بات اسم عضو البرلمان الألماني، اليسارية سارة فاغنكنشت، مصدر سعادة في روسيا، بعد أن تزايدت دعواتها لوقف العقوبات ضد موسكو، والعودة إلى تدفق الغاز الروسي نحو بلادها، ما يصب في صالح تعزيز رهانات الكرملين على الزمن لتغيير المزاج الشعبي الأوروبي والغربي لوقف دعم أوكرانيا مالياً وعسكرياً.
وفاغنكنشت مواليد 1969 من مدينة يينا في ألمانيا الشرقية السابقة. وكانت عضواً في البرلمان الأوروبي عن حزب "اليسار" الألماني (دي لينكه) بين 2004 و2009، وانتخبت لأول مرة في البرلمان الاتحادي الألماني (بوندستاغ) في 2009.
وقد بدأ مشوارها السياسي في بداية التسعينيات من القرن الماضي، بانضمامها إلى "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" (SPD، وريث الحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية)، فيما عُرفت بمواقفها المنتقدة للمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، وسياساتها الخارجية.
دُعيت فاغنكنشت إلى الاستقالة من عضوية البرلمان الألماني عن حزب "دي لينكه"
ومنذ بداية فرض عقوبات على روسيا في العام الماضي، على خلفية غزو أوكرانيا، رفعت فاغنكنشت صوتها عالياً بعدم جدواها، ما أوقعها طيلة الأشهر الماضية في مأزق مع يساريتها وحزبها، "دي لينكه"، الذي أبدى غضبه. ودُعيت فاغنكنشت في 10 يونيو/ حزيران الماضي إلى الاستقالة من عضوية البرلمان عن الحزب فيما تتعزز احتمالات توجهها لإنشاء حزب جديد.
وكانت فاغنكنشت قد أثارت جدلاً واسعاً بطرح مواقف تدعو اليسار، ويسار الوسط، إلى سياسات هجرة مختلفة، تحت عنوان "أكثر واقعية"، بينما قادت مواقفها من الحرب الأوكرانية وعدم تحميل بوتين مسؤوليتها إلى اتساع شعبيتها، على خلفية قراءات ترى أن الأزمات المالية والتضخم في ألمانيا، وغيرها من القضايا التي تهم الألمان، تزداد بسبب العقوبات على موسكو.
نموذج مقلق للطبقة السياسية في ألمانيا
وفي وقت تعتبر فاغنكنشت اشتراكية، إلا أن شعبيتها صارت تتجاوز الشيوعيين السابقين، وتحظى بتأييد ناخبي أقصى اليسار واليمين على حد سواء، وفقاً لاستطلاعات نشرت نتائجها صحيفة "بيلد" الألمانية نهاية أغسطس/ آب الماضي.
وأشارت الاستطلاعات إلى أن فاغنكنشت، الأكثر شعبية بين اليساريين، تحتل المرتبة الثالثة عن أكثر السياسيين شعبية في ألمانيا ككل. وهو ليس بمؤشر هيّن للطبقة السياسية التقليدية، التي تراقب بقلق مواقفها الموصوفة بـ"الشعبوية" بين تيارات شعبية تتزايد معارضتها لمواصلة دعم أوكرانيا، إلى جانب استغلال الكرملين تلك المواقف وإبرازها كمؤشر على تشقق جبهة الغرب.
ووفقاً لما نشرته "بيلد" في أغسطس فقد قفزت فاغنكنشت من المركز السابع إلى المركز الثالث، يتقدمها وزير الدفاع بوريس بيستوريوس (من الاشتراكي الديمقراطي)، وزعيم حزب "الاتحاد الاجتماعي المسيحي" المحافظ، ماركوس سودر. واللافت هنا أن زعماء الأحزاب المشكلة للحكومة الائتلافية، برئاسة المستشار أولاف شولتز، تخلفوا عنها في الاستطلاعات.
تأتي تلك التطورات لتشكل ما يشبه بارومتراً حول مواقف الشارع الألماني والأوروبي. وتفيد استطلاعات أخرى بازدهار شعبية الحزب اليميني المتشدد "البديل لأجل ألمانيا" في ولاية سكسونيا، الذاهبة العام المقبل نحو انتخاباتها.
ووفقاً للاستطلاعات التي أجريت بداية سبتمبر/ أيلول الماضي، بحسب "بيلد"، تحقق شعبية "البديل" في الولاية نحو 35 في المائة، متقدماً بست نقاط مئوية على حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" الذي حل في المركز الثاني، متجاوزاً "الاشتراكي الديمقراطي" والليبراليين.
صراع فاغنكنشت مع حزبها
في برلمان ألمانيا الاتحادي تُحسب فاغنكنشت على "دي لينكه"، لكنها منذ فترة ليست بالقصيرة أصبحت في صراع مفتوح مع الحزب. وتخشى قيادة الحزب ذهاب هذه السيدة (54 عاماً، وزوجها السياسي السابق أوسكار لافونتين) نحو تأسيس حزبها الخاص، ما سيشكل ضربة قاصمة لمعسكر اليسار، لا سيما أنها اجتذبت سابقاً إعجاب جمهور "البديل" اليميني المتشدد بتصريحاتها المتشددة والمتعارضة مع سياسات حزب "دي لينكه" حول الهجرة واللجوء ومشكلات الدمج.
وأشارت استطلاعات أخرى إلى رغبة ما لا يقل عن 20 إلى 24 في المائة بالتصويت لفاغنكنشت إن شكلت حزباً سياسياً، من بينها استطلاع لمعهد سيفي للأبحاث في يوليو/ تموز الماضي، الذي أشار إلى أن 20 بالمائة من الألمان يمكن أن "يتخيلوا من حيث المبدأ" التصويت لحزب افتراضي تقوده فاغنكنشت.
وهو الأمر الذي يراه متخصصون أنه سيسحب نسبة لا بأس بها من ناخبي "دي لينكه"، وربما بعض ناخبي "البديل لأجل ألمانيا"، الذين يصوّتون عادة لأسباب تتعلق بمواقف مثل هذه الأحزاب من قضايا اجتماعية وحياتية، أكثر من الأسباب الأيديولوجية.
وترفض فاغنكنشت أن يجرى تبرير رفض بعض السياسات من اليسار باعتبارها أفكاراً محافظة، بحسب كلمة ألقتها بمناسبة ذكرى سقوط جدار برلين والوحدة بين شطري ألمانيا (3 أكتوبر). وهاجمت حزب "الخضر"، مشبهة أفكاره بما كان سائداً في ألمانيا الشرقية، ولافتة إلى استمرار الفروقات بين شطرَي البلد بعد عقود من الوحدة.
فاغنكنشت تدعو لوقف العقوبات عن موسكو
وبمراجعة ما كتبته فاغنكنشت يوم 24 أغسطس الماضي على صفحتها في "فيسبوك"، يمكن فهم الأسباب التي تدعو الكرملين للشعور بالسعادة، والمراهنة على بروز طراز من الساسة الغربيين الذين يتجرؤون على معارضة نهج أوروبا المتشدد تجاه روسيا منذ غزوها أوكرانيا فجر 24 فبراير/ شباط 2022.
سارة فاغنكشت: أوقفوا هذه الحرب الاقتصادية قبل أن تدمرنا
فقد وجهت فاغنكنشت كلامها إلى وزيرة الخارجية الألمانية آنالينا بيربوك بالقول: "يا سيدة بيربوك، العقوبات على (موسكو) تؤذينا. أوقفوا هذه الحرب الاقتصادية قبل أن تدمرنا"، معتبرة أن هذه الحرب "لا يبدو أنها ستنتهي".
ورأت فاغنكنشت أن ارتفاع أسعار السلع الأساسية وزيادة التضخم في ألمانيا يتطلبان "سياسة عقلانية" بدل ما سمته "التبرير الذاتي الساذج والمعايير المزدوجة للسياسة الخارجية التي تُمارس".
ويلقى موقفها هذا، ومواقف أخرى داعية إلى عودة تشغيل خط غاز "نورد ستريم" الروسي عبر البلطيق (والذي توقف تماماً بعد تفجيرات استهدفته في سبتمبر/أيلول 2022) تحت عنوان "التخلي عن سياسة الطاقة التي تلحق الضرر بنا"، شعبية في أوساط الشارعَين اليميني واليساري.
فالشارعان يريان، مثل نخبهما، أن "العقوبات لا تضر روسيا، بل تؤذينا"، كما تشيع فاغنكنشت، مستغلين اعتراف بيربوك أن العقوبات على روسيا ليست مثالية ولها ثمن اقتصادي.
وتروج فاغنكنشت لمسألة "وقف إطلاق النار من أجل مصلحة بلادنا"، ما يدغدغ مشاعر جمهور يتخطى ألمانيا ليشمل أوروبا ككل، ممن بات يظهر تململاً من العيش في ظل ما يسمى "اقتصاد الحرب". وكانت تلك السياسية تساءلت في مرات سابقة عن عدد الأشخاص الآخرين "الذين يتعين أن يُقتلوا حتى يدرك الأميركيون والأوروبيون أن هذا الصراع لا يمكن حله عسكرياً".
موسكو لا تتفرج
ويأتي تقدّم فاغنكنشت و"البديل"، مشفوعاً بمواقف شارع ألماني أكثر حذراً لناحية استمرار الحرب في أوكرانيا. وأظهر مسح أوروبي في مارس/ آذار الماضي (في 10 دول بينها ألمانيا) أن 41 في المائة من الألمان يعتقدون أنه يتعين على الغرب أن يضغط على أوكرانيا لقبول بعض التنازلات عن أراضيها من أجل إنهاء الحرب.
وفي الوقت نفسه فإن النسبة ذاتها من الألمان يرون أنه يجب أن تستعيد كييف بمساعدة غربية أراضيها التي سيطرت عليها موسكو، بما في ذلك شبه جزيرة القرم.
يُذكر أنه في عموم أوروبا يبدو الإيطاليون، مقارنة بالرومانيين والبريطانيين، الأقل ميلاً إلى استمرار دعم أوكرانيا، حيث يعتقد أكثر من 52 في المائة بضرورة وقف الحرب، و29 في المائة فقط يعيرون أهمية لوحدة التراب الأوكراني. ويوضح ذلك إلى حد ما مدى تأثير ونفوذ القوى السياسية في روما، والتي كانت أقرب إلى الروس حتى قبل حرب أوكرانيا.
السجال بشأن مواصلة تسليم أسلحة ودعم مالي لكييف، تجرى مراقبته بصورة لافتة من قبل الكرملين. فعلى الرغم من أن "فيسبوك" مقيّد في موسكو إلا أن وكالة الأنباء الروسية "تاس"، تتابع منذ أسابيع التطورات المتلاحقة في مواقف فاغنكنشت.
واعتبرت الوكالة الروسية في تقرير لها يوم 9 أغسطس الماضي أن مواقف الأخيرة تأتي في سياق مواقف برلمانيين غربيين يؤيدون وقف المقاطعة الاقتصادية، والعمل لأجل وقف الحرب، وينتقدون صرف أوروبا أكثر من 73 مليار يورو دعماً للأسلحة والذخائر لأوكرانيا، بما فيها القنابل العنقودية.
تأييد تصريحات فاغنكنشت الجديدة حول روسيا، في الشارع الألماني، يثير علامات استفهام كثيرة حول أدوار موسكو في خلق أرضية تقارب بين أقصى اليسار واليمين، على أمل ترجمتها في أية انتخابات قادمة، لمصلحة معسكر المتشككين بضرورة استمرار الانخراط في ذات السياسات الغربية.
وأفادت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، وفقاً لما نسبته إلى وثائق روسية مسربة، بمسعى الكرملين لبناء جسور بين معسكري التطرف اليميني واليساري في ألمانيا. وذكرت الصحيفة في تقرير طويل (يوم 21 إبريل/نيسان الماضي)، الجهود التي يركز عليها الكرملين لبناء تحالف معارض للحرب في أوكرانيا.
وبحسب الوثائق الروسية فإن الهدف الأساسي لتلك التحركات المعارضة للحرب هو تأمين فوز المتحالفين (ولو كانوا نظرياً في السياسة على تناقض) في أية انتخابات تجرى، سواء محلية أو عامة.
فمثل ذلك الفوز المتراكم في الانتخابات على مستوى بلدان أوروبا، إلى جانب معركة انتخابات البرلمان الأوروبي في ربيع 2024، يعد هدفاً استراتيجياً للكرملين.
وحتى إن جاء تحت عنوان "بناء تشكيلات مقاومة للحرب في أوروبا ولإضعاف الدعم لأوكرانيا"، فإنه يعيد بعض النفوذ الذي أسسه محيط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ 2013-2014 مع الطبقات السياسية اليمينية المتطرفة، مثل الفرنسية (زعيمة حزب التجمّع الوطني) مارين لوبان، والإيطالي (نائب رئيسة الوزراء جورجا ميلوني) ماتيو سالفيني، وقائمة طويلة من أحزاب متشددة في اسكندنافيا وشرق ووسط القارة الأوروبية، من دون أن يعني انقطاعاً تاماً للتواصل معهم بعد الحرب الأوكرانية.
وسواء يتعلق الأمر بانتخابات في دول كبيرة، كألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا، أو دول صغيرة مثل دول اسكندنافيا ودول البلطيق، فإن للكرملين أسبابه في التفاؤل بإحداث ثغرات في الجدار الغربي.
تراهن موسكو على حدوث اختراق لمعارضي حرب أوكرانيا داخل أوروبا
المراهنة على حدوث اختراق لمعارضي الحرب والجهد الغربي فيها، سواء تعلق الأمر بدولة لاتفيا الصغيرة في البلطيق أو ببولندا، التي يساير فيها اليمين القومي المحافظ (حزب القانون والعدالة) الشارع في مسألة الخوف من خطط موسكو، وبنفس الوقت ينتقد السياسات الأوروبية التفضيلية لصادرات أوكرانيا على حساب فلاحي البلد. واعتبر موسكو أن أي تصويت للمعسكر الرافض لاستمرار دفع فواتير الحرب تصب في مصلحته على المدى البعيد.
على كل، يشكل السيناريو الألماني لتقدم اليمين المتشدد وارتفاع شعبية فاغنكنشت، خصوصاً إذا ترجمتها لتشكيل حزبها الخاص، حالة مثالية لمراهنة الكرملين، وربما من دون تدخل مباشر، على نشوء طبقة سياسية أقل قابلية لتحمل فاتورة ما تشيعه الطبقة السياسية التقليدية من أن إجراءاتها تأتي لمنع وصول الحرب إلى مدن أوروبا، وهي أقل من تكلفة انتصار روسيا في أوكرانيا.
ويمكن تتبع الترجمة العملية لمثل هذا السيناريو في ألمانيا نفسها، حيث نشط التيار المعارض لاستمرار انخراط برلين في دعم كييف منذ بداية العام الحالي، حين أُعلن عن تأسيس حركة سلام جديدة معارضة لاستمرار الحرب.
وجاء ذلك بالتعاون بين فاغنكنشت والناشطة النسوية الشهيرة أليس شوارزر، تحت عنوان "بيان من أجل السلام"، الذي اجتذب منذ 10 فبراير/شباط الماضي توقيع أكثر من 880 ألف مواطن فيما يستهدف توقيع حوالي مليون مواطن.