انتزاع الرئيس الأميركي جو بايدن لصفقة الغواصات الأسترالية بـ"نَتشِها" من فرنسا، واحتجاج الأخيرة باستدعاء سفيرها في واشنطن، جرت قراءته عموماً بأنه دليل آخر، مثل الانسحاب من أفغانستان، على أنّ الرئيس استنسخ سياسة "أميركا أولاً" الترامبية، وتراجع عن وعده بترميم العلاقات المتصدعة مع الحلف بسبب هذه السياسة. التفسير أن حجم الصفقة، حوالى 60 مليار دولار، كان فيه من الإغراء ما يكفي للسطو عليها، ولو كلّف الأمر خداع فرنسا أو حتى توجيه "طعنة" إليها، بتعبير وزير خارجيتها إيف لودريان.
المراهنة أنّ الأوروبيين في النهاية لا غنى لهم عن الشراكة مع أميركا، وبالتالي إن أي سوء تفاهم معها محكوم في آخر المطاف بوجوب تسويته والعودة إلى تحت مظلتها.
ففي أحلك أيام العلاقة مع الرئيس دونالد ترامب، لم يقطع الأوروبيون خط الرجعة مع واشنطن. أبدوا "شكوكهم في مدى التزام أميركا تعهداتها تجاههم كحلفاء"، ودعوا إلى "ضرورة اعتماد أوروبا على نفسها" (أنجيلا ميركل) و"بناء جيشها" للدفاع عن نفسها (إيمانويل ماكرون)، وأعربوا عن تزايد "الريبة والخيبة " لديهم من بايدن الذي زعم أن مسألة تصحيح العلاقات مع الحلفاء بند رئيسي في أجندة إدارته. وتساءلوا "عمّا إذا كانت الترامبية قد تحولت إلى جزء من الاجماع الأميركي حول السياسة الخارجية"، بل عمّا إذا كان "في بايدن شيء من ترامب"، خصوصاً أنه تبنى اتفاقية سلفه بالانسحاب من أفغانستان، من دون مراعاة لطلب الحلفاء بتأجيل هذا الانسحاب.
لكنْ للمسألة جانب آخر. لا شك في أن الإدارة كانت متوقعة أن يسبب تواطؤها الخبيث بصدمة فرنسية، ولو أنها تفاجأت باستدعاء السفير، بل بصدمة كبيرة في صفوف حلفائها الذين ازدادت شكوكهم بعد أفغانستان. مع ذلك، مضت في الانقلاب على الحليف الفرنسي. والاعتقاد العميق أن دسامة الصفقة، 60 مليار دولار، لم تكن العامل الحاسم أو الوحيد فيها، بقدر ما كانت حسابات التنافس الاستراتيجي مع الصين، الذي قد يؤدي إلى مواجهة ما على الطريق، إذا ما واصل السير في خطه التصعيدي. بل ثمة من يذهب إلى حد تأكيد حتمية وقوعها في وقت ما في بحر جنوب الصين.
الإشارات والتحذيرات في هذا الخصوص لافتة، بحيثياتها ومصادرها. منها تحذير كيسنجر خلال رئاسة ترامب، وتوصيته بضرورة التعامل مع بكين بسياسة متوازنة "بين التعاون والتعارض". وسبق أن تحدث عن مثل هذه" الحتمية" أحد مشاهير المحافظين الجدد، السفير والمستشار السابق جون بولتون. وفي مارس/آذار الماضي، صدر كتاب بعنوان رقمي "2034"، يرسم مؤلفاه الأدميرال المتقاعد جيمس ستفريدس (قائد قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) سابقاً) وضابط المارينز إليوت أكرمن، سيناريو الحرب المتوقعة في عام 2034، حيث تُغرق بارجة صينية مدمرة أميركية في بحر جنوب الصين. وفي النهاية، "تتوسط الهند بعد كلفة باهظة يتكبدها الطرفان الصيني والأميركي، وتؤدي إلى تغيير موازين القوى إلى الأبد".
طبعاً هو تصوّر افتراضي، لكن خلاصته أن هذه الحرب أو المواجهة مرجح وقوعها في غضون نيف وعشر سنوات. الكلام عن تصاعد التوتر وحصول احتكاك مع الصين صار إحدى وجبات الحديث في واشنطن عن الشؤون الخارجية، منذ أن بدأ الاعتقاد يتزايد عن أن شرقيّ آسيا في طريقه ليصبح نقطة الثقل الاقتصادي في العالم، وأن الصين ستكون في القلب منه. وفي ذلك الوقت، دعا الرئيس باراك أوباما إلى "التحول باتجاه الشرق الأقصى" بدلاً من الشرق الأوسط. ومع تزايد النمو الاقتصادي للصين واحتلالها للموقع الثاني في العالم، توالت التقديرات عن اقترابها من الحلول مكان الولايات المتحدة في الموقع الأول في غضون سنوات غير بعيدة. ومع اشتداد المزاحمة بهذا الشكل، ارتفعت نبرة الخطاب الأميركي مع مجيء بايدن الذي قال إنه ما دام هو في البيت الأبيض، فلن يسمح بتفوق الصين على أميركا. ومن هذا المنطلق، عمل بعد شهرين من تسلمه الرئاسة على ترتيب لقاء افتراضي رباعي (أميركا، اليابان، الهند وأستراليا)، أطلق عليه اسم "كواد"، أي الحوار الأمني الرباعي، ليكون نواة تجمّع تحالفي يوازن الثقل الصيني في المنطقة.
في هذا السياق، جاءت على ما يبدو إطاحة صفقة الغواصات الفرنسية "التي تعمل بالطاقة العادية والأقل قدرة على التخفي"، لاستبدالها بأخرى أميركية بريطانية تعمل "بالطاقة النووية وقادرة على التسلل إلى قرابة الشواطئ الصينية من دون انكشاف مواقعها". وهذه الميزات أعطتها الأفضلية لتزويد البحرية الأسترالية بها، التي تشي الترتيبات التحالفية في المنطقة بأنه لا بد أن يكون لها دورها في أي مواجهة بين الصين والولايات المتحدة. لكن إخراج العملية الذي بدا أقرب إلى الخدعة، ترك الانطباع بأن الجانب المالي كان من بين الدوافع المقررة في الصفقة. وبذلك، سيصبح بعد الآن من الصعب على الرئيس بايدن تسويق خطابه عن أهمية الحلفاء والتحالفات وحرصه على تعزيزها. وثمة من لا يستبعد أن تنعكس هذه الهزة مع فرنسا، واستطراداً مع الأوروبيين بصورة سلبية على حلف "الناتو"، أكثر مما كانت عليه في زمن ترامب. حصر الصفقة بالثلاثي الأنكلوساكسوني قد يحمل رسالة منفّرة إلى بقية الشركاء الأوروبيين غير المتحمسين أصلاً للتصعيد مع الصين.