تحيي الجزائر، اليوم الثلاثاء، الذكرى الستين لعيد الاستقلال الذي تحقق في الخامس من يوليو/ تموز 1962، بعد 132 سنة من الظلم الاستعماري، وبعد سلسلة من المقاومات الشعبية، وأكثر من سبع سنوات من الثورة المسلحة، التي انتهت بإجبار فرنسا على خوض مفاوضات سياسية لإقرار استقلال البلاد، خاضت بعدها الجزائر معركة البناء التي لم تكن أقل ضراوة من معركة التحرير.
وتتجه الأنظار بشكل خاص، اليوم الثلاثاء، إلى العاصمة الجزائرية، التي تحتضن أكبر استعراض عسكري منذ استقلال البلاد، والأول منذ العام 1989.
وأغلقت السلطات الجزائرية المدخل الشرقي للعاصمة، لاستغلال مسار بطول 16 كيلومتراً قبالة الواجهة البحرية، لإجراء الاستعراض العسكري. وتم جلب معدات عسكرية ومركبات وعدد كبير من مختلف أنواع الدبابات، ونماذج من ترسانة الصواريخ الدفاعية والهجومية للمشاركة في العرض. كما ستشارك القوات الجوية باستعراض وإنزال مظلي، فيما ستشارك غواصة في عرض القوات البحرية.
رسائل سياسية خلف الدعوات لحضور الاحتفال
وتم نصب منصة شرفية تسمح للرئيس عبد المجيد تبون وضيوف البلد بمتابعة العرض العسكري بمحاذاة مسجد الجزائر الأعظم. وتمت دعوة عدد من الضيوف الأجانب لمشاركة الجزائر في هذه الاحتفالات، أبرزهم رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وقيادات فصائل فلسطينية أخرى، بالإضافة إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والأمين العام لاتحاد الشغل التونسي نور الدين الطبوبي، وآخرين، وهي دعوات لم تخل أيضاً من رسائل سياسية توجهها الجزائر إلى الخارج، في ظرف إقليمي ودولي متوتر.
تزامنت ستينية الاستقلال مع متغيرات إقليمية ودولية
وبدا واضحاً حرص السلطات الرسمية والقوى المدنية والشعبية على إعطاء الاحتفالات بمناسبة ستينية الاستقلال هذا العام طابعاً خاصاً واستثنائياً، إذ بدأت، قبل أيام، عملية تزيين العاصمة والمدن والبلدات الجزائرية بالأعلام الوطنية وتنظيم الفعاليات الاحتفائية، كما تم تنظيف "مقابر الشهداء" في كل البلديات.
نتيجة محسومة لصالح الاستقلال
وكانت نتيجة الاستفتاء الشعبي حول تقرير مصير الجزائر، الذي جرى في 3 يوليو 1962، محسومة لصالح الاستقلال، بعد أن كانت ثورة الجزائر قد حسمت هذا الأمر في أرض المعركة.
وفي حين أن الفرنسيين وصفوا وقتها الاستفتاء بأنه إجراء شكلي، فإن القائد محند أولحاج، الذي لم ينتظر نتيجة الاستفتاء، توجه برفقة فريق من الثوار إلى ميناء صغير في منطقة سيدي فرج في الضاحية الغربية للعاصمة الجزائرية، لرفع العلم في المكان نفسه الذي دخلت منه القوات الفرنسية لغزو البلاد في 14 يونيو/ حزيران 1830، وهدم نصب تذكاري كانت القوات الاستعمارية قد أقامته في يوليو 1930، بمناسبة مئوية احتلال الجزائر.
تحدي القضاء على مخلفات الاستعمار
وبعد الاستقلال، بدأ مخاض وطني آخر، وتحديات ترتبط أولاً باستعادة كيان الدولة، عبر القضاء على مخلفات الاستعمار من مظاهر الجهل والتخلف والفقر، وإنشاء البنى التحتية، وتكوين الكفاءات القادرة على بناء الدولة، وبناء جيش قوي وتنظيم إداري وتركيز مؤسسات الدولة.
فبعد أن كان قد بلغ عدد الطلبة الجامعيين 1800، عشية الاستقلال، أصبح هناك في الوقت الحالي 1.7 مليون طالب، بينهم 250 ألف متخرج سنوياً، بالإضافة إلى نحو 7 ملايين تلميذ في المدارس. كما تمت استعادة الأراضي الزراعية من الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين.
ويضع الكثير من خريجي المدرسة الوطنية في الجزائر ذلك ضمن سياق منجزات الدولة الوطنية، ويعتبرون أن البلد حقق مكاسب جدية مقارنة بالظروف المتخلفة التي عاشتها الجزائر قبل الاستقلال.
ويعتبر الخبير الاقتصادي مراد ملاح، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن التقييم الموضوعي لستين سنة من استقلال الجزائر يفرض النظر بعين الرضا إلى تحقيق منجزات وطنية كثيرة. ويوضح أنه في الجزائر اليوم جامعات ومعاهد وطنية تخرج الآلاف من الكفاءات المشهود لها حتى خارج البلاد.
ويشير إلى أن "الجزائر استطاعت أن توجد لنفسها رصيداً مهماً من الصناعات الوطنية، خصوصاً الدوائية والغذائية، وما زال البلد يراكم العديد من التجارب في مجالات التعليم العالي والصحة والصناعة والفلاحة، محققاً العديد من المنجزات التي يمكن مضاعفتها والبناء عليها". ويشدد على أن هذا الأمر "يعد إنجازاً كبيراً لبلد انبعث من ركام استعمار استخدم بشكل ممنهج سياسة التجهيل والإفقار".
وكانت العثرات السياسية قد بدأت مبكراً بعد الاستقلال، مع اندلاع صراع بين القيادات السياسية والعسكرية، تلاها انقلاب يونيو/ حزيران 1965 على الرئيس أحمد بن بلة، من قبل قائد الجيش هواري بومدين، الذي تسلم الحكم، وصولاً إلى أخطاء تخص الحكم تحت سلطة الحزب الواحد، وسياسات اقتصادية لم تسمح باستغلال ثورة النفط لتحقيق تنمية حقيقية.
وقد أدت هذه الأمور إلى انتفاضات سياسية، كالتي حصلت في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1988، ناهيك عن تمركز الجيش في قلب الحكم، وتدخله في الشأن السياسي، على غرار قراره توقيف المسار الانتخابي في يناير/ كانون الثاني 1992.
وكان هذا الأمر قد أدخل البلاد في دوامة عنف استمرت لعقد أو أكثر، قبل أن يتم إقرار مصالحة وطنية خلال فترة حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، الذي حكم البلاد لعقدين، اتسمت فترتها الأخيرة بفساد مالي وسياسي كبير، قبل أن تندلع تظاهرات الحراك الشعبي في فبراير/ شباط 2019، للمطالبة بالتغيير السياسي ووقف الانهيار.
وفي سياق المتغيرات المتلاحقة بعد الحراك الشعبي، يأتي الاحتفال بستينية الاستقلال هذا العام في ظروف سياسية داخلية، تتميز باستدعاء صاخب للبعد الثوري والروح الوطنية، وبروز مطلب سياسي جدي للتغيير والديمقراطية، وإصلاح الخلل الاقتصادي في البلاد.
عمر روابحي: مخاض الانتقال من جيل الثورة للاستقلال عسير
كما يأتي الاحتفال وسط دعوات متجددة لحوار وطني ومصالحة سياسية واسعة تسمح بمراجعة مشتركة للسياسات، وحوكمة المشاريع، وتحقيق إجماع بين القوى الجزائرية حول رؤية وطنية جامعة، خصوصاً في المجال الاقتصادي، وهو تحدي المرحلة الراهنة بامتياز، بالإضافة إلى التوافق على حد أدنى من حسن تدبير الشأن الاقتصادي والسياسي.
تزامن ستينية استقلال الجزائر ومتغيرات إقليمية
لكن الأكثر أهمية بالنسبة للجزائر هو أن ستينية الاستقلال تتزامن مع مجموعة من المتغيرات الإقليمية والدولية الصاخبة، يبدو أنها فرضت عليها إجراء تغييرات جذرية في هندسة علاقاتها، ومراجعة عميقة لمحددات أمنها القومي.
وتبدو الجزائر في العقد السادس بصدد رسم جديد لتحالفاتها الإقليمية، والتركيز على امتلاك عوامل القوة العسكرية، والتحول نحو توظيف مقدرات الطاقة، التي تملكها، ضمن سياق تحرير اقتصادها من التبعية للنفط، وكسلاح لتحقيق مصالحها الإقليمية. كما تبدو أنها تتجه إلى بناء تحالفات مركزية مع شركاء دوليين، كالصين وروسيا، واستعادة دور مركزي في المنطقة ووضع بصمة في أزماتها.
ويقول الباحث في شؤون شمال أفريقيا في مركز "أورسام" للبحوث والدراسات عمر روابحي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "الأخطاء التأسيسية خلال تشكيل الدولة عادت لتطفو مجدداً إلى السطح: أولوية الداخل على الخارج".
ويعتبر روابحي أن "الجزائر اليوم تقف على مفترق طرق صعب، ويبدو مخاض الانتقال من جيل الثورة إلى الاستقلال على مستوى القيادة عسيراً".
ويوضح أن "الجزائر اليوم دولة مطوقة جيوسياسياً بحلقة من النار، ولعل العقل الاستراتيجي الجزائري بدأ يدرك ذلك على المستوى الخارجي، بيد أنه لا يزال بعيداً عن إدراك عمق التحولات الداخلية ومتطلبات الاستجابة لها عبر الإصلاح والانفتاح".