كان الشعب الفلسطيني ولا يزال مبدعاً مستعداً لبذل التضحيات الهائلة والأسطورية متقدماً دوماً على قيادته وقادراً على إخراجها من عثراتها وأزماتها، ورغم أن ذلك حصل باستمرار منذ بداية الصراع مع المشروع الاستعماري الصهيوني قبل مائة عام إلا أن هذا المقال سيركز على إبداعات الفلسطينيين خلال العقود الأربعة الأخيرة أي منذ الانتفاضة الأولى إلى المقاومة الشعبية في الضفة الغربية وحتى في غزة، رغم عسكرتها الهائلة المقاومة التي توافق عليها قادة الفصائل في لقائهم بين رام والله وبيروت أوائل أيلول/ سبتمبر الماضي، ثم عجزوا عن ترجمة ما اتفقوا عليه عملياً في الميدان وصولاً إلى تمسك الأجيال الفلسطينية الثانية والثالثة في الشتات "رغم الفراغ القيادي والمؤسساتي الهائل" بهويتهم وذاكرتهم الجمعية العصية على النسيان ونشاطهم اللافت والدائب لتأكيد إصرارهم على حقهم في العودة إلى القرى والمدن الفلسطينية التي هجر آباؤهم وأجدادهم منها قبل سبعة عقود.
اندلعت انتفاضة " الحجارة" الأولى – نهاية العام 1987 - كردّ مباشر من الشعب الفلسطيني في الداخل على أحداث وتطورات ثمانينيات القرن الماضي، العاصفة التي بدأت باجتياح إسرائيل للبنان وصولاً إلى بيروت -1982 - وإخراج منظمة التحرير وقواتها من هناك وتشتتها بين العواصم والحواضر العربية وتكاثر المشاريع السياسية الهادفة إلى شطب القضية الفلسطينية وإزالتها عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي عبر خطط من قبيل روابط القرى في الضفة الغربية والخيار الأردني وحتى الوطن الفلسطيني البديل في الأردن دون تجاهل سعي نظام حافظ الأسد الدموي والإجرامي لشق وإضعاف حركة فتح ومنظمة التحرير والهيمنة عليها للإمساك بورقة القضية الفلسطينية والتلاعب بها لتحقيق مصالح فئوية تتعلق ببقاء النظام الطائفي وضمان سيطرته على السلطة في سورية ولبنان أيضاً.
انتفاضة الحجارة جاءت مفاجئة حتى للاحتلال الإسرائيلي نفسه، خاصة مع قيادتها من الجيل الشاب آنذاك، ونجحت في تأكيد وتكريس مكانة منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، كما نجحت في وضع القضية الفلسطينية مرة أخرى على جدول الأعمال الإقليمي والدولي، غير أن القيادة عجزت عن تجيير تضحيات الانتفاضة وإبداعاتها وتضحياتها من أجل تحقيق الآمال الوطنية الفلسطينية المشروعة في السيادة والاستقلال بل اعتبرتها مناسبة ومبرر للتوقيع على اتفاق أوسلو سيئ الصيت - مطلع تسعينيات القرن الماضي - الذي يمثل جذر كل العلل التي نعانيها حالياً من انقسام وتراجع على كل المستويات، و توقّع القيادي الفلسطيني المؤسس خالد الحسن - رحمه الله - أن ينفجر الشعب الفلسطيني منتفضاً عندما يرى
تداعياته وتجلياته الكارثية على الأرض، وهو ما حدث فعلاً وقبل مرور عشر سنوات على توقيع الاتفاق عبر الانتفاضة الثانية - انتفاضة الأقصى أيلول/ سبتمبر 2000 - التي اندلعت أيضاً بمبادرة ذاتية في الميدان رداً على الاتفاق المشؤوم وتعبيراً عن وعي الفلسطينيين وعقلهم الجمعي بعجزه عن تحقيق آمالهم الوطنية المشروعة في السيادة والاستقلال وتقرير المصير.
الانتفاضة الثانية شهدت كذلك إبداعات وتضحيات هائلة وأسطورية من الشعب الفلسطيني، إلا أن القيادة الرسمية التي تخبطت في مواجهتها بين التأييد والرفض، وعجزت بالتالي عن استثمارها كما ينبغي بل وتمسكت بالبقاء في المسار البائس والفاشل نفسه الذي اندلعت الانتفاضة ضده، والأسوأ ربما أن تفاهم إنهاء هذه الأخيرة أدى مع الوقت وضمن أسباب أخرى طبعاً إلى الاقتتال والانقسام الفلسطيني بعد ذلك بفترة قصيرة.
رغم الانقسام السياسي والجغرافى وعجز القيادة عن توحيد المؤسسات والتوافق على برنامج سياسي جامع لمواجهة الاحتلال على كل المستويات واصل الشعب الفلسطيني صموده وإبداعاته متجاوزاً قيادته الضعيفة البائسة واليائسة والمنقسمة عبر مقاومة شعبية في الساحات الثلاث الضفة الغربية وغزة والشتات. المقاومة نفسها التي تزعم الفصائل أنها محل توافق فيما بينها رغم عدم التعبير أو ترجمة ذلك عملياً وبصدق في الميدان.
استمر الفلسطينيون في التصدي لمشاريع وخطط التهويد والاستيطان في الضفة الغربية بشكل عام والقدس بشكل خاص، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد باءت كل الخطط لتهويد المسجد الأقصى المبارك والحرم القدسي الشريف بالفشل وتحطمت على صخرة العناد الشعبي لأهل المدينة المقدسة بقيادة ميدانية محلية من رجال الدين ومسؤولي الأوقاف الإسلامية والمسيحية في المدينة، واصطفاف شعبي واسع إلى جانبهم.
في غزة ورغم العسكرة الموصوفة الهائلة وربما غير المسبوقة إلا أن القيادة المحلية هناك لجأت إلى الشعب عبر مسيرة العودة والمقاومة الشعبية السلمية لرفع أو تخفيف الحصار عن غزة، بل إعادة تحريك قضيتها إثر عجزها أي القيادة وعبر ثلاث حروب عن تحقيق ذلك، ولم يتأخر أو يتوان الغزاويون كعادتهم وقدموا تضحيات هائلة - مئات الشهداء وآلاف الجرحى - المسيرة التي أدت ضمن أسباب أخرى أيضاً إلى الهدوء السائد حالياً والتحسّن النسبي في مستوى المعيشة ومناحي الحياة المختلفة بغزة.
في الخارج ورغم الفراغ المؤسساتي وعجز الطبقة السياسية عن إعادة وبناء وتفعيل منظمة التحرير لتقوم بدورها كإطار قيادي أعلى للفلسطينيين في أماكن تواجدهم المختلفة، إلا أن اللاجئين في الشتات القديم والجديد مضوا قدماً في القيام بواجباتهم الوطنية لمواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني ليس فقط عبر الانخراط الجدي والفعّال في جهود مقاطعة إسرائيل ومحاسبتها على الجرائم بحق أهلهم بالداخل، وإنما عبر
تخليد الرواية الفلسطينية وتمسكهم بحقهم في العودة إلى المدن والقرى التي شُرِّد آباؤهم وأجدادهم منها في نسف لأحد أهم أسس الرواية الصهيونية عن موت الجيل الأول من الفلسطينيين، وتناسي واستسلام الأجيال التالية أمام جبروت وقهر وجرائم الاحتلال.
في الأخير وباختصار، ومما يدعو إلى التفاؤل الدائم أن الذاكرة الفلسطينية الجمعية الحية والعصية على النسيان بموازاة الإبداع الشعبي الهائل، والاستعداد الدائم للتضحية، وكل ذلك معطوف على المشاكل والأزمات البنيوية والاستقطابات الاجتماعية العميقة التي تعانيها إسرائيل ما يعاظم الآمال بتفكك حتمي للكيان الاستعماري الطارئ حتى مع عجز القيادة الفلسطينية الرسمية وتأخّرها عن مواكبة مبادرات وتضحيات وإبداعات الشعب العنيد.