تعتبر مسألة سحب هويات الفلسطينيين المقيمين في القدس واحدة من أخطر السياسات الاستعمارية الهادفة إلى تهويد المدينة ديمغرافيًا، والتي تأتي جنبًا إلى جنب مع سياسات تهويدها ثقافيًا ودينيًا. وسحب الهويات، أو إلغاء الإقامة، ما هو إلا شكل "ناعم" من أشكال التهجير المستمرة منذ النكبة، إذ لا يتم عبر الحرب والسلاح وإنما عبر سنّ "قوانين" تشرعن عملية التهجير هذه، خصوصًا أنه ترافقها ممارسات استعمارية أخرى أبرزها، فرض تعقيدات كثيرة على حياة المقدسيين لاسيما في الجانب الاقتصادي، وفيما يتعلق بالمعاملات الضرورية (مثل استصدار أو تجديد بطاقة الهوية)، وسياسة هدم البيوت، ومخططات تهجير عائلات فلسطينية من المدينة، كما هو الحال مؤخرًا في حي الشيخ جرّاح، الأمر الذي فجّر هبّة شعبية واسعة شملت مدن فلسطين المحتلة، رافقتها معركة "سيف القدس" التي قامت بها فصائل المقاومة في غزة.
منذ بداية احتلال القدس عام 1967 وحتى عام 2020، ألغت سلطات الاحتلال إقامة 14,701 فلسطيني من القدس الشرقية، وذلك بحسب وزارة داخلية الاحتلال. يذكر هنا أن البيانات عن مصادرة وإلغاء بطاقات الهوية المقدسية تستند بشكل أساسي إلى ما يتم الإعلان عنه رسميًا من قبل وزارة داخلية الاحتلال، وإذا أُخذ بعين الاعتبار أن جزءًا من الرقم المذكور أعلاه يمثل هويات أرباب الأسر؛ فإن هذا يعني غالبًا سحب هوية الأفراد المسجلين ضمن هوية رب الأسرة بشكل تلقائي؛ وعليه فإن عدد المقدسيين الذين تم سحب هوياتهم أعلى من هذا الرقم بكثير.
ما سبق يأتي في سياق مخططات تهدف إلى تخفيض نسبة الفلسطينيين في المدينة من إجمالي عدد السكان. كما تسعى سلطات الاحتلال لعزل تجمّعات سُكّانية فلسطينية كبيرة في القدس، بهدف حسم الصراع الديمغرافي في المدينة لصالحها. وترد تقارير عن مخططات إسرائيلية تطرح تصورات للتخلص من تجمعات سكنية فلسطينية يصل عدد سكّانها إلى 140 ألف مقدسي يقطنون في بلدات وأحياء مثل كفر عقب، وسميراميس، وأم الشرايط، ومخيم شعفاط، والزعيم، والعيسوية، وغيرها. وتهدف المخططات الاستعمارية إلى عزل هذه الأحياء عن مركز المدينة، وتقليص الوجود الديمغرافي الفلسطيني فيها إلى أدنى نسبة.
الوضع القانوني للمقدسيين
بعد احتلال القدس الشرقية عام 1967 قامت سلطات الاحتلال بعملية إحصاء سكاني للفلسطينيين الموجودين في المدينة آنذاك، وتم اعتبارهم "مقيمين" عبر منحهم بطاقة "الإقامة الدائمة". وبذلك لم يتم تسجيل الكثير من المقدسيين الذين كانوا خارج المدينة في ذلك الوقت بصفتهم "مقيمين"، ما أدى إلى حرمانهم من حقوقهم من العودة إليها والإقامة فيها، حيث اعتبروا في "القوانين" الاستعمارية في عداد "الغائبين".
وحول الفروقات بين "الجنسية" و"الإقامة الدائمة" في دولة الاحتلال فهي كثيرة وتعكس سياسات استعمارية وتمييزية جليّة؛ تضمن الجنسية لحاملها في الكيان الصهيوني الحصول على كافة الحقوق الاجتماعية والسياسية، بما في ذلك حق الترشح لعضوية البرلمان "الكنيست" والتصويت في الانتخابات العامة، إضافة إلى حق الحصول على الخدمات والمخصّصات الحكومية وأبرزها التأمين الصحي. ويستطيع الإسرائيلي (حامل الجنسية) الإقامة في أي دولة في العالم دون أن يفقد حقه في العودة إلى "إسرائيل" متى شاء ذلك، كما لا يفقد الجنسية الإسرائيلية.
أما "المقيم الدائم" أي المواطن المقدسي، فهو لا يملك حق ترشيح نفسه للبرلمان أو التصويت في الانتخابات العامة. وبطبيعة الحال فإن المقدسيين لا يرغبون في المشاركة في الانتخابات الإسرائيلية حتى وإن "مُنحوا" هذا الحق، فالعلاقة التي تربطهم بدولة الاحتلال هي علاقة مستعمَر مقابل مستعمِر، لا مواطن مقابل دولة.
غير أن المقدسي بصفته "مقيمًا" في الاعتبارات القانونية الاستعمارية فإنه يبقى ملزمًا وبشكل مستمر بإثبات حقيقة سكنه في القدس أو داخل حدود "إسرائيل" حتى يتمكن من استصدار أو تجديد بطاقة الهوية، ووثائق السفر، وتسجيل الزواج والأولاد وغيرها من المعاملات الضرورية، وكذلك من أجل الحصول على حقوقه في التأمين الصحي ومخصصات الأولاد، والتقاعد، وتعويضات البطالة وغيرها. ولأجل الحصول على أي مما سبق فإن على المقدسي إثبات أن مكان سكناه خلال العامين الماضيين كان في القدس، ويجب عليه إبراز مستندات مثل ضريبة "الأرنونا"، وفواتير الكهرباء، والمياه، وعقود الإيجار، وشهادات الولادة لإثبات أن أولاده وُلدوا في القدس، والشهادات المدرسية لإثبات أن الأولاد يتعلمون في مدارس بالقدس، وغيرها من الوثائق. يضاف إلى ما سبق سياسات التمييز في القوانين وفي تطبيقها، كما سيأتي.
شرعنة الترانسفير عبر "القوانين"
وبهدف تسهيل التطبيق العملي لسياسات التهجير للمقدسيين، وحسم الصراع الديمغرافي على الأرض لصالح الاحتلال، تستند سلطات الاحتلال إلى سلسلة من الأنظمة والقوانين والأحكام العنصرية، وأبرزها قانون العودة (1950)، والذي يمنح كل يهودي في العالم حق الهجرة إلى "إسرائيل" والحصول تلقائيًا على الجنسية فور وصوله. وهناك قانون الجنسية (المواطنة) (1952) والذي يفصِّل التشريعات الخاصة بمسائل الهجرة، وينص على حق اليهود بالقدوم إلى "إسرائيل"، وعلى التكفل بتسهيل هجرتهم. وتنص المادة 14/أ على أن اليهود الذين يحصلون على الجنسية الإسرائيلية لا يتوجب عليهم التخلص من جنسياتهم الأصلية؛ بينما تحرم المادة (3) من القانون ذاته الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون في فلسطين قبل عام 1948 من حقهم في الحصول على الجنسية أو الإقامة في "إسرائيل".
وتنص المادة (11) من قانون الجنسية على إلغاء المواطنة بسبب "خيانة الأمانة، أو عدم الولاء للدولة". وتشمل "خيانة الأمانة" كل من يحصل على الإقامة الدائمة في واحدة من تسع دول عربية وإسلامية (المُدرجة في القانون، إضافة إلى قطاع غزة)، دون الحاجة لتوافر مسوغات جنائية. ويمنح هذا القانون المحاكم الحق بإسقاط الجنسية الإسرائيلية عن المدانين "بالإرهاب" و"التجسس" و"الخيانة" و"مساعدة العدو" في وقت الحرب، في حال طلبت وزارة الداخلية منها القيام بذلك كجزء من عقوبة جنائية.
هناك كذلك القانون الخاص بالبطاقة الممغنطة (البيومترية) الصادر عام 2009، والذي يفرض على سكان القدس استبدال بطاقات إقاماتهم الورقية "الزرقاء" ببطاقات "ذكية"، والتي من خلالها يمكن لسلطات الاحتلال استعراض كافة المعلومات عن حاملي هذه البطاقة، من بينها ملامح وجوههم وبصماتهم وأماكن إقامتهم وتنقلاتهم وغيرها. وبالتالي يمكن عبر هذه البطاقات الممغنظة حصر الموجودين داخل القدس، وأولئك الذين يحملون هوية القدس ويسكنون خارجها؛ كمقدمة لإلغاء إقاماتهم وطردهم من المدينة.
كما صادق الكنيست عام 2018 على قانون يمكّن وزير الداخليّة من سحب الإقامة الدائمة على خلفيّة "خرق الولاء". يستهدف القانون بالدرجة الأولى من ينفّذون عمليات مقاومة ضد الاحتلال، غير أنه صيغ بشكل مبهم وفضفاض، عبر استخدام مصطلح "خرق الولاء" لدولة الاحتلال واعتباره سببًا لسحب الإقامة، ويترك الأمر لتقديرات وزير الداخلية؛ الأمر الذي يجعل أي مواطن مقدسي مهددًا بإسقاط حقه في الإقامة في القدس؛ ما يعتبر انتهاكًا صريحًا لاتفاقية جنيف الرابعة، والتي أكدت على أنه "يحظر نقل الأفراد أو الجماعات قسراً، وكذلك ترحيلهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو أراضي أي بلد آخر، بصرف النظر عن دوافعهم".
أخيرًا، استندت حالات الاستعمار تاريخيًا إلى عمليات سنّ القوانين التي تخضع للتعديل والإضافة بشكل مستمر من أجل تحقيق أهداف السيطرة على المستعمَر وأرضه؛ وفي الحالة الاستعمارية الإحلالية في فلسطين، فإن الهدف هو فرض السيادة على الأرض والتهويد الثقافي والديمغرافي. وبذلك صيغت مجموعة من القوانين لشرعنة عمليات التهجير لحسم الصراع الديمغرافي على الأرض لصالح الاحتلال. ويمكن إجمال الحالات التي توفر لها دولة الاحتلال غطاءً قانونيًا لتمرير سياسة التهجير من القدس عبر سحب الهوية كالتالي: إلغاء حق الإقامة للمقدسيين الذين يقطنون في ضواحي القدس الواقعة خارج حدود بلدية المدينة، وفي المحافظات المجاورة، وكذلك الذين يقيمون خارج فلسطين، وإلغاء إقامة المقدسي إذا نقل مركز حياته إلى خارج الحدود البلدية للمدينة، بما يشمل الضفة والقطاع، لمدة سبع سنوات على الأقل، وكذلك إذا حصل على الإقامة الدائمة أو على الجنسية في دولة أخرى، وأخيرًا سحب هوية المقدسي "لأسباب أمنية".