تتميز الساحة السياسية التونسية بكثافة أحزابها وشخصياتها السياسية، يندثر بعضها أو ينسحب بعد الأزمات ليعود مجدداً حالما يرى الفرصة متاحة. وبعد نتائج الانتخابات الرئاسية في 2019، قرر الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي الانسحاب من رئاسة حزب "حراك تونس الإرادة"، ومن الساحة السياسية الوطنية بعدما حصد نتائج ضعيفة واضطر للمغادرة منذ الدور الأول، مؤكداً أنه سيظل ملتزماً بقضايا الشعب والأمة وسيواصل خدمتها من مجالات أخرى. ولكنه عاد إلى المشهد في الأيام الأخيرة بسبب استفحال الأزمة السياسية في البلاد، مؤكداً أن "الانتخابات الرئاسية والتشريعية السابقة لأوانها قد تكون مغامرة، ولكن في المغامرة ثمة على الأقل بعض الأمل". واعتبر أنه "في الوضع الحالي لا أفق إلا المزيد من تعطيل الدولة وتفككها في ظل تفاقم الأزمة الصحية وانهيار الطبقة الوسطى وتفاقم فقر الفقراء، فكل مقومات الانفجار قد تذهب بما تحقق وبما نأمل تحقيقه". وأضاف المرزوقي في تغريدات متعددة على "تويتر"، جرى تبادلها بشكل واسع إعلامياً، أن هناك "ضرورة للحوار الوطني، فهو ليس حواراً للصفقات والترضيات والتسميات بين أطراف الأزمة، وإنما حواراً بين كل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الاعتبارية، لإنهاء هذا الوضع العبثي وعودة البلاد لمسار حل المشاكل لا الغرق فيها".
مواقف المرزوقي تؤشر إلى رغبته في العودة الفعلية للعمل السياسي
ويرى مراقبون أن مواقف المرزوقي تؤشر إلى رغبته في العودة الفعلية للعمل السياسي، وأن السنة التي قضاها بعيداً عن المشهد كانت مجرد مسافة اتخذها لتقويم المسار.
ومن الوجوه التي اختارت الاستقالة أيضاً، مؤسس الحزب الجمهوري العريق، أبرز المنافسين السابقين في رئاسيات تونس أحمد نجيب الشابي، والذي كان قد أكد التخلي عن الحياة الحزبية. وقال: "قرّرت ألا تصبح لي حياة حزبية فقد أعطيت من عمري 50 سنة لتأسيس حزب، والحياة الحزبية تتطلب الكثير من الوقت". وأوضح الشابي أنه سيتولى تأسيس منتدى للفكر السياسي تحت اسم "سياقات"، إلا أن ذلك لم يدم طويلاً ليعلن تأسيس "الحركة الديمقراطية"، ثم الانضمام لحزب "الأمل" ليكون رئيس هيئته السياسية.
وكان الوزير السابق محمد عبو قد أعلن عن استقالته من الأمانة العامة وعضوية حزب "التيار الديمقراطي" ومغادرته للحياة السياسية، والتي قال إنها قد أضرت به. وأضاف عبو (وزير في حكومة الياس الفخفاخ المستقيلة)، في مؤتمر صحافي: "لم تعد لي أي رغبة في أي مسؤولية سياسية ولم تعد لدي أي قناعة وثقة في قدرتي على تغيير الوضع في البلاد، والذي تبين أن إصلاحه أصعب مما توقعت". ولكن عبو عاد في الأشهر الأخيرة بقوة على إيقاع الأزمة السياسية، وكانت له مواقف مثيرة للجدل، ويقول مراقبون إنه لم يبتعد كثيراً عن حزبه الذي أسسه، وابتعاده عن الشأن السياسي مستبعد.
ومن بين المنسحبين من المشهد السياسي أيضاً، القيادي في "حراك تونس" الإرادة عدنان منصر، الذي اختار تأسيس مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي. وأكد منصر، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه اختار الانسحاب من الحياة السياسية لأنه وجد الفضاء الذي سينشط فيه وهو مركز الدراسات، مبيناً أنه الفضاء الأنسب الذي يمكنه من إبداء رأيه في عدة مواضيع، بعيداً عن العودة لما يصطلح عليه بالساحة السياسية التي لا تخلو من إضاعة الوقت.
وتابع منصر أنه انسحب بعد إعلان استقالته من الحياة الحزبية، مشيراً إلى أنه يتمتع الآن بوقته، والوضع الجديد يناسبه، فالساحة لا تشجع على الجدية في ظل الإسفاف الحاصل، مؤكداً "أننا جميعاً منخرطون في السياسة حتى من خلال إبداء الرأي، ولكن هناك من يريدون ممارسة السياسة من خلال الترشح والانتخابات والعمل الحزبي، وأنا الآن لا أجد نفسي في كل هذا". وأشار إلى أن بعض الشخصيات تغيب وتعود مثل أحمد نجيب الشابي، وهو من الشخصيات الفاعلة ويرى أنه لا يزال له دور حزبي، ولكن بالنسبة إليه شخصياً فهو أقرب للجانب الأكاديمي من الحزبي.
من جهته، رأى عضو الهيئة السياسية، المتحدث الرسمي السابق باسم "نداء تونس" بوجمعة الرميلي، أن خسارتهم في انتخابات 2019 وانقسام الحزب هي التي فرضت على العديد من الشخصيات الوطنية الانسحاب من المشهد. وقال في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إن هناك من هم في السلطة يسيّرون الدولة، وهناك من يتابعون من بعيد، وهذا ما فرضته نتائج الانتخابات الأخيرة، مشيراً إلى أنه يقوم من حين إلى آخر ببعض التدخلات الإعلامية، ولكن الهزيمة في 2019 لم تكن سهلة، فالإنهيار كان قوياً وإعادة البناء صعبة وتأخذ وقتاً. وأضاف أنهم ليسوا في وضعية تسمح لهم بالبروز مجدداً، وليس وراءهم أحزاب قوية قادرة على التدخل والتأثير والتغيير، لافتاً إلى أن السلطة حالة سحرية تغري الكثيرين، فلا يستطيعون الابتعاد عنها، ولكن فيها أيضاً العديد من الأوهام، وواقعها صعب، والبعض لا يجيد قواعد اللعبة الديمقراطية للأسف ولا يقبل الخسارة.
وتعليقاً على ذلك، أكد المحلل السياسي الجمعي القاسمي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن عودة بعض الشخصيات للمشهد السياسي مجدداً على الرغم من إعلانها الاعتزال أو تجميد نشاطها، سببه طبيعة النشاط السياسي الذي يبقى بشكل أو بآخر شبيهاً بالقوة المغناطسية التي تجذب كل من انخرط فيها ولو لفترة قصيرة فيبتعد بعضهم ثم يعودون، وهذه الجاذبية يعرفها الجميع منذ بدئهم العمل السياسي.
وأضاف أن السبب الثاني للعودة هو حالة الفراغ التي تعيشها البلاد منذ انتخابات 2014، مبيناً أن الوجوه الجديدة لم تتمكن من ملء المشهد السياسي، لذلك فإن المنسحبين أو المعتزلين يعودون مجدداً بحثاً عن مكان وموقع في ظل حالة الفراغ الحاصلة. ورأى أن هناك أيضاً مسألة تكتيكية في إعلان الاعتزال، فالانسحاب والابتعاد يكون لمراجعة الذات وإعادة تقييم المشهد من زاوية أخرى، ثم العودة بفكرة أو مقاربة جديدة، وهذا ينطبق على المرزوقي وعدة أسماء أخرى. ولفت إلى أن أحمد نجيب الشابي لم يعلن اعتزاله وإنما استقال من حزبه وظل يتحرك خارج المشهد الحزبي، ثم عاد للعمل الحزبي محاولاً تشكيل الحركة الديمقراطية، التي لم تصل إلى ما رسمه، فانضم إلى حزب "الأمل".
وتابع المحلل السياسي أن الأمين العام السابق لـ"التيار الديمقراطي" محمد عبو اعتزل العمل الحزبي ولكنه أعلن أنه سيبقى معنياً بالشأن العام من دون أن ينضم إلى حزب أو إطار تنظيمي جديد، ويمكن تفسير حالته بالبعد المغناطيسي والهدنة لإعادة التفكير والمراجعة، وهي محاولة لتفكيك أسباب الفشل والتموضع من جديد.
عودة بعض الشخصيات إلى الساحة سببها حالة الفراغ التي تعيشها البلاد منذ انتخابات 2014
أما الباحث في العلوم السياسية ماجد البرهومي، فرأى أن ما يجذب هؤلاء السياسيين للعودة ليست السياسة بحد ذاتها، بل حب الكراسي والمناصب، وهذه الرغبة ليست اعتباطية، فالتونسي بطبعه متعطش للسلطة، ففي الانتخابات الرئاسية تم تحطيم أرقام قياسية بمشاركة 96 مرشحاً، على الرغم من رفض العديد من الملفات، وبالتالي هناك ميل للسلطة، وللأسف هناك أيضاً سوء استخدام للسلطة.
وتابع البرهومي في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن ما يؤكد التعطش الكبير للسلطة هو تقسيم الحقائب الوزارية، فكل طرف يسعى إلى الوزارتين السيادتين، الداخلية والعدل، وليس إلى الوزارات التي تمكّنه من خدمة الصالح العام، كالصحة والتربية والتعليم. وأكد أنه لا يمكن تصديق شعارات بعض السياسيين، مثل محمد عبو، الذي رفع شعار محاربة الفساد، ولكن عندما تقلّد منصباً وزارياً لم يتحرك في عديد الملفات، مشيراً إلى أن المرزوقي أطلق بدوره وعوداً ولكن في النهاية أخل بالعديد منها عندما تسلّم السلطة.
ولفت إلى أن الشابي كان واضحاً بأنه يسعى لرئاسة الجمهورية، ويعتبره منصباً للإصلاح ولم يخف ذلك، مؤكداً أن الشابي اختفى لفترة من المشهد السياسي بعد نكسة سباق الرئاسة ولكنه لم يغادر المشهد تماماً، وهو لم يأخذ فرصته في الحكم ولم يمارس السلطة. وهو ما يجعل الحكم عليه غير ممكن، ولكن ربما تحالفاته السياسية لم تكن موفقة وهي التي قادته للفشل. وشدّد البرهومي على أن التعطش للكرسي وسوء استعماله في حالات كثيرة جعل الديمقراطية التونسية تتحول إلى ديمقراطية الملفات، مع بروز عقلية الإقصاء بعيداً عن التشارك وبناء الوطن.