من مناجم الذهب إلى مسابقات ملكات الجمال.. شبكة مصالح "فاغنر" التجارية أكبر من سيطرة الكرملين
من بين الأسئلة التي لا تزال عالقة بشأن زعيم "فاغنر"، يفغيني بريغوجين، بعد تمرّد قصير تزيد ملابساته غموضاً كلما تكشّفت معلومات جديدة، هو مصير إمبراطوريته التجارية الضخمة، الممتدة عبر 15 بلداً، حيث كانت تمتد نشاطات "فاغنر"، مستفيدة من عقود مموّهة مع الدولة الروسية.
تلك العقود المموهة، كما تشرح "نيويورك تايمز"، في تقرير لها اليوم الاثنين، كانت تتم عبر وسيط رئيسي، هو يفغيني بريغوجين نفسه. تمتّعت الشركات التي تعمل تحت اسم بائع النقانق السابق بمعاملة تفضيلية من قبل الكرملين، ضمن بموجبها عقوداً مربحة لتمويل ما كان في البداية مجموعة من شركات المواد التموينية والمطاعم، لتتوسع إلى شبكة مصالح تجارية واسعة تمتد حتى أميركا الجنوبية. ومن خلال العقود المربحة التي وفّرتها الدولة لتلك الشركات، كان بريغوجين يموّل نشاطات "فاغنر"؛ من إدارة حروب الظل والحرب الرمادية، إلى تجنيد المرتزقة، والسيطرة على الموارد، وكل ما يقع تحت عنوان خدمة المصالح الاستراتيجية للاتحاد الروسي في الخارج.
ومع كل تلك الترابطات، ومع غموض مصير بريغوجين، الشخص الوسيط الذي كان يمسك بخيوط كل تلك الشركات -رغم إعلان الكرملين، اليوم الاثنين، أنه التقى الرئيس فلاديمير بوتين أيّاماً بعد التمرد- يبقى مصير هذه الإمبراطورية التجارية الضخمة، التي تجني عوائد ضخمة تتعدى المواد التموينية وعقود النفط والغاز ومناجم الذهب إلى تجارة الترفيه والتسلية، ضبابيًّا، بالذات من حيث إدارتها، ومدى سيطرة الكرملين عليها، وباسم من ستجنى أرباحها.
يزداد السؤال تعقيداً إذا ما نظرنا إلى نطاق أعمال إمبراطوية "فاغنر" التجارية، وطبيعة الخدمات التي تقدمها للدول، وكذلك مواردها المالية التي تقدّر بالمليارات. "نيويورك تايمز" تسرد بعضها، رغم أن الحجم الحقيقي لها، كما تستدرك الصحيفة، "لا يزال لغزاً".
التموين والعقارات
بعد صعوده من البيع في أكشاك النقانق، ثم العمل في مطبخ الكرملين، حصل بريغوجين على المليارات عبر العقود الحكومية، وسيطر إثر ذلك على مجموعة واسعة من الشركات، معظمها في سانت بطرسبرغ، مسقط رأسه وثاني أكبر المدن الروسية.
تضمنت مشاريع بريغوجين شركات التموين، والبناء، والترفيه؛ كما أصبحت شركاته واجهة إدارة لمجموعة من الفنادق، والمطاعم، المراكز التجارية، وكذلك متجر بقالة للطهاة على الطريق الرئيسي في سانت بطرسبرغ.
تلك المصالح التجارية كانت مترابطة، من حيث الإدارة العامة، والتدفق المحتمل للأموال
ووفق الصحيفة، فإنه من غير الواضح ما إذا كانت أعمال بريغوجين قد حققت أرباحاً ثابتة أم لا؛ فبعضها اختفى، وبقي البعض الآخر في مكانه.
وبطبيعة الحال، كانت تلك الشركات تجني أرباحاً طائلة، وكانت هذه تسخّر لتمويل نشاطات "فاغنر" في سورية وأفريقيا وأماكن أخرى، كما أقرّ بريغوجين بنفسه في يونيو/حزيران الماضي، قبيل أيام من تمرده، مستدركاً بأن ذلك كله كان دائماً "في سبيل خدمة مصالح الدولة الروسية".
ويقول أحد مساعدي بريغوجين السابقين، واسمه مارات غابيدولين، الذي انشق ويعيش كلاجئ سياسي الآن في فرنسا، إن كل تلك المصالح التجارية "كانت مترابطة، من حيث الإدارة العامة، والتدفق المحتمل للأموال.. هذا نموذج تجاري يوظّف موارد الدولة سعيًا وراء مشاريع متعددة، ومن خلال ذلك، كان (بريغوجين) يحصل على مكافآته الخاصة".
المرتزقة
ظلّ المورد التجاري الرئيسي لـ"فاغنر" في القارة الأفريقية، وفق الصحيفة، هو المرتزقة؛ من ليبيا شمالًا إلى الموزمبيق في أقصى الجنوب. شغّلت الشركة العسكرية الخاصة مقاتلين في خمس دول أفريقية، بمهام تتراوح من توفير الأمن للرؤساء، إلى دعم القادة الاستبداديين، ومحاربة الجماعات المسلحة؛ وغالبًا ما كان لكلّ ذلك كلفة عالية من الضحايا المدنيين.
في جمهورية أفريقيا الوسطى، على سبيل المثال، توفّر "فاغنر" الحماية للرئيس فوستينن أرشانغ تواديرا، وتدرّب وحدات الجيش. المراقبون للوضع في ذلك البلد وصفوا تصرّفات "فاغنر" هناك بأنها "احتلال للدولة"، بالنظر إلى حجم تأثيرها على القرارات السياسية لتعزيز مصالحها على حساب الشعب.
ووفقًا للولايات المتحدة، فقد دفعت الحكومة التي يقودها العسكر في مالي حوالي 200 مليون دولار لـ"فاغنر" منذ أواخر 2021، وجلّها كان لمرتزقة جنّدوا ضدّ الجماعات المرتبطة بـ"القاعدة" و"داعش". كلّ ذلك، بالإضافة إلى الدور الذي لعبه عملاء "فاغنر" في إجهاض حفظ سلام أطلقتها الأمم المتحدة لمدة 10 سنوات، ترك مالي في عهدة الدولة الروسية بشكل حصري تقريبًا.
تجارة الذهب والأخشاب
أبعد من الاتجار بالخدمات الأمنية والعسكرية، كانت الشركات التابعة لبريغوجين ناشطة في استخراج الذهب في السودان وأفريقيا الوسطى، حيث يعملون أيضًا في التحطيب وتصدير الأخشاب.
تسيطر إحدى تلك الشركات، وفق الصحيفة، على أكبر منجم ذهب في أفريقيا الوسطى، وقد وقّعت أخيرًا تصاريح تعدين جديدة هناك لمدة 25 عامًا قادمة. هذا المنجم وحده يمكن أن يجلب للمجموعة نحو 100 مليون دولار في العام، وفقًا للباحث في المعادن في منظمة "آي بي آي أس" في بروكسل، هانس ميركيت.
أحد أكبر مستشاري الرئيس في البلاد، وهو فيديل غواندجيكا، أشاد بما تقدّمه "فاغنر" وجاهر علنًا بالامتيازات الممنوحة لها من جمهورية أفريقيا الوسطى: "فاغنر كانت تحمينا من المتمردين، ووفرت الخشب عالي الجودة للمواطنين، وكذلك البيرة الرخيصة... لذا نقول لهم، خذوا بعض الألماس، خذوا بعض الذهب، الغرب غيور".
استملاك نفط سورية وغازها على طريق حماية الأسد
تدخلت روسيا في سورية رسميّاً عام 2015، لكن "نيويورك تايمز" ترجّح أن الدولة الروسية كانت حاضرة على الأرض هناك منذ عامين قبل ذلك على الأقل، عبر أذرعها الطويلة، وتحديداً "الفيلق السلافي". نخبة هؤلاء المقاتلين، كما يبين الباحث في معهد الشرق الأوسط غيرغوري ووترز للصحيفة، كانوا في الأساس قيادات في "فاغنر".
هذه الأنشطة كانت أساسية في سعي روسيا لأن تصبح قوة عظمى في مجال الطاقة
وبينما جلب الجيش الروسي قواته الجوية وقياداته العسكرية، كانت خطوطه الأمامية في الميدان، بالأساس، من مقاتلي "فاغنر". استولى هؤلاء، بعد انكفاء تنظيم "داعش"، على مساحات شاسعة من الأراضي في الشرق تضمّ المخازن الرئيسية للنفط والغاز في البلاد، وكذلك، فهم يحرسون مدينة تدمر، وهي موقع جذب سياحي مهم.
حدد مسؤولو الاستخبارات الأميركية في سورية هدف "فاغنر" بـ"الاستيلاء على حقول النفط والغاز وحماية الأسد". اليوم، هناك ما لا يقل عن أربع شركات مرتبطة بـ"فاغنر"، مسجلة في روسيا، تملك تصاريح لاستكشاف مواقع النفط والغاز في سورية، وفقًا للمحلل في مجموعة "all eyes on Wagner"، لو أوسبورن. كل تلك الشركات تندرج ضمن قوائم العقوبات الأميركية.
وبحسب الخبير في شؤون "فاغنر"، مدير معهد "نيو أميركا" للدراسات في واشنطن، كانديس روندو، فإن هذه الأنشطة كانت أساسية في سعي روسيا لأن تصبح قوة عظمى في مجال الطاقة، مستطرداً: "في موسكو، ليس ثمة تفريق بين المصالح العسكرية ومصالح الطاقة".
الترفيه والإعلام
أدار بريغوجين شركة إعلامية كان من بين أبرز مهماتها، وفق معلومات الصحيفة، تنظيم حملة خداع وتضليل عبر مواقع التواصل الاجتماعي خلال الانتخابات الأميركية عام 2016. لكن هذه الشركة، بحسب الصحيفة، بدأ تفكيكها منذ تمرّده.
ونقل بريغوجين تجربته مع الإعلام إلى أفريقيا، حيث يبدو أن موسكو معنيّة بصناعة بروباغندا روسية وتشكيل الوعي العام، في تلك القارة البعيدة نسبيًّا عن الإعلام الغربي، بمحدداتها الثقافية، وقبل ذلك السياسية. على هذا النحو، تدير المجموعة محطة إذاعية في القارة السمراء، وتنخرط في مجال إنتاج أفلام الحركة (الأكشن)، وأدارت في السابق كذلك مسابقة لملكات الجمال.
في المحصلة، بين كل تلك الشركات المعلنة والوهمية والوسيطة التي تعمل تحت اسم بريغوجين، من متحف الشوكولا في سانت بطرسبرغ، ومناجم الذهب في أفريقيا، ومشاريع النفط والغاز قبالة الساحل السوري، وصناعة البيرة والفودكا، وتقطيع الأخشاب، وتعدين الماس، والإعلام، وصناعة الترفيه، لا يبدو من السهولة بمكان تخلّي نظام بوتين عن كل ذلك، أو أن يجد له وريثاً في الوقت نفسه؛ وهذا ما يلخّصه مساعد بريغوجين السابق، غابيدولين، بقوله: "لقد نمت شبكة فاغنر وتمددت أبعد من سيطرة الكرملين.. المتخصصون في وزارة الدفاع هم من صاروا يحتاجون إلى التعلم من طاقم بريغوجين".