في شارع السبعين الرئيسي والسريع بالعاصمة اليمنية صنعاء، وعلى خطين متوازيين، يوجد طابوران من المركبات، الأول لمواطنين يقفون لأيام من أجل الحصول على مادة البنزين، والآخر لموكب سيارات رباعية الدفع مغلفة بأقمشة خضراء تحمل توابيت قتلى جماعة الحوثيين الذين يتساقطون في جبهات معارك متفرقة.
مشاهد لم تعد استثنائية في عاصمة اليمنيين التي تخضع لسيطرة الحوثيين منذ 7 سنوات. فصنعاء، وعلى الرغم من كونها منطقة خضراء تضم ملايين النازحين من محافظات يمنية مختلفة، إلا أنها دائماً ما تدفع ثمن أي تصعيد عسكري تدشنه الجماعة ضد التحالف الذي تقوده السعودية.
وفي مدينة ملغمة بعشرات المعسكرات الرسمية، منذ عهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح (قتله الحوثيون في ديسمبر/كانون الأول 2017)، وعدد من مخازن السلاح السرية التي كدسها الحوثيون في أحياء سكنية، يتحوّل المدنيون إلى أسرى حرب ويتكبدون معاناة مزدوجة.
وتتقاسم أطراف النزاع اليمني الأدوار في خنق سكان صنعاء. ففي حين تشكل الصواريخ والقنابل شديدة الانفجار التي يرسلها طيران التحالف تهديداً لحياة الآلاف وممتلكاتهم، تتكفل جماعة الحوثيين بخنق ما تبقى من مظاهر الحياة، من خلال الاستمرار في إطلاق الصواريخ من داخل أحياء سكنية، ومفاقمة الأزمة الإنسانية من أجل الاستثمار السياسي.
دائماً ما تكون صنعاء هدفاً لأي هجمات انتقامية من قبل التحالف رداً على أي عمليات حوثية عابرة للحدود
رعب لا يتوقف في صنعاء
وبعد أيام من الهدوء النسبي، استأنف التحالف ضرباته الجوية على صنعاء، إثر معاودة الحوثيين هجماتهم الصاروخية على الإمارات في 31 يناير/كانون الثاني الماضي، إذ عادت أصوات الانفجارات المرعبة لتقض مضاجع المدنيين وتنشر الرعب في أرجاء المدينة المسكونة بالخوف.
وحسب البيانات الرسمية التي يذيعها التحالف بقيادة السعودية، فقد نفذ الطيران الحربي خلال شهر يناير الماضي، 1,097 غارة جوية، في ثلاث محافظات يمنية، أسفرت عن مقتل 5,940 عنصراً من الحوثيين، وتدمير 684 آلية عسكرية.
ودائماً ما تكون صنعاء هدفاً لأي هجمات انتقامية من قبل التحالف رداً على أي عمليات حوثية عابرة للحدود، على الرغم من أن بعض الضربات الجوية لا تحقق أي ميزة عسكرية حقيقية بقدر ما تبدو كهجمات تأديبية للمليشيات الحوثية.
خلال غارات الأيام الماضية، أكد سكان محليون لـ"العربي الجديد"، أن هذه الغارات التي شنها طيران التحالف على مواقع للحوثيين في مناطق النهدين والحصبة، كانت غير مسبوقة من حيث شدة الانفجارات التي تهز أرجاء صنعاء.
ووفقاً لمحمد سلطان، الذي يسكن في حي الحصبة، فإن "الغارات الأخيرة التي شنها التحالف على معسكر الإذاعة القريب من الحي، كانت مرعبة وأصواتها مدوية بشكل مختلف عما كان سابقاً".
وأضاف سلطان لـ"العربي الجديد": "أصبحنا ننتظر طوال الليل حتى ينتهي القصف اليومي لنشرع في النوم، نخشى على أطفالنا من نوبات الفزع التي تصيبهم فنحاول أن نكون بالقرب منهم وننقلهم بعيداً عن النوافذ إلى وسط المنزل، خوفاً من تهشم زجاج هذه النوافذ نتيجة ضغط القصف".
وأكثر ما يخشاه السكان في صنعاء، هو هامش الخطأ أو الأضرار الجانبية لمن يقطنون بالقرب من معسكرات أو منازل قيادات حوثية، وخصوصاً بعد إعلان التحالف بأن قيادات الجماعة باتت هدفاً مشروعاً وستتم ملاحقتها.
وتسبب التصعيد الأخير في نزوح بعضهم من منازلهم القريبة من المواقع والمناطق المحتمل استهدافها، أو تلك المنازل المعروفة أنها لقيادات عسكرية تتبع أو تعمل مع جماعة الحوثيين، في حين يخشى آخرون من أن يكونوا يقطنون بالقرب من الخطر وهم لا يعرفون.
واضطر عدد من العائلات أخيراً لمغادرة عمارة سكنية في إحدى أحياء صنعاء بعد تحذيرات من مالكها بإمكانية تعرضها للقصف، فضلاً عن رحيل السكان الذين يقطنون بجوار هذه العمارة لمنازلهم. وقد استنجد هؤلاء إما بأقاربهم أو سكنوا في فنادق، وفق ما قاله أحد السكان المتضررين لـ"العربي الجديد".
يستغل الحوثيون حالة الرعب التي تسيطر على السكان لتحريض الشباب على الانضمام للقتال في صفوفهم
ويستغل الحوثيون حالة الرعب التي تسيطر على السكان لتحريض الشباب على الانضمام للقتال في صفوفهم. وقال سكان محليون لـ"العربي الجديد"، إنه "مع كل تصعيد بالغارات الجوية، يتحرك مشرفو الحارات الحوثيون لاستقطاب الشباب للقتال"، وهذا ما يضاعف مخاوفهم على أبنائهم.
وخلال الأيام الماضية، كثّف الحوثيون من دعوات المواطنين لتنفيذ وقفات احتجاجية على مستوى المناطق والحارات، إلى جانب دعوة هؤلاء المواطنين إلى اجتماعات في الأحياء، يتم من خلالها إخبارهم بمستجدات القتال في الجبهات، في محاولة من الحوثيين للإيحاء للسكان بأنهم ما زالوا متمكنين عسكرياً.
ومساء الخميس الماضي، بثّ الحوثيون كلمة مسجلة لزعيم الجماعة، عبد الملك الحوثي، عبر مآذن المساجد، وهي أول كلمة له منذ بداية التصعيد الأخير، وتأتي بعد شكوك وشائعات تداولتها وسائل إعلام حول مصيره وسبب اختفائه.
تشييع يومي للقتلى في صنعاء
وخلال أيام القصف المكثف الأخير الذي طاول صنعاء، كانت غالبية المواقع المستهدفة اعتيادية، وسبق أن تم استهداف بعضها. ولم يُعلن عن خسائر بشرية سوى في الضربة التي استهدفت منزل القيادي العسكري الحوثي، عبد الله قاسم الجنيد، مدير كلية الطيران والدفاع الجوي، وهي الغارة التي قُتل فيها مع عدد من أفراد أسرته.
وعلى الرغم من التكتم الحوثي على حجم الخسائر جراء الضربات الجوية، إلا أن العاصمة صنعاء كانت خلال الأسابيع الماضية تشهد عمليات تشييع يومية لعشرات القيادات الميدانية التي تتقلد مناصب ورتباً رفيعة في السلك العسكري والأمني التابع للجماعة، بالإضافة إلى تشييع مئات المجندين.
وتحوّل تشييع جنائز القتلى نتيجة التصعيد العسكري، إلى مشهد دائم تعيشه صنعاء، إذ تبدأ في ساعات الظهيرة سيارات تحمل توابيت قتلى بالتوافد إلى ميدان السبعين للصلاة عليهم في الجامع الأكبر، الذي كان بناه الرئيس السابق علي عبد الله صالح، قبل أن يتم نقل جثث القتلى إلى المناطق التي ينحدرون منها.
وتكلّف الجماعة قيادات سياسية وعسكرية ومدنية بارزة بتقدّم مواكب التشييع، كنوع من إظهار الاهتمام بالقتلى. وخلافاً للمقاتلين القبليين ممن يعرفون باللجان الشعبية الذين تحضر الأعلام الخضراء والشعارات الحوثية أثناء عمليات تشييعهم، يتم توشيح كبار قيادات الضباط بالعلم الجمهوري.
تحوّلت جنائز القتلى نتيجة التصعيد العسكري، إلى مشهد دائم تعيشيه صنعاء
وأكدت مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد"، أن عدد الضباط الذين تم تشييعهم في ميدان السبعين خلال شهر يناير الماضي، بلغ أكثر من 560 ضابطاً، فيما لا يُعرف إجمالي عدد القتلى من المقاتلين القبليين، بينما تحدثت مصادر إعلامية يمنية، عن 800 قتيل حوثي تم تشييعهم رسمياً منذ مطلع العام الحالي.
وتحرص السلطات الحوثية على رفع صور كبار القادة العسكريين عبر لافتات عملاقة يتم نصبها في الميادين والشوارع الرئيسية، ودائماً ما تتم الإشارة إلى المناسبة التي سقطوا فيها بـ"معركة النفس الطويل". ونشرت الجماعة خلال العام الماضي معارض مفتوحة لصور القتلى في أكثر من منطقة بصنعاء.
ويجلب الحوثيون قتلاهم من كافة جبهات القتال من أجل تشييعهم في صنعاء. وخلال الأسابيع الماضية، ضاعفت معارك شبوة مع ألوية العمالقة المدعومة إماراتياً، من خسائر المليشيات الانقلابية، بعد أن كانت مأرب هي الثقب الأسود للجماعة منذ عامين.
بؤس ومعاناة سكان صنعاء
وبالتوازي مع مشهد الحرب والموت اليومي، يتكبد سكان صنعاء المشقة من أجل الحصول على أبسط الخدمات، وخصوصاً مادتي البنزين والغاز المنزلي، في مسلسل معاناة لا يتوقف منذ اندلاع الحرب قبل نحو 8 سنوات. ويتبادل الحوثيون والتحالف الاتهامات في التسبب بهذا الوضع.
وكما هو حال الآلاف، يضطر حسام منصور، وهو موظف في القطاع الخاص، للوقوف في طابور طويل من أجل الحصول على صفيحتي بنزين، وقد ارتفع سعر الواحدة منها الشهر الماضي إلى نحو 45 دولاراً.
ويقول حسام لـ"العربي الجديد"، إنه ينتظر في طابور من 250 سيارة، ويحتاج في بعض الأوقات للانتظار ثلاثة إلى أربعة أيام للحصول على 40 ليتراً فقط، وهي الكمية المحددة لكل سيارة في كل أسبوع على الأقل.
ويضيف: "الوضع في صنعاء مرعب من كل النواحي، نحن نعيش أزمات مركبة بلا نهاية، نعيش على وقع قصف يومي وأزمات معيشية لا تنتهي وتطاول أبسط مقومات الحياة، فحتى أسعار المياه ارتفعت خلال الأيام الأخيرة".
تسببت أزمة المشتقات النفطية في ارتفاع أسعار الخدمات والسلع الأساسية الاستهلاكية بشكل جنوني
وتسببت أزمة المشتقات النفطية في ارتفاع أسعار الخدمات والسلع الأساسية الاستهلاكية بشكل جنوني، وهناك أزمة الغاز المنزلي التي أصبحت جزءاً من حياة الناس، إذ ينتظرون طويلاً لأخذ حصتهم وهي عبارة عن أسطوانة كل شهرين.
ودفعت أزمة المشتقات النفطية المواطنين للعودة لاستخدام وسائل بديلة وبدائية، كالحطب، سواء في المنازل أو المطاعم وأفران الخبز، في حين اعتمد العاملون في خدمة توصيل وجبات الطعام، على الخيول. وقد تداول ناشطون صوراً للخيول وعليها موظفو خدمات توصيل في شوارع رئيسية في صنعاء، وهو ما لاقى سخرية واسعة من الواقع المعيشي السيئ الذي وصلت له العاصمة اليمنية.
ويتهم الحوثيون التحالف الذي تقوده السعودية باحتجاز سبع سفن من المشتقات النفطية ومنع دخولها إلى ميناء الحديدة (غرب اليمن). في المقابل، يقول التحالف والحكومة اليمنية، إن هناك كميات كافية من المشتقات النفطية في مناطق سيطرة الحوثيين، لكنهم يفتعلون الأزمة للمتاجرة بهذه المشتقات في السوق السوداء.
أثرياء الحرب في العاصمة اليمنية
في مقابل حالة البؤس والحرمان التي يعيشها سكان صنعاء، بالتوازي مع المخاوف الأمنية وتوقف المرتبات وانعدام مصادر الدخل، خلقت الحرب طبقة واسعة من الأثرياء وتجار السوق السوداء.
وتتجلى أموال الحرب التي تظهر بشكل أساس على مستوى قادة بارزين في جماعة الحوثيين، في الازدهار العمراني الملحوظ الذي شهدته صنعاء خلال السنوات الخمس الماضية، وهو ما أدى إلى حصول ارتفاع كبير في أسعار العقارات.
وجراء القبضة الأمنية الشديدة، لا يجرؤ الناس في صنعاء على رفع أصواتهم للتنديد بالممارسات الحوثية التي تساهم في معاناتهم، فيما يعمل قادة الجماعة على تنمية اقتصاد خاص بهم.
ويستغرب عبد الجليل المآخذي، وهو طالب جامعي، حالة التناقض التي تشهدها صنعاء، والتي تعيش من جهة حالة رعب جراء القصف وافتقار الخدمات واتساع رقعة المعدمين، فيما تزدهر تجارة الحوثيين وتظهر مواكب سياراتهم الفارهة.
ويقول لـ"العربي الجديد"، "هناك تجار للحروب يزدادون ثراءً، ونراهم يومياً يشيّدون المباني ويرفعون أسعار الأراضي، لتشكيل كيان ديمغرافي جديد، وهم سبب معاناتنا اليومية، إذ احتكروا مثلاً بيع المشتقات النفطية التي تدر أرباحاً هائلة عليهم"، في إشارة إلى قيادات الحوثيين.