وبات في حكم المؤكد أن قرار عباس سيفضي إلى سيناريوهين، سيكون لكل منهما تداعيات أمنية وسياسية بعيدة المدى. يتمثّل السيناريو الأول في تفجّر احتجاجات جماهيرية ضد حركة "حماس" ومؤسسات حكمها، على اعتبار أن عباس يعزو إجراءاته العقابية إلى رفض الحركة السماح بتمكين حكومة رامي الحمد لله من استعادة السيطرة على الوزارات والمرافق الحكومية في القطاع. ومن الواضح أنه اعتماداً على تصريحات قيادات "حماس" في أوقات سابقة، فإنّ أيّ تحرك جماهيري ضد الحركة بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، سيدفع "حماس" فوراً نحو فتح مواجهة عسكرية شاملة مع إسرائيل. وقد أكد عدد من قيادات الحركة في الأيام الماضية أنهم أبلغوا أطرافاً دولية وإقليمية بأنهم لن يقبلوا أن تتحمل "حماس" تبعات الحصار الذي تفرضه إسرائيل ومصر والإجراءات العقابية ضد غزة، وأن الردّ سيكون باستهداف الاحتلال.
أمّا السيناريو الثاني، فيتمثّل في أن يفضي قرار عباس إلى تعاظم مستوى المشاركة الجماهيرية في أي نشاطات تستهدف الاحتلال، وعلى رأسها حراك مسيرات العودة على الحدود بين الأراضي المحتلة والقطاع، والذي يتواصل منذ أكثر من أسبوعين.
ويبدو السيناريو الثاني هو الأقرب للتحقق، إذ إنّ مفهوم عباس لتمكين حكومته يشمل أيضاً موافقة حركات المقاومة العاملة في قطاع غزة على نزع سلاحها وتسليمه للسلطة، إلى جانب تخليها عن مقدراتها العسكرية، وضمنها شبكات الأنفاق الهجومية والدفاعية. فهذا المفهوم للتمكين يقابل برفض جماهيري عارم يتجاوز حدود الاستقطاب التنظيمي. فحتى قيادات "فتح" في غزة، الموالية لعباس، لم تجرؤ على تبرير المطالبة بنزع سلاح المقاومة والدفاع عنه، في حين أنّ ممثلي جميع القوى الفلسطينية الأخرى يرفضون هذا المفهوم، وينتقدونه.
وترى الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين في قطاع غزة أنّ المطالبة بنزع سلاح المقاومة وتسليمه للسلطة يعني استنساخ البيئة الأمنية والسياسية في الضفة الغربية، والتي تمكّن سلطات الاحتلال من اجتياح المدن الفلسطينية في الليل والنهار. إلى جانب ذلك، فإنّ حركة "حماس" تتمتع تقريباً بدعم نواة صلبة تصل نسبتها إلى حوالي 30 في المائة من الغزيين، وتتسم بدافعية كبيرة لمواجهة أي توجه لنزع سلاح الحركة. من هنا، فإنه من المرجّح أن تؤدي قرارات عباس إلى تعزيز بيئة المقاومة الشعبية التي تمثّلها حالياً مسيرات العودة الكبرى من خلال اندفاع قطاعات جماهيرية جديدة للالتحاق بهذا الحراك ودعمه.
ومن غير المستبعد أن تفضي البيئة التي تكرّسها قرارات عباس إلى جعل حراك العودة أكثر تصميماً على تحقيق أهدافه، من خلال زيادة دافعية الجماهير لتجاوز الحدود مع الاحتلال.
ومن الواضح أن تحقّق أحد السيناريوهين أعلاه، سيمثّل تحدياً كبيراً لإسرائيل، لا سيّما في ظلّ حالة انعدام اليقين بشأن مستقبل الأوضاع الأمنية على الجبهة الشمالية، بعد قصف مطار "تي فور" السوري في حمص، والذي نسب لإسرائيل، وعلى خلفية التوقعات بشن الولايات المتحدة ودول أخرى هجمات على أهداف لنظام بشار الأسد.
وفي حال أفضى قرار عباس الأخير إلى تفجّر مواجهة شاملة بين "حماس" وإسرائيل، فإنّ هذا التطوّر لا يخدم مصالح تل أبيب بالمطلق. فإلى جانب أن المستويات السياسية الإسرائيلية حرصت على القول أخيراً إنه لا يوجد لإسرائيل أهداف استراتيجية يمكن أن تحققها من مواجهة مع "حماس"، كما عبر عن ذلك قبل يومين عضو المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن يوآف غالانت، فإن هذه المواجهة ستؤثر على فاعلية الجهد الحربي الإسرائيلي في حال تفجّرت مواجهة في الشمال.
وفي حال أدّت عقوبات عباس الجديدة إلى تعاظم نشاط فعاليات حراك العودة، فإن هذه النتيجة ستشكّل تحدياً أمنياً كبيراً لتل أبيب. فبحسب تقديرات الجيش الإسرائيلي التي كشفت عنها صحيفة "يسرائيل هيوم" الإثنين، فإن هذا الجيش سيكون مطالباً بالدفع بنصف قواته البرية إلى الحدود مع غزة في حال تواصل حراك العودة وتطوّر. ومن الواضح أن استنزاف الجيش الإسرائيلي على طول الحدود القصيرة مع قطاع غزة في الوقت الذي يتأهّب فيه لاحتمال انفجار مواجهة كبيرة في الشمال، سيقلّص من قدرة تل أبيب للاستعداد لهذه المواجهة.
من هنا، فإنه يمكن الافتراض بأنّ إسرائيل قد تتحرّك على المستوى الإقليمي والدولي لمحاولة تطويق تداعيات قرارات عباس الأخيرة، لا سيّما أنّ وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، كان قد اتهم عباس صراحة بأنه يتوسّع في فرض العقوبات على غزة من أجل جرّ "حماس" لمواجهة شاملة مع إسرائيل.