تسعى الكونغو الديمقراطية، الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي، بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى إحياء المفاوضات الثلاثية بين مصر وإثيوبيا والسودان حول سد النهضة، بالتزامن مع إصدار مجلس الأمن، ليل الأربعاء الخميس، بياناً متوازناً يدعو فيه الأطراف إلى استئناف المفاوضات بحسن نية على أساس اتفاق المبادئ المبرم بين الدول الثلاث في مارس/آذار 2015.
واختتم أمس الخميس وزير خارجية الكونغو الديمقراطية كريستوف لوتوندولا جولة إقليمية، شملت عواصم الدول الثلاث، بلقاء وزير الخارجية المصري سامح شكري. وسلم لوتوندولا نظراءه وثيقة موحدة للبنود العالقة في المفاوضات حتى الآن، وفقاً لما انتهت له أعمال لجنة الخبراء المشتركة وخبراء الاتحاد الأفريقي، داعياً إياهم إلى تنظيم جولة تفاوض جديدة، يرجح أن تعقد في كينشاسا، انطلاقاً من النقطة التي تعثرت عندها المفاوضات في ربيع هذا العام.
لا يمكن اعتبار جهود الكونغو الديمقراطية مبادرة جديدة
وقالت مصادر دبلوماسية مصرية، لـ"العربي الجديد"، إن الجولة المرتقبة سوف تُدعى لها الوفود الاستخباراتية والدبلوماسية والفنية من الدول الثلاث خلال الأسبوعين المقبلين على أقصى تقدير، حال التوافق على إمكانية البناء على الوثيقة التي قُدمت، وذلك لتقديم تصور شامل لحل نهائي خلال جدول زمني محدود، لا يزيد على ستة أشهر.
وأضافت المصادر أن هذه الجهود، مدعومة من الاتحاد الأفريقي، لا يمكن اعتبارها مبادرة جديدة، بمعنى أنها لا تقدم طريقة مختلفة لمباشرة المفاوضات، ولكنها تأتي في إطار تنسيق رفيع المستوى بين الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي والبيت الأبيض، مدعوماً باتصالات أخرى من الأمانة العامة للأمم المتحدة ومفوضية الاتحاد الأوروبي والصين، بهدف البناء على البيان الصادر من مجلس الأمن، والإسراع في تنفيذ فحواه بالعودة السريعة إلى المفاوضات بخريطة طريق محددة.
وذكرت المصادر أن الخطة السابقة، التي طرحت قبل إتمام الملء الثاني، بالتوصل إلى اتفاق مرحلي وآخر شامل، لم يعد لها ما يبررها حالياً، حيث تسعى القاهرة والخرطوم إلى إنهاء كل البنود العالقة قبل عملية الملء الثالث للسد الصيف المقبل. وأوضحت أن حجر العثرة الأبرز هو أن إثيوبيا ما زالت ترفض إلزامها بأي شيء تجاه التصرفات المستقبلية في المياه خلال مرحلتي الملء والتشغيل، وفي المقابل تبدي مصر والسودان مرونة لقبول العودة للمفاوضات بأسرع وقت، سواء استمرت الآلية الحالية أو اختلفت، شرط تقديم ضمانات محددة للتطبيق على أديس أبابا.
وعلى الرغم من تضمن بيان مجلس الأمن نقاطاً إيجابية، مثل الدعوة لاستئناف المفاوضات، وحث المراقبين الذين سبقت مشاركتهم في الاجتماعات التفاوضية التي عقدت تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، وأي مراقبين آخرين تتوافق عليهم الدول الثلاث، على مواصلة دعم مسار المفاوضات بشكل نشط بغرض تيسير تسوية المسائل الفنية والقانونية، أو أية مسائل أخرى عالقة إطار المسار التفاوضي، وأن يفضي التفاوض إلى صياغة اتفاق قانوني ملزم حول ملء وتشغيل سد النهضة، في إطار زمني معقول، إلا أن البيان به العديد من نقاط الضعف التي تجعله محدود التأثير.
فمن ناحية أولى أكد البيان استمرار التفاوض تحت مظلة الاتحاد الأفريقي فقط، ما يعني فشل مصر والسودان في تدويل القضية ونقلها إلى المحافل الأوسع، واستمرار المفاوضات عرضة لمدى تحمس الرئاسة المؤقتة للاتحاد ومفوضيته العليا، وعلاقاتهما بكل من الدول الثلاث، وحسابات القوة والضعف المتغيرة، خاصة تجاه إثيوبيا دولة المقر للاتحاد. واستطاعت إثيوبيا، مدعومة من الاتحاد الأفريقي ودول أعضاء بمجلس الأمن، إبقاء النزاع محصوراً تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، بحجة أن المنظمات القارية هي الأجدر بنظر النزاعات الداخلية، وهي النقطة التي ركز عليها ممثل أديس أبابا في المجلس تاي أسقي سيلاسي خلال المرتين اللتين ناقش فيهما القضية، مطالباً بعدم نظر الموضوع في مجلس الأمن واعتباره غير مختص.
ومن ناحية أخرى لم يحدد البيان أي مدة للتفاوض، على عكس مشروع القرار الذي تقدمت به تونس في يوليو/تموز الماضي، ما يترك المفاوضات عرضة لتلاعب إثيوبيا والتفافها على المطلوب مرة أخرى. كما أن مجلس الأمن، واستجابة لملاحظات روسيا والصين ورفضهما التعرض بأي شكل لقضايا نزاعات المياه عبر الحدود، أكد، في البيان، أنه لا يتطرق إلى موضوع الخلاف، ولا يشكل سابقة في هذا النوع من المنازعات الخاصة بالمياه العابرة للحدود، وهو ما يُفقده قوة التطرق إلى موضوع النزاع ذاته، خاصة وأنه بات واضحاً أن هذا البند تم تمريره لضمان تمرير البيان ككل.
بيان مجلس الأمن يعني فشل مصر والسودان في تدويل القضية ونقلها إلى المحافل الأوسع
ومع أن القاهرة والخرطوم تعتبران البيان تقدماً ملموساً في مقاربة المجلس للقضية، باعتبارها المرة الأولى التي يتطرق فيها إليها في بيان رسمي، حفاظاً على السلم والأمن الدوليين، وخاصة في منطقة القرن الأفريقي، لا سيما وأن إثيوبيا كانت تدفع بشدة، مدعومة من قوى أخرى لتجاهل القضية تماماً، فإن البيان بحد ذاته يفتقر إلى الإلزام القانوني وحتى السياسي -على عكس ما ذكرت الخارجية المصرية في بيانها المرحب- إذ إنه يُعبر بوضوح عن فشل الأغلبية في التوصل إلى اتفاق على قرار ملزم، كما يعبر عن عدم توافق الدول الخمس دائمة العضوية على مقاربة محددة للقضية.
وفي حين رحبت مصر والسودان ببيان مجلس الأمن، هاجمت إثيوبيا موقف تونس. وقالت الخارجية الإثيوبية، في بيان، إنّ "تونس ارتكبت خطأ تاريخياً بدفعها نحو طلب موقف من مجلس الأمن"، معتبرة أنّ ذلك يقوّض ما وصفتها "بمسؤوليتها كعضو دوري لمجلس الأمن يشغل مقعداً أفريقياً". وأضافت أنّ "إثيوبيا لن تعترف بأي مطالبات تُثار بناءً على البيان". واعتبرت أن "بيان مجلس الأمن بشأن سد النهضة ليس ملزماً، واتفاق إعلان المبادئ الطريق الأمثل لحل الخلاف"، مشيرة إلى ترحيبها "باستئناف مفاوضات سد النهضة وفق مبدأ الاستخدام العادل لمياه النيل".
وأعلنت وزارة الخارجية المصرية، في بيان، أنّ "صدور البيان يعكس الأهمية الخاصة التي يوليها أعضاء مجلس الأمن لقضية سد النهضة، وإدراكاً لأهمية احتواء تداعياتها السلبية على الأمن والسلم الدوليين، ولمسؤوليتهم عن تدارك أي تدهور في الأوضاع ناجم عن عدم إيلاء العناية اللازمة لها". من جانبها، أعربت وزارة الخارجية السودانية عن أملها في أن يدفع اعتماد بيان مجلس الأمن الدولي الدول الثلاث إلى استئناف التفاوض في أقرب الآجال، وفق منهجية جديدة وإرادة سياسية ملموسة، تحت رعاية الاتحاد الأفريقي".
وتتمسك القاهرة والخرطوم، خصوصاً بعد تجربة الملء الثاني الفاشلة والارتباك الذي طرأ على تشغيل بعض سدود السودان، بأن تخرج صيغة الاتفاق النهائي لقواعد الملء والتشغيل، بحسم وضع برنامج واضح ومسبق ومتفق عليه للملء المستمر والدائم للسد، والاتفاق على حجم التدفق اليومي من السد، والذي سيصل إلى سد الروصيرص بالسودان حتى لا تتأثر السلامة الإنشائية للأخير وباقي السدود السودانية. كما تتمسكان بالاتفاق على حجم التدفق العام في فترات الجفاف والجفاف الممتد، والذي تقترح مصر أن يكون 37 مليار متر مكعب كرقم وسط بين ما تطالب به إثيوبيا وهو 32 مليارا، وما كانت تطالب به مصر وهو 40 مليار متر مكعب، على أن يُترك الرقم الخاص بأوقات عدم الملء والرخاء لآلية التنسيق بين الدول الثلاث، والاتفاق على معايير قياس امتلاء سد النهضة وسد السرج الاحتياطي المجاور مجتمعين، والربط بينه وبين سد الروصيرص والسد العالي، وهي مسألة تراها مصر ضرورية في حين تراها إثيوبيا مدخلاً للربط بين السدود وهو ما ترفضه.
وتتمسك دولتا المصب بحسم المواضيع القانونية العالقة، والتي من بينها التوافق على آلية فض المنازعات التي ستنشأ مستقبلاً حول تشغيل السد والملء، والبت في اقتراح مصري سوداني بأن تظل الآلية الرباعية هي مرجعية فض المنازعات، وليس الاتحاد الأفريقي فقط. كما تطالبان برعاية وضع أسس تفاوضية لأي اتفاق مستقبلي بشأن التطورات التي ستطرأ على حوض النيل الأزرق، مثل السدود والمشاريع والبحيرات الصناعية، وهو الملف الذي يسوده خلاف كبير بين القاهرة وأديس أبابا، لرغبة الأولى في توسيعه ليأخذ بعين الاعتبار الوضع المائي الحالي لجميع دول حوض النيل، وبالتالي اعتبار إثيوبيا محتكرة للمياه الدولية، وفي المقابل ترغب إثيوبيا في تحويله إلى اتفاق جديد لمحاصصة مياه النيل وإلغاء الاتفاقيات السابقة ومنها معاهدتا 1902 و1959.