- جامعة غوتنغن تواجه انتقادات بعد محاولة إفشال محاضرة حول الإبادة الجماعية في غزة، مما يكشف عن محاولات لتقييد النقاش حول القضية الفلسطينية ويعكس تحيز الجامعة ودعمها للاحتلال الإسرائيلي.
- ردود الفعل الحكومية والأكاديمية تعكس محاولة إحباط الحراك الطلابي ومنع توسعه، مع استخدام اتهامات بمعاداة السامية والقمع الشرطي للاحتجاجات، مما يستدعي إنتاج ممثلين قويين للحراك قادرين على حشد الدعم.
كان حريًا بالمواطنين الألمان أن يشعروا بالصدمة من صدمة وزيرة التعليم الألمانية بيتينا شتارك من بيان المثقفين الألمان، الذي وقعه أكثر من مائة محاضرٍ جامعيٍ في جامعات برلين، والذي نص على أنّه "بغض النظر عمّا إذا كنا نتفق مع المطالب المحددة لمعسكر الاحتجاج، فإننا نقف أمام طلابنا وندافع عن حقّهم في الاحتجاج السلمي. وهذا يشمل أيضًا احتلال باحات الجامعات... نطالب إدارات جامعات برلين بالعدول عن الاستعانة بالشرطة ضدّ طلابها، وعن المزيد من الملاحقات الجنائية".
أفقدت حالة الصدمة الوزيرة الألمانية رشدها، لذا بدأت تكيل الاتهامات للموقعين على البيان، وكما هو متوقع؛ كانت أولى تلك الاتهامات تهمة "معاداة السامية"، رغم عدم تبني الموقعين لأيّ موقفٍ سياسيٍ، بل كان موقفهم محصورًا في الحض على احترام الدستور الألماني فقط، الذي يكفل حرية التعبير والتظاهر السلمي، رغم ذلك اتهموا بمخالفة الدستور أيضًا، الذي لو استطاع أن ينطق لصرخَ في وجه شرطة برلين وهي تنهال بالضرب، والسحل، والتنكيل، والاعتقال على الطلاب المحتجين في جامعة برلين الحرة، ما يقارب نصف الطلاب المحتجين، لأنهم يمارسون حقًّا دستوريًا يجب الدفاع عنه، بغض النظر عن الموقف الانساني والسياسي من القضية الفلسطينية، لأن ما تمارسه حاليًا دولٌ أوروبيةٌ عديدةٌ هو انزياحٌ واضحٌ نحو الفاشية.
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة؛ بدا واضحًا أنّ الحكومة الألمانية تحاول إبعاد حركة الاحتجاج، التي انتشرت في المدن الألمانية كافّة، عن المدارس والجامعات. ليس ذلك فقط، بل في الوقت الذي منعت الحركات الاحتجاجية الداعمة للقضية الفلسطينية من النشاط ضمن المدارس والجامعات، فتح الباب، الذي لم يغلق قطّ، أمام المروجين لسردية الاحتلال، كي يبرروا جرائم الاحتلال بحقّ الفلسطينيين، وفي مقدمتها جرائم الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والفصل العنصري.
بدأ الحراك الطلابي الداعم للقضية الفلسطينية في ألمانيا تحت اسم "طلاب من أجل فلسطين"، مرافقًا للحركات الشعبية الأخرى
كذلك حاولت بعض الجامعات اتباع طرقٍ ملتويةٍ لإفشال النشاطات غير الطلابية، نذكر منها؛ على سبيل المثال لا الحصر، جامعة غوتنغن، التي حاولت إفشال محاضرةٍ نظمتها مجموعة "مجتمع مدني من أجل العدالة ZFG"، لتثبت الجامعة أنها ليست استثناءً عن القاعدة، بل امتدادٍ حقيقٍ لها. إذ قامت الجامعة بخدعةٍ لا يفهم منها إلّا رغبتها الحقيقية في تعطيل أيّ نشاطٍ متصل بالقضية الفلسطينية، والصوت الفلسطيني. فبعد موافقتها على إقامة النشاط في حرمها، ومنح قاعة مختبر المدينة من أجل محاضرةٍ بعنوان "حرب الإبادة الجماعية في غزّة ضمن سياق النكبة"، أبلغت الجامعة المنظمين في يوم المحاضرة نفسه بعدولها عن قراراها السابق، أيّ رفضها منحهم القاعة المذكورة لأسبابٍ تتعلق بأمان الحريق، وهو سببٌ أقلّ ما يمكن أن يقال عنه "أنه كذبةٌ رخيصةٌ"، خصوصًا أن القاعة نفسها كانت قد استضافت سابقًا نشاطاتٍ مشابهةً، ولو سلمنا بأنّ جامعة غوتنغن تتخوف من خطر الحرائق فكان الحري بها أن توفر قاعةً أخرى للمحاضرة.
المخجل هنا، أنّ مختبر المدينة معني بدراسة مجالات "ما بعد الاستعمار"، لذلك فإن تصرف جامعة غوتنغن، ودعمها للاحتلال الاستيطاني والاستبدالي في فلسطين يتعارض تمامًا مع غاية المختبر وتعريفه على صفحة الجامعة، وهذا ما دفع مجموعة ZFG إلى قلب التعريف رأسًا على عقب، ضمن بيانٍ لاذعٍ ضدّ جامعة غوتنغن، جاء فيه "مختبر المدينة: مساراتٌ إلى مدينةٍ داعمةٍ للاستعمارٍ، مساحةٌ للإقصاء والعنصرية، وتحويل مدينة غوتنغن إلى مدينةٍ داعمةٍ للاستعمار. يهدف المشروع إلى قمع وجهات النظر المعارضة للاستعمار، وبناء شبكة المعرفة الاستعمارية ودفن الذكرى".
تحولت الجامعات الألمانية، نتيجة انتشار معاداة الفلسطينية في الوسط الأكاديمي الألماني، إلى فضاءاتٍ متحيزةٍ وقمعيةٍ ضدّ الصوت الفلسطيني. كما حصل عام 2019، حين جرم مؤتمر عمداء الجامعات الألمانية حركة مقاطعة إسرائيل الـBDS، كما أعتمد المؤتمر حينها تعريف "معاداة السامية" وفقًا لتعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست"، بذلك تماشت مخرجات المؤتمر مع قرارات الحكومة الألمانية، الأمر الذي افقده صفته الأكاديمية.
كذلك؛ حينما رفعت جامعاتٌ ألمانيةٌ عدّةٌ الأعلام الإسرائيلية، وأصدرت بيانات التضامن مع الاحتلال الإسرائيلي، في مقابل إصرارها على منع طلابها من رفع العلم الفلسطيني، وامتناعها عن إصدار أيّ بياناتٍ، ولو من مبدأ التعاطف مع الضحايا الفلسطينيين، رغم الإبادة الجماعية التي يتعرضون لها، ولا سيّما في ظلّ وجود العديد من الطلاب الفلسطينيين في ألمانيا، وتحديدًا من القادمين من قطاع غزّة، الذين فقدوا الكثير من معارفهم وأقاربهم وأصدقائهم، كما لم يصدر أيّ بيانٍ تضامنيٍ مع ضحايا المؤسسات التعليمية الفلسطينية في قطاع غزّة، من الطلاب وهيئة التعليم الجامعي وما قبل الجامعي، الذين استشهدوا في الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزّة، كذلك لم يصدر أيّ بيانٍ يدين تدمير الاحتلال لكلّ الجامعات في قطاع غزّة.
بدأ الحراك الطلابي الداعم للقضية الفلسطينية في ألمانيا تحت اسم "طلاب من أجل فلسطين"، مرافقًا للحركات الشعبية الأخرى، وضم طلابًا من خلفياتٍ مختلفةٍ، وتوجهاتٍ متنوعةٍ، وساد عليه الطابع اليساري. لكن استلهمت الاعتصامات ضمن الحرم الجامعي الألماني من الاعتصامات الطلابية في الجامعات الأميركية، التي امتدت بدورها إلى العديد من الجامعات حول العالم، ومنها طبعًا الجامعات الألمانية، كما امتدت ممارسات إدارات الجامعات القمعي والاستبدادي أيضًا، إذ استدعت إدارات الجامعات، وتحديداً جامعة برلين الحرة، الشرطة، التي اعتدت بدورها على الطلاب المعتصمين والمحتجين لفضّ اعتصامهم، وكما وجهت إدارة الجامعة تهمًا جنائيةً بحقّ الطلاب.
ردة الفعل العنيفة ضدّ الطلاب، وتوجيه تهم معاداة السامية لهم، حتّى للطلاب اليهود منهم، هي محاولةٌ لوأد الحراك في مهده، خوفًا من خروج المارد من قمقمه، ولا سيّما أن للحكومة، ولليمين الألماني، ذكرى غير سارةٍ مع الحراك الطلابي، الذي استطاع أن يفرض نفسه سابقًا، ليس على الجامعات فحسب، بل على كامل المجتمع والثقافة الألمانية، فلا تريد الحكومة الحالية توسع الحراك الطلابي، كي لا تعود تجربة (حركة ألمانيا الغربية الطلابية عام 1968)، التي تزعمها المناضل رودي دوتشكه من جامعة برلين الحرة، والذي تعرض لمحاولة اغتيالٍ في العام نفسه، أدت إلى إصابته بنوبات صرعٍ رافقته أحد عشر عامًا، وأدت في النهاية إلى وفاته وهو في عمر الشباب (39 عامًا) عام 1979.
مختبر المدينة معني بدراسة مجالات "ما بعد الاستعمار"، لذلك فإن تصرف جامعة غوتنغن، ودعمها للاحتلال الاستيطاني والاستبدالي في فلسطين يتعارض تمامًا مع غاية المختبر وتعريفه
تعلم النظام الألماني جيدًا من الحراك الطلابي عام 1968، فعرف كيف يواجه نزعة جيل الشباب التمردية، لذا دعم في الآونة الأخيرة تيارًا "يساريًا" (منذ تسعينيات القرن الماضي)، هو تيار "الأنتي دويتش"، أيّ معاداة الألمانية، الذي يتناسب مع سياساته، لذا فسح المجال أمامه لنضالٍ مريحٍ لا يضطر معه لاستخدام العنف. لا بل كانت الحكومة الألمانية وراء احتجاجاتٍ عديدةٍ تمكنها من توجيه الشعب بما يناسب سياساتها، كالاحتجاجات الأسبوعية من أجل التغير المناخي "Friday for future"، أو حملة التظاهرات الأخيرة ضدّ حزب البديل من أجل ألمانيا، التي توقفت بعد تحولها لتظاهراتٍ يمينيةٍ ضدّ اليمين، وذلك نتيجة الحالات العنصرية الكثيرة ضمن صفوفها ضدّ المهاجرين، وتحديدًا ضدّ الصوت والوجود الفلسطيني.
رغم نجاعة بروباغاندا النظام الألماني، وتحديدًا خلال العقود الثلاثة الماضية، إلّا أنّه لم يستطع وقف الحراك الجماهيري الرافض لحرب الإبادة الجماعية ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزّة، والرافض بالوقت ذاته لظاهرة "معاداة الفلسطينية"، التي أصبحت مرضيةً، وأحد أبشع أشكال العنصرية المدعومة من قبل مؤسسات الدولة. رغم ذلك كلّه، لا يزال النظام الألماني يحاول جاهدًا إحباط الحراك، وتحديدًا الطلابي، كون الطلاب والأساتذة الجامعيين يعتبرون نخبةً في المجتمع الألماني، وفي حال نجاح الحراك الطلابي الداعم للقضية الفلسطينية بالتوسع والانفتاح على الحراكات الطلابية الأخرى، سواء المترددة منها أو المتخوفة، وتبنّيه القضايا العادلة، سيضمن بذلك تقاطع وتضامن القضايا بعضها مع بعض، ما سيؤثر حكمًا على الرأي العام الألماني، ويهدد سياسية النظام الألماني بالكامل، وهذا يستدعي من الحراك إنتاج ممثلين عنه من أصحاب الحجج القويّة، وذوي قدرات خطابية جامعة، ما يمكنهم من حشد مزيدٍ من الدعم للقضية الفلسطينية، ورد كلّ التهم الموجهة إليهم، بل وعكسها على متّهميهم.