوبي، أنشأ الجيش التركي نحو 20 نقطة تمركز لمنع قوات النظام من قصف هذه المنطقة الاستراتيجية. في المقابل، سحب الجانب التركي أغلب نقاط المراقبة التي كان أقامها وفق تفاهمات أستانة، وتعرضت للتطويق من قبل قوات النظام.
ويعتقد الباحث السياسي عرابي عبد الحي عرابي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الاتفاق التركي - الروسي حول إدلب "غير كافٍ"، موضحاً أنه "لم يحل مشكلة المناطق التي قضمتها قوات النظام ومليشيات إيرانية بمساندة روسية في أرياف حماة وحلب وإدلب، ولم ينجح في استعادة الحركة على طرق رئيسية أبرزها أم 4". ويبيّن عرابي أن الاتفاق "لم يعر اهتماماً لمشكلة النازحين"، مشيراً إلى أن التهديدات من قبل النظام وحلفائه بشنّ عمل عسكري "لا تزال موجودة". ويلفت الباحث السياسي كذلك إلى "وجود غموض حيال التنظيمات الجهادية في الشمال الغربي من سورية، وما إذا كانت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) جزءاً من هذا الاتفاق أم لا، باعتبارها الفصيل الأقوى الذي لا يمكن إقصاؤه". وبحسب عرابي، فإن الميزة الإيجابية الوحيدة في الاتفاق "أنه أوقف العمليات العسكرية على الرغم من أن التصعيد العسكري يتجدد بين فترة وأخرى"، موضحاً أن الاتفاق "منح تركيا بنية قانونية لإنشاء جدار دفاعي في محافظة إدلب، وهامش تحرك في منطقة جبل الزاوية، وهو ما حال دون قضمها من قبل الجانب الروسي"، خاتماً بأن الاتفاق لم يعد ضمانة مطلقة لعدم تجدد العمليات العسكرية.