تخطت خطة الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، والتي حملت عنوان "السلام الشامل" في كولومبيا، العام منذ أن طرحها أمام البرلمان الكولومبي، في 22 أغسطس/آب 2022، والهدف منها إنهاء العنف في البلاد، والذي ظلّ يغلّفها لعقود. لكن بعد أكثر من عام على طرح الخطة، يرفض المتمردون في كولومبيا، إلقاء السلاح، حيث تعود دورة العنف مجدداً وبوتيرة قد تطيح آمال الكولومبيين برئيس يجلب إليهم السلام.
القوة لمن يحمل السلاح
وتبقى القوة في مناطق في كولومبيا، لمن يحمل السلاح في يده، وحيث لا سطوة للدولة، بل لزعماء تجارة المخدرات، والذين يتفاوض بعضهم مع السلطات. وبيترو نفسه، هو متمرد سابق، وهو أوصل اليسار إلى السلطة للمرة الأولى في تاريخ البلاد إثر فوزه بالرئاسة في الدورة الثانية في يونيو/حزيران 2022، ضد خصمه رودولفو هيرنانديز. ووعد بيترو، مع فوزه، بتطبيق "السلام الشامل"، وإنهاء واحدة من أطول الصراعات في العالم. ولكن فيما تمضي حكومته قدماً لتنفيذ هذا الوعد، تبدو بؤر في البلاد، نموذجاً لمدى صعوبة هذه المهمة، ومنها مثلاً ميناء بوينافينتورا، 550 كيلومتراً غرب العاصمة بوغوتا، الذي أصبح رمزاً للعنف المرتبط بالعصابات المسلّحة.
ويهدف بيترو، من وراء خطته لـ"السلام الشامل"، لإعادة توجيه تعامل الدولة الواقعة في جنوب أميركا، مع العنف المتأصل، عبر استبدال العمليات العسكرية بالبرامج الاجتماعية التي تلامس أصول الصراع، بما فيها الفقر في المناطق الأكثر عنفاً، كبوينافينتورا. كما أن الرئيس يجري مفاوضات مع أقوى الجماعات المسلّحة في كولومبيا، من المتمردين اليساريين إلى مافيات التهريب الأصغر حجماً، في مسعى لإقناعهم جميعاً في وقت واحد.
يرى خبراء أن خطة الإعانات المالية قصيرة الأمد غير كافية
وتقتضي خطة بيترو، الأولية، أن يحصل على إعلانات وقف نار من الجماعات المسلّحة والإجرامية بشكل متزامن، ومن ثم مقايضة العفو والتسامح القضائي ومنافع أخرى بنزع السلاح الدائم. ويرى المنتقدون للخطة، أنها قدّمت الأرض للجماعات الخارجة على القانون، لتفعل ما تشاء، من دون تحصيل أي تنازل منها في المقابل. لكن الداعمين، يرون أن بيترو نجح أولاً في الحصول على موافقة الكونغرس الكولومبي (البرلمان) على خطته، ثم إبرام اتفاق وقف للنار مع أكبر الحركات المتمردة التي لا تزال نشطة في البلاد، وهي "جيش التحرير الوطني" (إي أل أن)، وهو ما دخل حيّز التنفيذ في 3 أغسطس الماضي. وتفاوضت حكومة بيترو منذ ديسمبر/كانون الأول 2022 مع الـ"إي أل أن"، أولاً في فنزويلا ثم في المكسيك.
وتقول حكومة بيترو إن أكثر من 31 ألف مسلّح قدموا إليها للتفاوض منذ الإعلان عن خطة "السلام الشامل"، بحسب تقديرات حكومية. كما بدأ التخطيط للبرامج الاجتماعية التي تستهدف الشباب والفتية الذين تشغلّهم العصابات، في مناطق مثل بوينافينتورا وغيرها. لكن بحسب خبراء، فإن أكثر العصابات قوة في البلاد، قد زاد نفوذها منذ الإعلان عن الخطة، كما بلغت إراقة الدماء في صراعات الجماعات المسلّحة نفسها، بين بعضها، أوجّها. ويرى المنتقدون للحكومة اليسارية، أن المجموعات الإجرامية استغلت وقف إطلاق النار، لتقوية نفوذها. وينظر كثيرون، من الضحايا وصولاً إلى الجماعات المسلحة التي تنشد فعلاً السلام، إلى خطة بيترو بتشكيك كبير، يعزّزه تاريخ طويل من العنف الوعود التي ذهبت أدراج الرياح.
بوينافينتورا... رمز للعنف في كولومبيا
ويرى جيريمي ماك ردموت، المؤسس المشارك لمنظمة "إنسايت كرايم" البحثية ومقرها كولومبيا، في حديث لوكالة "أسوشييتد برس"، أن "الفكرة وراء خطة بيترو صائبة لناحية توفير المال، فهو يقول تعالوا لنعالج الأسباب الاجتماعية التي تقف وراء هذا العنف، لكن التحدي بالنسبة إليه يبقى كيفية إدارة مفاوضات سلام، من دون تقوية هذه الجماعات".
لم تقترب أي جماعة مسلّحة بعد من تسليم السلاح
ولم تقترب أي جماعة مسلّحة بعد من تسليم السلاح. ففي بوينافينتورا مثلاً، ترفض عصابة "لوس شوتاس" نزع السلاح "قبل أن تفعل ذلك كل الجماعات المسلحة في كولومبيا"، بحسب ممثل عن هذه العصابة النافذة في المنطقة. ويقول الرجل (طلب تسميته باسمه الحربي، جيرونيمو)، لـ"أسوشييتد برس": "هل تعلمون كم مجموعة تريد الفوز ببوينافينتورا؟ الأطنان منهم".
في بوينافينتورا، ولّدت حرب العصابات صراعاً عنيفاً بشكل خاص، جعل المدينة واحدة من أكثر مدن العالم عنفاً، حيث تطغى الاغتيالات وعمليات الخطف والاستغلال الجنسي، وكذلك المقابر الجماعية ومنازل "التقطيع"، حيث تقوم العصابات بتقطيع أعضاء أعدائها. وعلى جدران المدينة، رسمات لوجوه الضحايا، وأسمائهم، مع عبارة: "الموت لا يمكن أن يكون أملنا الوحيد". وتقول الحكومة إنها لم تعد قادرة على أن تحصي أعداد المسلحين، الذين تتنافس عصاباتهم على حصتها من المدينة.
هذا الوضع يختصر عقود الحرب الطويلة في كولومبيا، بين الجماعات المتمردة اليسارية والمليشيات اليمينية وتجار المخدرات وقوات الحكومة، ما جعل أكثر من 9.5 ملايين شخص، أي حوالي 20 في المائة من عدد سكان كولومبيا، ضحايا التهجير القسري والقتل المتعمد والعنف الجنسي وغيرها من الانتهاكات والجرائم الإنسانية.
ويرى الكثيرون في بوينافينتورا، أن الشباب العاطل من العمل، والذي يفتقد الفرص، فتقوم العصابات بتجنيدهم، هم ضحايا أيضاً. ويؤكد أسقف المدينة، روبن داريو جاراميلو مونتويا، لـ"أسوشييتد برس"، أنهم "لم يختاروا ذلك، لقد أجبروا عليه، إنهم فقراء، ولم يعرفوا واقعاً آخر، العنف يحيط بهم من كل مكان، ولا يمكنهم المغادرة".
وتوضح المتحدثة باسم الحكومة، كارولينا هويوس، للوكالة، أنه "كجزء من خطة السلام الشاملة، سوف توجه برامج التوظيف الحكومية للمناطق التي تسجّل أعلى معدلات العنف والفقر، بما فيها بوينافينتورا، لافتة إلى أن هذه البرامج أساسية للخطة. وكان بيترو أعلن في مايو/أيار الماضي أنه "سيكون هناك الآلاف من الشباب الذين ستدفع لهم رواتب لكي لا يقتلوا، لكي لا يشاركوا في دورة العنف، لكي يتعلموا". لكن تدور أسئلة كثيرة حول ما إذا كان هذا البرنامج الذي سيدوم بين 6 و18 شهراً كافياً. وقد يكون أكبر مثال على ذلك، اتفاق السلام في 2016 مع "القوات المسلّحة الثورية الكولومبية" (فارك)، الذي جعل الرئيس السابق خوان مانويل سانتوس يفوز بجائزة نوبل للسلام لـ"إنهاء أطول حرب أهلية في العالم". لكن الهدوء لم يدم طويلاً.
(العربي الجديد، أسوشييتد برس)