تحول حديث المصالحة الفلسطينية إلى تقليد فلسطيني دوري، يعاد طرحه على فترات زمنية متباعدة، مع كل جولة من جولات المصالحة المتجددة، تلك الجولات المتشابهة في مضمونها، والمختلفة في شكلها الخارجي، تحديداً بوسيطها الإقليمي الراعي لها.
فتمر كل جولة من تلك الجوالات بالتراتبية المقيتة ذاتها التي ألفناها، بدايةً من الإعلان عن مبادرة إقليمية، ثم لقاءات ثنائية تمهيدية بين الوسيط من ناحية، وكل فصيل من الفصائل الفلسطينية على حدة من ناحية ثانية، تتبعها تسريبات إعلامية متفائلة، تتحدث عن تقارب في الرؤى الفصائلية وعن أجواء حوار ودية، وتحديداً بين حركتي فتح وحماس، ثم تبدأ جولات من الحوار غير المباشر بين فتح وحماس، دون مشاركة أي من القوى والفصائل الفلسطينية، ومنها ننتقل إلى تسريب صور للقاءات ثنائية مباشرة بين قادة الحركتين، وصولاً إلى الإعلان عن اتفاق شبه مكتمل، يستوجب التحضير لعملية توثيق التفاهم وتحديد الضمانات، من خلال ترتيبات جماعية يحضرها الوسيط الإقليمي ومجمل القوى والفصائل الفلسطينية.
طبعاً لا ينتهي مسلسل المصالحة هنا، بل يمتد إلى أبعد من ذلك بقليل، حيث ينتهي بعودة الخلاف بين كلا الحركتين الرئيسيتين فتح وحماس، واستعادة الأجواء الإعلامية المشحونة، والاتهامات المتبادلة بتعطيل المصالحة بينهما، وكأن شيئاً لم يكن، ويختفي الوسيط الإقليمي وينتهي دوره كلياً.
يعود الانقسام الفلسطيني بشكله الفج إلى العام 2007، أي بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، غير أن بدايته الحقيقية تسبق تلك السيطرة بأعوام عديدة، يردها الكاتب إلى المرحلة التي أعقبت وفاة ياسر عرفات في العام 2004، في حين يعزوها آخرون إلى لحظة توقيع اتفاق أوسلو، أو ما بعد انتخاب محمود عباس رئيساً للسلطة في العام 2005، أو نتيجة نجاح حماس في الانتخابات التشريعية في العام 2006.
طبعاً لم تخل العلاقة الفتحاوية - الحمساوية منذ بدايتها من أجواء التوتر والخلاف، لكنها لم تفض بأي مرحلة من تلك المراحل إلى صراع مباشر أو غير مباشر بينهما، الأمر الذي يعزوه البعض لحنكة وشخصية ياسر عرفات، الذي أدار الخلاف مع حماس بأقل الأضرار الممكنة، وهو ما يفسر تصاعد حدة الخلافات بعد وفاته، حتى وصل إلى ذروته في غزة، مكرساً انقساماً سياسياً وجغرافياً مستعصياً حتى الآن.
لا تخفى أسباب الانقسام الحقيقية عن شعب فلسطين، لا سيما الصراع على الهيمنة، وعلى التحكم في مصير شعب وقضية فلسطين، والسيطرة على الأموال والمنح والتبرعات المقدمة للشعب الفلسطيني. وهي أمور عجزت الحركتان عن حسم سيطرتها عليها بشكل قسري، عبر الاشتباك والمواجهة، أو عبر الحصار والاعتقال، أو استناداً إلى الدعم الخارجي.
الأمر الذي انعكس على قرار الحركتين في رفض المصالحة وإدامة الانقسام، فكل منهما ترفض مفهوم السيادة الشعبية أولاً، ومفهوم المشاركة مع أي طرف كان ثانياً، بما فيها الفصائل والقوى والمنظمات المقربة منها، كما باتت ممارسات كلا الحركتين واضحة في أماكن سيطرة كل منهما، الضفة بما يخص فتح، وغزة بما يخص حماس.
من هنا تغدو محاولات المصالحة الدورية عبارة عن مسرحيات هزلية غير جدية، فهي لا تسعى إلى تحقيق المصالحة، بقدر ما تعمل على تحقيق أهداف أخرى، وإن لم تكن تلك الأهداف واضحة للقسم الأكبر من شعب فلسطين، الأمر الذي يدفعه أحياناً إلى التعلق بوهم المصالحة رغم تعدد تجاربها الفاشلة. لكن يمكن التكهن بتلك الأهداف استناداً إلى توقيت المبادرات وتكرارها، وكأن الحركتين تحاولان التغطية على إخفاقاتهما، على مستوى التحرر واستعادة الحقوق الفلسطينية المستلبة أولاً، وعلى مستوى القضايا والمسائل الحياتية اليومية داخل فلسطين وخارجها ثانياً.
وعليه تحتاج الحركتان إلى مسرحيات المصالحة، من أجل تخدير الشارع الفلسطيني، كي لا تتحول خيبات أمله واحتقانه من الحركتين إلى موجات غضبٍ عارمة، تطيح سلطتهما الهزلية على حين غرة.