يدفع الرئيس التونسي قيس سعيّد، ببلاده إلى عزلة داخلية وخارجية، إذ انخرط في خلافات وتباينات مع الجميع في الخارج، ليبيا والمغرب وجزء كبير من الدول الأفريقية، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وأخيراً صندوق النقد الدولي.
وفيما رفض سعيّد منذ أيام بوضوح المضي في اتفاق مع الصندوق كانت حكومته تنتظره بفارق الصبر من أشهر، يشارك محافظ البنك المركزي مروان العباسي، ووزير الاقتصاد سمير سعيّد، في اجتماعات الربيع للصندوق هذا الأسبوع، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل انهيار متوقع للاقتصاد.
ولكن سعيّد لم يفتح فقط جبهات خارجية لا حصر لها، وإنما استهدف الوضع الداخلي، وأسقط آخر فرصة للحد من حالة الانقسام السياسي الحادة في البلاد، وذلك بإعلانه رفض مبادرة الحوار.
ورد الرئيس التونسي على مبادرة الحوار الوطني التي يقودها الاتحاد العام التونسي للشغل، قائلاً إنه لا حاجة للحوار طالما أن هناك برلماناً، وذلك بمناسبة زيارته مدينة المنستير لإحياء الذكرى الـ23 لرحيل الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، الأسبوع الماضي. وقال سعيّد: "لماذا انتخبنا برلمانا إذاً؟ وعمّ سنتحاور؟"، مضيفاً: "الحوار يجرى في البرلمان، وهي مهمة المشرّع المتمثلة في المصادقة على مشاريع القوانين".
من جهته، قال رئيس مجلس النواب إبراهيم بودربالة إن "الحوار الجدي يكون بين المجلس التشريعي ومجلس الجهات والأقاليم"، مشيراً إلى أن "البرلمان يعوّض مبادرة الإنقاذ الوطني". واعتبر بودربالة، في تصريح لإذاعة "ديوان أف أم"، أمس الخميس، أن "مبادرة الإنقاذ الوطني جاءت من طرف واحد وبالتالي هي منقوصة لأنها لا تمثل إلا جزءاً من طموحات المجتمع". وتابع "لكي يكون الحوار نافعاً ومجدياً، يجب أن يشمل طرفاً يمثل طموحات المجتمع وطرفاً آخر يمثل إكراهات الدولة والتزاماتها (الحكومة)".
إصرار على المضي بمبادرة الحوار
وعلى الرغم من رفض سعيّد لهذه المبادرة، يبدو أن اتحاد الشغل والمنظمات المشاركة في المبادرة (رابطة حقوق الإنسان، وهيئة المحامين، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) تصر على المضي بها.
وكشف المتحدث باسم منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تونس رمضان بن عمر أن "مبادرة الحوار الوطني سيتم الإعلان عنها مباشرة بعد عيد الفطر". وأكد بن عمر لـ"العربي الجديد"، أمس، أنه تم الانتهاء من إعداد الوثائق النهائية التي تتضمن 3 وثائق إصلاحات أساسية، وهي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب وثائق أخرى بمثابة ملاحق لهذه المبادرة سيتم الإعلان عنها أيضاً. وأوضح أنه "سيتم إطلاع الرأي العام والمنظمات الوطنية عليها بعد العيد مباشرة"، آملاً أن يحصل تفاعل إيجابي معها من الجميع، مؤكداً أنها "ستوجّه أساساً إلى رئاسة الجمهورية باعتبار أن المسار السياسي المقترح يدمج رئاسة الجمهورية في كل الخطوات المزمع القيام بها".
بن عمر: مبادرة الحوار الوطني سيتم الإعلان عنها مباشرة بعد عيد الفطر
وأفاد بن عمر بأن "المبادرة لا تقوم على قطيعة سياسية مع الوضع السياسي الحالي، بل تدفع إلى إصلاحات سياسية ودستورية واسعة للعودة إلى الديمقراطية الحقيقية، تدمج الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية". ولفت إلى أنها "تقوم على مبادئ أساسية مهمة في الحياة الديمقراطية، كالتفريق بين السلطات، واحترام الحقوق والحريات وعلوية القانون، إلى جانب الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، لأنه بدون سياسات اقتصادية واجتماعية سنظل إزاء ديمقراطية معطوبة".
وأضاف أن المبادرة "قائمة على التفاعل مع المؤسسات السياسية الحالية ولكنها لن تنتهي برفض الرئيس لها، لأنها ستكون أرضية سياسية للقوى المدنية والاجتماعية والقوى الشبابية وستكون مفتوحة للفاعلين السياسيين". وأكد أنه "لا يمكن القيام بتغيير وانتقال سياسي بدون مشاركة القوى السياسية، والمبادرة لن تقصي أي طرف يؤمن بالديمقراطية والحرية بكل أبعادها"، مبينا أنه "سيتم المضي بها في كل الحالات، وستكون أرضية سياسية نناضل من أجلها، فلا يمكن لنا بعد الثورة والنضال على عدة قيم أن يتم الحكم بدستور لا يخلو من هنات، ومشهد سياسي مشوّه، واستعداء التنظيمات السياسية الكلاسيكية وتحويل جل السلطات إلى وظائف".
وقال بن عمر إن "هناك بعض الآراء المسبقة التي تحكم على المبادرة قبل الاطلاع على تفاصيلها ووثائقها، ولكننا متأكدون أنها ستحظى برضى الأغلبية لأن فيها تشخيصاً غير منحاز للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي حوله إجماع، حتى من قبل الرئيس الذي اعترف بأن البلاد تمر بأزمة اقتصادية واجتماعية".
رفض متوقع للحوار التونسي
ولا تبدو فرضية رفض سعيّد للحوار مفاجئة ولا غريبة، بل كانت متوقعة من أغلب المنظمات. وكان المتحدث باسم اتحاد الشغل، سامي الطاهري، قد قال سابقاً لـ"العربي الجديد": "نتمنى أن يكون الحوار في نطاق التواصل مع أجهزة الدولة، ولكن إذا كان الرئيس رافضاً، فلن نقبل بالبقاء في وضعية المتفرج، وبالتالي نحن نرغب في أن يقبل بالحوار، ولكن هذه المرة لن يكون كما حدث سنة 2020، عندما قدّمنا له مبادرة وافق عليها ثم أضاع سنتين، ونحن في 2023 ولم نتقدم أي خطوة".
وحول الرفض المحتمل من الرئيس للمشاركة في الحوار، وإمكانية المضي فيه من دونه، قال الطاهري: "من المتوقع جداً ذلك إذا كان هو مصراً على عدم إجراء أي حوار".
ويوم الأحد الماضي، ومن شارع بورقيبة حيث كانت تتظاهر جبهة الخلاص الوطني، وجّه رئيس الجبهة أحمد نجيب الشابي، رسالة إلى الرباعي أصحاب مبادرة الإنقاذ، بعد رفضها من سعيّد، قائلاً: "نحن في قارب واحد، لقد أجابكم قيس سعيّد مسبقاً بأنه لن يتحاور معكم، فمتى تدركون أنّ الحوار ليس مع سعيّد لأنه لا يقبل به، بل مع القوى السياسية، والوحدة الوطنية هي المخرج الأوحد للبلاد التونسية".
واعتبر الشابي أنّ "المؤامرة موجودة لكنها ليست من الخارج بل من الداخل، وهي ليست من المعارضين بل من قيس سعيّد الذي زعزع الاستقرار السياسي وزاد الأزمة الاقتصادية احتداداً".
حل تونسي بلا سعيّد؟
وأمام هذه العزلة الداخلية والخارجية، اعتبر مدير المعهد العربي للديمقراطية، الوزير الأسبق خالد شوكات، أن سعيّد "من نوع الحكّام الذي لا يتفاعل أو يتواصل مع المحيط الداخلي والخارجي، وهو يعتقد ربما أن تجاهل الأزمات قد يقود إلى حلّها من نفسها، ويرى في تجربة حكمه الممتدة على أكثر من ثلاث سنوات دليلاً على نجاح نظريته في التعامل مع المشاكل المطروحة مهما كانت عويصة". ولفت إلى أن ذلك "يعود إلى أن سعيّد يعتقد أن الأزمات المطروحة مفتعلة وليست حقيقية، وأن أغلبها من قبيل المؤامرات المدبّرة من قبل أعدائه في الداخل والخارج".
وأضاف شوكات، في حديث مع "العربي الجديد": "مثلما أشار الكثيرون، فإن سعيّد لا يرى نفسه رئيساً عادياً، بل رئيساً مخلّصاً مكلّفاً بمهمة تحفّها العناية الإلهية، ولهذا فإنه مثلما وصل إلى سدّة الحكم في ما يشبه المعجزة سيظل يجترح المعجزات وسيتجاوز جميع المؤامرات والصعوبات وسيدرك مع شعبه "العلو الشاهق" وأعلى مستوى من السعادة الخام".
شوكات: لا أتصور أن هناك مخرجاً سياسياً في المدى المنظور يكون سعيّد طرفاً فيه
وعن الضغوط الدولية، لفت شوكات إلى أن "سعيّد يرى أنها لم تؤثر في مساره، ولم تحل دون تنفيذه لمراده، ابتداء من انقلابه على مسار الانتقال الديمقراطي، إلى وضع يده على جميع السلطات، وسنّه دستوراً منفرداً، ونقضه مكتسبات العشرية الماضية". واعتبر أن "تحدي هذه الضغوط والهجوم المتكرر على أصحابها أصبح مادة خصبة تغذّي شعبية سعيّد وتستجيب للأوساط الشعبوية المساندة له". وبالتالي رأى شوكان أن سعيّد "لن يتفاعل مع هذه الضغوط، بل سيواصل رفع شعارات معادية لها، تماماً كما سيواصل سياسة التهميش التي يتّبعها في تعامله مع اتحاد الشغل وجميع المنظمات والأحزاب باعتبارها أجساماً وسيطة لا بد من ترذيلها والإمعان في إذلالها، وهو أمر يطرب له أتباعه جداً".
وعن تصوره للمشهد بعد هذا الرفض للحوار، قال شوكات "لا أتصور أن هناك مخرجاً سياسياً في المدى المنظور يكون سعيّد طرفاً فيه، واعتقادي أن الأمر يتعلق بتجربة استثنائية تحمل الكثير من خصائص الشذوذ، كتجارب كثيرة عاشتها بلدان في قارات العالم، وهي بمثابة قوس ستغلق إن عاجلاً أو عاجلاً عندما تبلغ عوامل الإغلاق ذروتها".
تمسك بالحوار في تونس
من جهته، اعتبر عميد المحامين الأسبق محمد الفاضل محفوظ، (الحائز على جائزة نوبل للسلام مع الرباعي الراعي للحوار الوطني الذي أجري عام 2013 في تونس)، أن "الوضع المعقّد في تونس يحتاج لحوار، ولكن وفق صيغ مختلفة عن حوار 2013 وقرطاج 1 و2 (حوارات أجراها الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي لحل الأزمات السياسية) بل وفق صيغة أخرى ويمكن ابتداع شكل ونوع حوار آخر".
وقال محفوظ، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه "أمام ضعف تمثيلية البرلمان وضعف مشاركة المواطن وعدم انخراطه بشكل كامل في مشروع رئيس الجمهورية، فإن هناك مشروعية غائبة عن المجلس الجديد، بمعنى أنه ليس هناك ثقة في هذا المشهد". وأضاف: "يجب أن يُعاد بناء تصور جديد أمام التحديات الكبيرة التي يواجهها الشعب التونسي والدولة التونسية، في هذا المسرح العالمي بعد أزمة كوفيد وحرب أوكرانيا والتحالفات الجيوسياسية الجديدة، وهو ما يستحق لقاء بين الطبقة السياسية عموماً، بين من يحكم ومن يعارض، لأن قطيعة الشعب التونسي ليست مع المعارضة فقط بل مع من يحكم أيضاً".
محفوظ: يجب إطلاق حوار بشكل جديد قبل حدوث الكارثة، خصوصاً في ظل المؤشرات الاقتصادية الخطيرة
وتابع: "ليست هناك خيارات أخرى غير الحوار، وحتى إن حدثت أزمة حادة في البلاد وحُمّلت تبعاتها لمن يحكم، ففي النهاية حدثت الكارثة وسيتحمّل الجميع تبعاتها، ولهذا يجب إطلاق حوار بشكل جديد قبل حدوث الكارثة، خصوصاً في ظل المؤشرات الاقتصادية الخطيرة". وأضاف "يبدو أن مبادرة الاتحاد في شكلها الحالي لن تعطي نتيجة، وقد تبيّن ذلك منذ بدايتها، ولاحظنا رفض رئيس الجمهورية لها، وبالتالي يجب إيجاد طرق أخرى".
وعن تمسك سعيّد برفض أي حوار، أفاد محفوظ بأن "كل شي ممكن في السياسة، وليس هناك شيء ثابت، وقد لاحظنا مثلاً تراجع رئيس الجمهورية في مسألة الهجرة غير النظامية بعد ضغط وسائل الإعلام والرأي العام المحلي والدولي، ما يعني أنه يمكن أيضاً أن يتراجع في مسائل أخرى" وبالتالي "يجب إيجاد طريقة للضغط عن طريق الشعب لإيجاد حلول للمأزق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي"، وفق قوله.