علقوا في دوامة العنف المتواصلة في مالي منذ 2015، وتعلّموا كيف يناضلون من أجل البقاء: بينهم جندي، وتلميذة مدرسة، وأستاذ مدرسة، وجهادي، أدلوا بشهادات تمثل جوانب مختلفة من نزاع دامٍ.
أجرت وكالة "فرانس برس" هذه المقابلات في تواريخ مختلفة على مدى أشهر في باماكو وموبتي وسيفاريه، في مناطق صعبة وخطرة بالنسبة إلى الصحافيين والعاملين في المجال الإنساني.
#AFP presents a photo essay by Michele Catttani taken in central Mali in 2020 and 2021 of victims in a violence-shattered recounting their lives.
— AFP Photo (@AFPphoto) February 11, 2022
📸 @cattani_michele https://t.co/vDfTe26HTF pic.twitter.com/sdUhnAFnjg
وبدأت أعمال العنف في وسط مالي في 2015، مع ظهور مجموعة جهادية بقيادة داعية إسلامي متطرف من إثنية البول أمادو كوفا.
وترتبط المجموعة بتنظيم القاعدة، وترفض كل وجود لدولة مالي، وتريد إقامة مجتمع إسلامي متشدّد. جنّدت عدداً كبيراً من أعضائها بين إثنية البول المهمّشة، قبل أن تجنّد آخرين. وعادت معها انقسامات قديمة بين المجموعات التي تقطن المنطقة.
وتشكّلت مجموعات تدّعي الدفاع عن أفرادها، مثل دان نان أمباساغو، داخل إثنية الدوغون، وقد بدأت بتجمّع قرويين يريدون الدفاع عن منازلهم، وتحوّلت إلى مليشيا، واتُهمت بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. تمّ حلّها رسمياً، لكنها لا تزال ناشطة.
واتّهمت منظمات غير حكومية الجيش المالي بالتنسيق مع أمباساغو ضد الجهاديين.
واضطرت بعض القرى أحياناً بالقوة إلى توقيع اتفاقات سلام مع مجموعة كوفا الجهادية كتيبة ماسينا.
ونزح خلال النزاع قرابة مئتي ألف من السكان، بينما قتل الآلاف.
وافق ثمانية أشخاص كانوا يقطنون مناطق شهدت أعمال عنف على أن يتكلموا مع وكالة "فرانس برس"، شرط عدم الكشف عن هوياتهم، وبالتالي اعتمدوا أسماء مستعارة؛ وهذه رواياتهم.
جورج (عنصر مليشيات من الدوغون): غادرت ولم أعد
كان جورج (أربعيني) مدير فندق، ورأى الحرب تصل إلى حيث يقيم في 2017. توقف السياح عن المجيء، وظهرت الأسلحة، فانضم إلى مليشيا من الدوغون.
ويروي "لم يحصل أبداً خلاف بين البول والدوغون قبل ذلك. كانت القرية هادئة. ثم بدأت تظهر المشكلات. عندنا، بدأت بقصة فرد من البول قتل حكيماً من الدوغون. بعد ذلك، وصل البول السيئون (الجهاديون). ونُقل إلينا أنهم كانوا يعتدون على القرى المجاورة، وكان علينا أن ندافع أن أنفسنا. كنت أنا الابن الأكبر في العائلة، وكنت قد ورثت بندقية صيد من والدي. كنت أنا المسؤول وكنت مضطراً لأن أذهب للقتال. وانضم إلى المليشيا أيضاً 14 شخصاً آخرين من القرية".
ويضيف: "كنا نحرس الطريق، نطلب من المارة أحياناً قليلاً من المال لنشتري سجائر أو طعاماً. كانت الأمور تسير بشكل جيد إلى حد ما. بعد ذلك، حصلت خلافات. كان البعض يشرب الكحول كثيراً، ويستغلون نفوذهم. كانوا يجبرون الناس على احترامهم، ويفرضون عليهم غرامات غير معقولة. وفي لحظة فهمت".
ويختم شهادته: "لم نعد نقاتل الجهاديين، كنا نبتز الناس، بمن فيهم الدوغون. لم أدخل إلى دان نان أمباساغو من أجل إلحاق الضرر بأحد، إنما من أجل مساعدة الناس. ذهبت لمقابلة القائد. قلت له إن لدي ما أفعله في باماكو. ذهبت ولم أعد".
فاتوماتا (تلميذة): "ظنّوا أنني متّ"
تروي فاتوماتا (14 عاماً) بخجل، بينما تحدّق بالأرض، أحداص ليلة 23 مارس/ آذار 2019 الدامية. داهم مسلحون فجراً الجزء الذي يقطنه أفراد من إثنية البول في قرية أوغوساغو، ووُجّهت أصابع الاتهام إلى دان نان أمباساغو. فُتح تحقيق لم تنشر نتائجه بعد.
وتقول "عندما هوجمت القرية المتاخمة لقريتنا، لجأنا إلى بول آخرين في أوغوساغو. وفعل الجميع مثلنا. فرغت قرى البول في كل مكان".
بعد أشهر، تعرضت أوغوساغو للهجوم بدورها في بداية موسم القطاف. بعد صلاة الفجر، طوّقوا القرية وأطلقوا النار في كل مكان.
وتستطرد: "عندما بدأ الهجوم، استلقينا أرضاً في الكوخ. أطلقوا علينا النار من الخارج. خرجتُ مسرعة ولجأتُ إلى كوخ آخر مع والدتي. كنا منحنين، لكن الرجال دخلوا وأطلقوا النار على كل الموجودين".
وتضيف: "كنّا ثمانية في الكوخ. قتل ستة. غبتُ عن الوعي، ولا شك ظنوا أنني متّ. عندما استفقت، كان هناك مسعفون في المكان. فتحت عيني، والدتي كانت هنا إلى جانبي، ميتة".
وقتل 157 شخصاً في تلك الليلة. وأصيبت فاتوماتا بكسور في ساقيها. وقد لجأت إلى مخيم نازحين في موبتي؛ العاصمة الإقليمية.
صديقي (أستاذ): "أقفلت مدارس لكننا لم نتوقف"
كان الجهاديون التابعون لأمادو كوفا يهاجمون في المنطقة رموز الدولة والعالم الغربي. تحولت المدارس إلى هدف. أقفلت حوالى ألف مدرسة، وكان صديقي (36 عاماً) يعلّم في مدرسة.
يقول صديقي: "كنا مدركين أن الوضع سيئ. وكانت تصل إلينا أصداء إقفال المدارس، لكننا كنا نواصل العمل من أجل الأطفال. في ذلك الأربعاء، كانت الساعة 11,45. وصل أشخاص على دراجات نارية وطوقوا المدرسة. سمعنا صوت رشاشات. كانوا يطلقون النار في الهواء وعلى البوابات. تجمعنا كلنا في الخارج، معلمين وتلامذة. كان هناك أشخاص من مجموعات إثنية مختلفة. اقترب الواصلون من المدير وقالوا له: "لماذا؟ طلبنا منك أن تقفل المدرسة". وضربوه. كانت الدموع تملأ أعيننا، لكننا احتفظنا بهدوئنا".
ويتابع: "ثم تعرضوا لي أيضاً. وأخذ بعضهم دراجاتنا النارية. لم يكن في إمكاننا أن نفعل شيئاً. عندما وصلت إلى المنزل مساء، وقعت أرضاً فجأة. بدأت زوجتي بالصراخ، لم تفهم شيئاً. عندها أدركتُ ما حصل ووقع الصدمة. غادرنا منذ ذلك اليوم، وأنتظر أن يعود الأمن".
ويعيش صديقي في مدينة كبرى في الوسط، وهو عاطل عن العمل، ويريد أن يعود إلى التعليم.
بشير.. الصحافي الوحيد من إثنية "البول"
بشير.. الصحافي الوحيد من إثنية "البول"
يتحدث بشير (42 عاماً) عن "الظلم" الذي لحق به؛ في البداية كان الجهاديون يتهمونه بأنه مخبر للجيش. ثم اتهمه الدوغون بأنه جهادي.
يقول "كنت الصحافي الوحيد من إثنية البول في المنطقة. جاء الجهاديون إلى قريتي وطلبوا مقابلة والديّ. قالوا لهما إنني أعطي معلومات للجيش في إذاعتي. وقالوا لوالدتي: "سنقتله إذا عثرنا عليه". غادرت القرية إلى المدينة".
ويستكمل حديثه "ولكن الأمور تدهورت هناك أيضاً. كان الدوغون أكثرية في المدينة، والبول غادروا كلهم تقريباً. كنت أغطي تظاهرة تحتج على غياب الدولة. صرخ بي أشخاص من الدوغون سائلين لمَ أسجّل بهاتفي: فقلت: أنا صحافي".
ويضيف "لجأت إلى مركز الشرطة، وتقدمت بشكوى، لكن لم يحصل شيء. لا أستغرب أن يتهمني الجهاديون بأنني مخبر لأنني أعمل في الإذاعة، لأنهم لا يسعون إلى الفهم، لكن أن يعتبر سكان أنني جهادي لأنني بول، هذا اختزال".
أصبح بشير أستاذ لغة عربية في مدينة في الوسط، ولا يزال يتعاون عن بعد مع إذاعته.
روكيا (صيادة سمك): تبقى من عائلة رجل وحيد
تجهش روكيا (خمسينية) في كوخ تفوح منه رائحة السمك بالبكاء. ككثيرين من المدنيين الذين وجدوا أنفسهم فجأة في خضم حرب أهلية، لا تفهم هذه الصيادة المنتمية إلى إثنية بوزو كيف خُطف معظم أفراد عائلتها ذات يوم من عام 2018 من على ضفاف نهر النيجر.
تقول "كانت العائلة في النهر. أشار إلينا رجال على الضفة من مركز تفتيش بأن نتوقف. توقفنا حتى لا يقتلونا. طلبوا من الرجال أن ينزلوا من المركب للتفتيش. بين الأشخاص الـ23 الذين نزلوا، كان هناك زوجي با وشقيقاي أمادو وسينبارما، وولداي محمد ولاسانا".
تروي "تكلّمت مع الجهاديين. حاولت أن أقول لهم إنه ليس لدينا شيء ضدهم، وإننا هنا للصيد فقط. قالوا لي إنهم هنا من أجل الله. لا أفهم، لا أفهم لم فعلوا هذا".
وتلفت إلى أنه "مرت ثلاث سنوات، ولم أر زوجي منذ ذلك اليوم، ولا شقيقي ولا ابني. لم أعد أنام، ولم يعد للحياة معنى. يمكنهم أن يتابعوا، أن يتوقفوا. لا فرق بالنسبة إليّ. لم يبق من العائلة إلا رجل واحد، أمادو الصغير الذي ولد بعد يومين من عملية الخطف".
وتعيش روكيا مع نساء العائلة الأخريات اليوم في محيط موبتي، ولا يذهبن إلى الصيد، ويعشن من إعانات منظمات غير حكومية محلية.
بلال (جهادي سابق): زوجتي ترفض رؤيتي
كان بلال (37 عاماً) يعمل في بيع السمك، لكن مدخوله لم يعد يكفيه مع تراجع تجارة السمك بسبب انعدام الأمن. وعندما عرض عليه صديق القيام بعمل آخر، لم يتردد.
يقول: "ذهبت لمقابلتهم عبر وسيط. اقترحوا عليّ البقاء. خلال الأشهر الثلاثة الأولى، التقيت هناك بأصدقاء الطفولة والمدرسة القرآنية. كنت أقوم بالخدمة: تأمين الماء، غسيل الدراجات. كان المعسكر في غابة، وكان كل شيء منظماً".
يضيف "كنت مقتنعاً بأن هؤلاء الأشخاص الذين يُسمّون جهاديين يحترمون الإنسان أكثر من الجيش. يهاجمون الأشخاص الذين لا يحترمون الشريعة. كانت معركة ضد لا عدالة الدولة".
ويكشف "كان هناك أشخاص من كل الإثنيات في المجموعة، لكن كان هناك العديد من البول طبعاً. أنا أنتمي إلى البامانان (بمبارا). أدركت بعد حين أنهم لا يملكون وسائل تطبيق الشريعة، وبالتالي، كان بعضهم ينفذ غزوات، يهاجم قرى من أجل الحصول على الطعام والماشية".
ويردف "قصدت القاضي في المعسكر، لكنه رفض القيام بشيء. قبل أن أغفو، كنت أحلل حياتي كل مساء. أظن أنني كنت في الإجمال إنساناً جيداً. فهل يمكن أن أشارك في هجمات ضد أناس، لأحصل على الطعام فقط؟ فكرت في زوجتي التي اشتقت إليها. عندما تزوجنا، عائلتها أوكلتني بها، وأنا هجرتها عملياً. مع مرور الليالي، ازددت اقتناعاً. ساعدني داعية على الهرب".
يعيش بلال اليوم في مدينة كبيرة في الوسط، وترفض زوجته رؤيته.
مالك (جندي): قُطّع رفيقاي إلى نصفين
على الجبهة، ينتشر الجنود الماليون في معسكرات قد يتعرضون لدى خروجهم منها للألغام يدوية الصنع، وهي إحدى الوسائل المفضلة للجهاديين، أو لهجمات.
يقول مالك "على الأرض، في الصباح، نشرب قهوة بكميات كبيرة ولكن ذات نوعية سيئة. هناك غالباً نقص في الطعام والدواء والذخائر. ذات صباح، (لم يحدد السنة)، تلقينا إنذاراً في المعسكر. كانت الساعة 11,00. غادرنا عبر طريق تقع بين تلتين".
ويروى "15 شخصاً، أربع سيارات، لا مدرعات. فجأة دوّى انفجار كبير. فتحت عيني، رأيت رفيقي مقطّعين إلى نصفين وأمعاؤهما في الخارج، وكان هناك ثالث مقتول أيضاً. حُفرت الصورة في ذاكرتي".
ويتدارك قائلاً: "عندما أدركت ما حصل، كان إطلاق النار قد بدأ. كانوا يختبئون بين العشب. استمر الأمر عشرين دقيقة. لم تكن لدينا ذخائر كافية، بينما كانوا هم يطلقون النار من دون توقف".
ويتابع: "نجحنا في الانسحاب. لا أتمنى لأحد أن يشهد انفجار لغم. في الوسط، غالباً ما يستخدم الجهاديون الألغام ضدنا. الله هو الذي يقرر كل شيء، لكنني أعرف أنه في وسط مالي الحرب ليست حلاً".
وخضع مالك (ثلاثيني) لعلاج نفسي على مدى أشهر، وهو اليوم في باماكو في انتظار فصله إلى مكان آخر.
(فرانس برس)