قد يبدو غريبا القول إن الدنمارك، الواقعة في شمال القارة الأوروبية، وكندا في شمال القارة الأميركية، أصبحتا اليوم تملكان حدودا برية.
نعم، من على سطح جزيرة صخرية تسمى جزيرة هانس، إلى الشمال من غرينلاند، باتت كوبنهاغن وأوتاوا تشتركان في حدود برية تجمع بين قارتين. فبعد أكثر من 40 سنة من الاختلاف والتنافس، وحروب رمزية وتهديدات عسكرية مبطنة، توصل الجانبان إلى اتفاق وسط يقسم الجزيرة المتنازع عليها، والتي لا تبلغ مساحتها أكثر من 1.3 كيلومتر مربع.
جزيرة هانس في الواقع تتبع أكبر الجزر الجليدية في العالم، غرينلاند. والأخيرة تتبع منذ قرون للتاج الملكي الدنماركي، رغم بعدها أكثر من 3600 كيلومتر عن كوبنهاغن، تنعم غرينلاند بـ"حكم ذاتي"، لكن تبقى السياسات الخارجية والدفاعية بيد الدنمارك. والجزيرة الصغيرة المشار إليها كنقطة نزاع منذ 40 سنة كانت حتى عام 1917 محل طمع أميركي، بفضل بعثات استكشافية منذ 1870.
استطاعت كوبنهاغن، التي كانت تسيطر على مستعمرة سابقة كانت تعرف باسم "جزر الهند الغربية" (في الكاريبي) انتزاع الجزيرة من أية مطامع أميركية في مناطق تقع شمال غرينلاند، بعد صفقة تنازلها لواشنطن في عام 1917 عن مستعمرتها السابقة (جزر الهند الغربية). وتلك الجزر كانت تستغلها الدنمارك في الزراعة، خصوصا قصب السكر، وتجارة العبيد، التي ألغيت رسميا في عام 1848.
حروب رمزية
ومنذ عقود، كانت كندا تعتبر جزيرة هانس تحت سيادتها، بينما كانت كوبنهاغن تعتبرها امتدادا طبيعيا لغرينلاند.
وبالرغم من أن الجانبين يتحالفان في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، إلا أنهما ومنذ بداية ثمانينيات القرن الماضي دخلا في نزاع بدا غريب الأطوار في بعض فصوله. لم ترق لأوتوا في عام 1984 الدعابة السوداء التي تعرف في الدنمارك. فبعد سجالات بين الجانبين حول أحقية ملكية الجزيرة، طار وزير دنماركي مفوض بشؤون غرينلاند، توم هييم، في صيف ذلك العام، إلى الجزيرة، رفع علم الدنمارك ووضع زجاجة كونياك للكنديين تحت عبارة "أهلا بكم في الجزيرة الدنماركية"، وهي أصلا جزيرة غير مأهولة.
ولم يفوت الكنديون مناسبة للرد على ما اعتبروه استفزازا دنماركيا، فدفعوا بعلمهم فوق الجزيرة مع زجاجة ويسكي، للتأكيد على أن الجزيرة ملكهم. وبعدها صار الدنماركيون يردون بزجاجات مشروب وطني عندهم يسمى "سنابس"، وعرفت تلك الحوادث في الصحف العالمية بـ"حرب الويسكي بين الدنمارك وكندا".
ووصلت الأمور بين الطرفين إلى حد إجراء كندا مناورات عسكرية في منطقة الجزيرة المذكورة في 2012 و2014، وكانت كوبنهاغن تدفع بنشر بعض جنودها عليها لتأكيد سيادتها.
في كل الأحوال، وبعيدا عن أجواء التنافس بالأعلام والزجاجات، كانت مفاوضات محمومة تجري بين الجانبين، خصوصا أن الأمر لا يتعلق فقط بكتلة صخرية تسمى جزيرة هانس، بل اتفاقية حدود بحرية تعتبر الأكبر عالميا بأكثر من 3800 كيلومتر، شاملة القطب الشمالي ومضائق وبحارا أخرى في المنطقة. بل وتمنح الاتفاقية الدنمارك مساحات بحرية هائلة تصل إلى نحو 900 ألف كيلومتر مربع، في مياه غير عميقة، ممتدة حتى جزر الفارو.
التغيرات المناخية واندفاع روسيا
خلال السنوات العشر الأخيرة، مع ما أحدثته التغيرات المناخية في المنطقة القطبية والمتجمد الشمالي، بذوبان مساحات هائلة من الجليد، تحولت المنطقة إلى دائرة منافسة. دخلت روسيا بقوة في ذروة الخلاف بين أوتاوا وكوبنهاغن، لتأكيد حضورها من خلال ما يعرف باسم "مجلس القطب الشمالي"، مع الدول السبع الأخرى، بما فيها كندا وأميركا، ولرسم خطوط حمراء تخصها.
تحولت المنطقة إلى خطط طموحة، ومن بينها الصينية التي أرادت التوغل في غرينلاند وتحويل ذوبان الجليد إلى فرصة لخطوط إمداد بحري قطبي شمالي نحو أوروبا والقارة الأميركية. بينما انتهجت موسكو المزيد من العسكرة، بتوسيع مطاراتها وتعزيز أساطيلها الحربية في جزرها الممتدة في المنطقة القطبية، كسبيل للاستحواذ على ما في باطن الأرض وفي أعماق البحار.
منذ سنوات والجيولوجيون وخبراء الرواسب يبشرون بوجود احتياطيات هائلة من الغاز والموارد الطبيعية في المنطقة. وعليه، يبدو، وبحسب ما يقرأ خبراء في كوبنهاغن، أن حسم الخلاف "الحدودي" بين كندا والدنمارك جاء على خلفية قطع الطريق على الطموحين الروسي والصيني.
والمنطقة القطبية تسترعي بالطبع اهتماما من دول أخرى غير روسيا، وهي في أغلبها غربية في الأطلسي، مثل كندا وأميركا والنرويج وأيسلندا والدنمارك، حيث يرى المتابعون للاتفاقية الأخيرة أنها "تعبير عن لعبة توزع الموارد الكبيرة المحتملة".
وغير بعيد عن "روح التنافس" الجارية بقوة، ذكر الأدميرال البحري سابقا، والخبير حاليا في المركز الدنماركي للدراسات الدولية، يوهانس ريبر نوردبي، أن الاتفاقية الأخيرة "خطوة غربية أخرى لتحديد حدود القطب الشمالي".
إلى ذلك، نقل أيضا التلفزيون الدنماركي عن الخبير الكندي في العلاقات الدولية، روبرت هيوبرت، أن الاتفاق "في سياق سياسي يتعلق ببناء ثقة غربية متبادلة، كحاجة ضرورية لأية مفاوضات مستقبلية مع روسيا".
إذا، انتقال العلاقة بين الجانبين الدنماركي والكندي إلى خلق حدود برية وبحرية بينهما، والذي يصفه البعض، تلميحا لسياسات موسكو مع حدود الجوار، بأنه "درس في كيفية حل مسائل حدودية بين الدول المتحضرة"، منوهين إلى أن الطرفين لم يُدخلا حتى المحاكم الدولية في الخلافات، ليس بمعزل عن اشتداد مستقبلي للتنافس وربما النزاع في المنطقة القطبية الشمالية. وتعزيز التواجد العسكري فيه ليس وحده الذي شهدته السنوات الماضية، بل محاولات الاستفادة من الموارد الطبيعية، حيث يتكهن الخبراء بأنها تحوي كميات هائلة من الغاز والنفط، ومواد خام هامة لصناعة الرقائق، التي يشكو العالم اليوم من تناقصها أو قلق من توقف تدفقها.