شخصيات عسكرية وسياسية جزائرية ترحل بدون "مذكرات".. موت بصندوق من الأسرار

19 ديسمبر 2020
مثل زرهوني واحداً من أبرز صناع القرار الأمني والسياسي في الجزائر (Getty)
+ الخط -

بوفاة وزير الداخلية الأسبق وأحد قادة جهاز المخابرات الجزائرية نور الدين يزيد زرهوني، يرحل رجلٌ آخر من رجالات الحكم وصناعة القرار في الجزائر، لكن وفاته دون أن يخلف وراءه أي أثر مكتوب عن حقائق مرتبطة بمحطات وأحداث مهمة، أو مذكرات يبوح فيها ببعض الأسرار والمواقف، تثير أسئلة عن سبب إحجام عدد كبير من رجالات الحكم في الجزائر عن الكتابة وإصدار مذكرات تساعد في فهم تطور الأحداث السياسية في الجزائر. 

وغيّب الموت زرهوني، وغيّب معه صندوقاً من الأسرار والمعلومات والتفاصيل التي كان من الممكن أن تسهم في إضاءة محطات تاريخية أو تصحيح معلومات في تاريخ الجزائر الحديث، حول وقائع مختلفة كان زرهوني شاهداً عليها أو أحد صناعها، خاصة في فترة السبعينيات وبداية الثمانينيات التي شهدت صعود زرهوني إلى مواقع المسؤولية في جهاز المخابرات.

 وشهدت فترة السبعينيات وبداية الثمانينيات سلسلة اغتيالات سياسية لمعارضين جزائريين في الخارج، وعلاقات الجزائر بمحيطها وحركات التحرر والقضية الفلسطينية، إضافة إلى المتغيرات الحاسمة في دائرة الحكم بعد وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين، وصولاً إلى استبعاده إلى الخارج كسفير في واشنطن ومكسيكو وطوكيو، تزامناً مع مرحلة بدايات الأزمة الاقتصادية منتصف الثمانينيات ثم الأزمة الأمنية في التسعينيات. 

ويُصنف زرهوني ضمن ما يسمى بأفراد العلبة السوداء للنظام الجزائري، لكونه عاصر محطات تاريخية مهمة وتحولات بارزة في تاريخ السياسي للجزائر منذ الاستقلال، خاصة منذ عودته مجدداً إلى قلب الحكم مع مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عام 1999.

جنازة وزير الداخلية الجزائري (العربي الجديد)

 وعلاوة على عمله وزير داخلية لبوتفليقة، مثل زرهوني واحداً من أبرز صناع القرار الأمني والسياسي في البلاد، مروراً بأحداث الربيع الأمازيغي عام 2001، والتي حملت أطراف جزائرية عدة زرهوني المسؤولية عن مقتل 128 شاباً خلالها، وكذا عمليات التزوير المختلفة للانتخابات، والصراعات التي كانت تدور بين بوتفليقة وقيادة أركان الجيش وجهاز المخابرات قبل انتخابات 2004، وصراعات ما بعد تلك المرحلة وتشكل الكارتل المالي والفساد في البلاد. 

 

وقبل زرهوني، توفي عدد آخر من كبار الشخصيات السياسية والعسكرية والأمنية في الجزائر، دون أن يتركوا في رفوف المكتبات مذكرات أو كتابات تتعلق بدورهم أو شهادة تؤرخ لفترة ما من الفترات المهمة، على غرار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة والرئيس السابق أحمد بن بلة، وقائد جهاز المخابرات المغتال قاصدي مرباح، والجنرال العربي بلخير الذي كان يُعرف بصانع الرؤساء، لدوره الكبير في صناعة القرار في الجزائر، منذ وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين، والجنرال عبد المالك قنايزية. 

ويدخل في هذا السياق الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني الراحل عبد الحميد مهري، والدبلوماسي عبد القادر حجار الذي توفي مؤخراً، كما تُحجم شخصيات مهمة أخرى ما زالت على قيد الحياة عن إصدار مذكرات مماثلة، كالجنرال محمد بتشين ومحمد تواتي والرئيس السابق ليامين زروال وغيرهم. 

ويقر كثيرون بأن المشهد الجزائري يفتقد كثيراً لمذكرات وشهادات تجيب عن كثير من الأسئلة حول محطات تاريخية مهمة، مقارنة مع دول أخرى، لإحجام النخب السياسية الحاكمة عن التاريخ. 

ويقول الباحث بلال كوري لـ"العربي الجديد" إن هذا الإحجام هو "توليفة بين الانضباط الذي يعود للخلفية العسكرية لنخبنا الحاكمة، والتي جاء أغلبها من جيش التحرير ولعبت دوراً كبيراً في صناعة الشح التأريخي الذي فرضه منطق المصلحة الوطنية، والحالة اللاديمقراطية واللا مؤسسية التي ترهن حق الأجيال في معرفة تاريخها، وإبقاء الكثير من الأحداث في كنف الغموض". 

 

ويعتقد بلال وباحثون آخرون في الشأن السياسي أن إحجام المسؤولين الجزائريين السابقين، خاصة أولئك الذين عملوا في جهاز الأمن والمخابرات، يعود إلى ثلاثة عوامل رئيسة، الأول مرتبط بطبيعة التنشئة السياسية ومستوى زائد من الانضباط وثقافة الدولة التي يتميز بها هذا الجيل، وهي ثقافة تضخمت لديهم بشكل لم تسمح لهم بكسر القيود والبوح بالأسرار والحقائق، وإعطاء حق الأجيال من التاريخ والحقائق التي يعتقدون أنها ملك للدولة وليس للرأي العام، خاصة وأنهم من جيل عرف ب"الميمات الثلاث"،  (ما أعرف، ما رأيت، ما سمعت).

والسبب الآخر، بحسب بلال وباحثين آخرين، يكمن في اعتقاد المسؤولين الجزائريين أن طرح شهاداتهم والمعلومات والأسرار والحقائق قد يقلب الكثير من الأمور ويؤثر في الاستقرار ويدفع إلى محاكمات تاريخية لا تتحمل البلاد عواقبها، والسبب الثالث مرتبط بطبيعة النظام الحاكم في البلاد منذ الستينيات، والذي لا يتحمل طرح سرديات خارج السرد الرسمي للتاريخ والأحداث في الجزائر، وقد سبق أن حدثت ضجة وملاحقات قضائية ضد مسؤولين سابقين لدى نشرهم لمذكراتهم، إذ أجبرتهم السلطة عبر القضاء على تعديلها، كما حدث لرئيس الدولة السابق علي كافي قبل عقد من الزمن.  

جنازة وزير الداخلية الجزائري (العربي الجديد)

ويفسر الكاتب حكيم مسعودي، والذي ساعد عدداً من الشخصيات التاريخية في تدوين مذكراتها هذا الواقع بكونه يحمل أكثر من خلفية بالنسبة لجيل تكون في أغلبهم في نظام ثوري، على غرار يزيد زرهوني الذي تكون في جهاز المخابرات منذ عهد الثورة. 

 وقال حكيم لـ"العربي الجديد" إنه "يمكن ملاحظة أن أغلب رجالات الصف الأول والصف الثاني في جهاز مخابرات الثورة وما بعدها لم يتركوا مذكرات ولا حتى شهادات لدى عائلاتهم قد تدعم جهود المؤرخين والباحثين عن الحقائق التاريخية، كما أن خبايا العمل المخابراتي، في حالة زرهوني مثلاً، ليست دائما مشرفة، فالقائمون على المخابرات المنفذون قد يضطرون أحياناً إلى القيام بمهام تتجاوز حدود القانون والأخلاق لتحقيق أهداف معينة".

وتابع "كما لا ننسى أن قضايا عهد الشخصيات التي نتحدث عنها وننتظر منها أن تدلي لنا بشهاداتها لا يزال قائمة وملفاتها لا تزال ساخنة ومحل تجاذبات من أرشيف الثورة إلى تجاذبات السلطة عند وفاة بومدين وصولاً إلى أزمة التسعينيات بأبعادها المختلفة على غرار قضية بوضياف، ملف المفقودين وملف الربيع الأسود ومقتل 127 شاباً بمنطقة القبائل وقبلها اغتيال الفنان الجزائري معطوب الوناس، وصولاً إلى ملف اغتيال المدير العام الأمن العام العقيد علي تونسي في مكتبه قبل سنوات فقط".