"الحبُّ - أعزك الله - أوله هزل وآخره جد"، تنسحب مقولة الشاعر والفيلسوف ابن حزم الأندلسي على السياسة أيضاً، بل تبدو مفصّلة على مقاس الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فحين أعلن أوّل مرة عن نيّته الترشّح للانتخابات الرئاسية 2019 جرى استقبال الأمر كمزحة.
يتمثّل موطن الطرافة، حينها، في أن زيلينسكي قد عُرف لدى الأوكرانيين ممثلاً تلفزيونياً له شعبية واسعة. في 2015 بدأ في الظهور في سلسلة كوميدية بعنوان "خادم الشعب"، أدى فيها دور أستاذ تاريخ يصل إلى منصب الرئاسة أمام ذهول الجميع. يبدو أن الصدى الإيجابي للسلسلة، وما تقترحه، قد شجّع زيلينسكي في نقل ما حدث من الشاشة إلى الواقع.
ففي 2018، أعلن عن نية التقدّم للانتخابات الرئاسية مترشحاً عن حزب يحمل عنوان السلسلة الكوميدية نفسها "خادم الشعب"، ومن ثم خاض حملة انتخابية مبتكرة قوامها خطاب ساخر من النخب السياسية، وقد بدا كأنه يواصل دوره في السلسلة الكوميدية.
طيلة الحملة، لم يؤخذ زيلينسكي على محمل الجد، فكثيرون مثله - في مختلف بلدان العالم - يقدّمون ترشّحاتهم لكن قلما يصلون إلى الرئاسة وهو ما حقّقه على حساب الرئيس بيترو بوروشنكو بنسبة 73 في المائة، ليصبح في سن الحادية والأربعين أصغر رئيس لأوكرانيا.
وُلد زيلينسكي في مدينة كريفي ريه (350 كيلومترا جنوب العاصمة كييف)، لأسرة حافظت على اللغة الروسية في حياتها اليومية، وكان والده أوليكساندر زيلينسكي باحثاً بارزاً في الجيولوجيا. اختار الابن دراسة الحقوق، ولكنه في 1990 أخذ منعطفاً إلى عالم الأضواء حين شارك في برنامج ألعاب تلفزيوني، ومن ثمّ باتت الكوميديا صنعته فشارك في عدة برامج كوميدية، ولاحقاً أنتج بعضها من خلال شركة "استوديو حي 95" التي أسّسها في 2003 وأنتج من خلالها برنامج "حيّ السهرة" الذي أصبح الأكثر مشاهدة بين 2005 و2015.
مع تقادم التجربة، بدأ الاهتمام بالبرنامج يتضاءل، وبالتالي كان على زيلينسكي ومساعديه التفكير في شكل حضور جديد. في تلك الفترة، كان التذمّر الشعبي من الطبقة السياسية في أعلى درجاته، وتستطيع الكوميديا أن تغرف من هذا النهر وتستثمر فيه، ومنها جاءت فكرة سلسلة "خادم الشعب".
لعب زيلينسكي دور أستاذ مادة التاريخ، فاسيل هولوبروردكو، والذي يُصبح رئيساً نصيراً لهموم الشعب على حساب نخبة سياسية فاسدة. كانت حبكة بسيطة لكنها فاعلة في التنفيس عن غضب شعبي عميق، ولم يتوقع أحد أنها قد تكون جسراً لوصول زيلينسكي للحكم، ربما هو ذاته لم يكن يفكرّ في ذلك من البداية، لكنه استشعر أن الأمر ممكن في منتصف الطريق (استمر عرض السلسلة في مواسم متلاحقة حتى 2019).
تأسّس الحزب في 2017 من دون أية دعاية، ولم يُعلن عنه زيلينسكي للجمهور الواسع، بل إنه لم يتول فيه منصباً رسمياً حتى 2019 أي قبيل الانتخابات (أسّس الحزب إجرائياً إيفان بوكانوف، أحد شركاء زيلنيكسي في شركة الإنتاج).
بدا "خادم الشعب" مثل عشرات الأحزاب الصغيرة التي لا تقترح شيئاً إلا التعبير عن عدم رضا منتشر في كل مكان، ومن الطبيعي أن يظهر للوهلة الأولى حزباً بدون حظوظ، خصوصاً أنه لم يجتهد في كسب فئات من الشعب الأوكراني، ولم يؤسس فريقاً من الإداريين خلال سنتين، لكن سيتغيّر الأمر حين ظهر زيلينسكي في الصورة.
لكن صعود رئيس لا يتم بهذه البساطة. صحيح أن الممثل بدأ حملته الانتخابية بأقل التكاليف مستعيناً بإيمان شباب قيل إنه تلقى "ثقافته السياسية" من عروضه الهزلية، ولكن سرعان ما التقى صعود شعبيته مع مصالح كثيرة حيث خدمته الدعاية بشكل واضح في الأيام الأخيرة من الحملة وقدّمته كمرشّح جدّي مما وسّع قاعدته الانتخابية.
في تلك الفترة، لم تُظهر روسيا أيّ موقف من الصعود البركاني لشعبية زيلينسكي، بل إن كثيرين اعتبروه رجل روسيا الجديد على خلفية ميله للغة الروسية وتصديه المبكر لقانون فرض اللغة الأوكرانية في كامل الفضاءات العامة للبلاد. لكن زيلينسكي فرض على الجميع مراجعة احتسابه كرجل روسيا في أوكرانيا حين جعل من بروكسل، معقل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وجهته الأولى، ولعلّه كتب منذ ذلك اليوم جزءاً من الفصل الدموي الذي تعيشه اليوم بلاده.
في مايو/ أيار 2019، بات الخيال واقعاً؛ وصل فولوديمير زيلينسكي إلى الحكم تماماً مثل فاسيل هولوبروردكو. مع تحرّكاته الأولى، بدأ زيلينسكي يمحو شبح هولوبروردكو، فبعد أيام من توليه الرئاسة قرّر حل البرلمان الذي لامس عدم تعاونه ودعا لانتخابات تشريعية جديدة وضعته سريعاً في موقع قوة بما أن حزبه نال قرابة نصف مقاعد المجلس النيابي، كما استقالت الحكومة السابقة فاتحة له الطريق لإيصال من يريد إلى المواقع الحساسة لإدارة البلاد.
من زاوية تحقيق أهدافه، يمكن القول إن زيلينسكي نجح في أوّل اختبارات الحكم، فقد صار رئيساً وافر الصلاحيات، ويمكن لسياساته أن توجّه بلاده في المسار الذي يريد. ولكن على مكتبه الرئاسي كانت توجد ملفات معقّدة أبرزها المطالب الانفصالية في الشرق، ناهيك عن المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، وفاقمتها جائحة كورونا بدءاً من ربيع 2020، كما أن زيلينسكي وجد نفسه تحت ضغط مزدوج بين الموالين للغرب والموالين لروسيا فكل قرار كان يأخذه يَحسبه كل فريق ضده، كما هزّت شعبيته "أوراق باندورا" حين جرى كشف شركات أوف شور تحت ملكيته خارج أوكرانيا.
ربما انتظرت موسكو اهتزاز الشعبية التي كانت تحيط بزيلينسكي كي تبدأ في استثمار هفواته، وهي التي لا يمكنها أن تظل مكتوفة الأيدي أمام رئيس أعلن ذات يوم أنه سيجعل من انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) أولوية سياساته الخارجية. كان ذلك بدفع واضح من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ومع خروج هذا الأخير من البيت الأبيض لم يجد زيلينسكي أي سند من خليفته جو بايدن للمضي قُدماً في المشروع ذاته.
كان ذلك التصريح في حزيران/ يونيو 2019 قفزة في الهواء، أما السقوط فقد هندس له الروس برويّة فقد تركوا شعبية زيلينسكي تتآكل بالتدريج والملف الانفصالي يتعفّن ليصل العالم إلى حافة حرب جديدة لا يبدو أن أحداً قد استعدّ لها غير الروس، وسيحمّل كثيرون وزرها لـ"شعبوية" زيلينسكي.
حين نتابع الصراع غير المباشر بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سنكون أمام نظرتين مختلفتين تماماً إلى السياسة والعالم. نظرة جدية قاسية لا تتورّع في البطش، يقابلها رؤية ساخرة لعوبة سرعان ما تصطدم بحدّة الواقع.
صراع يعود إلى خلفيّتين متباعدتين، فيا لها من مسافة تلك التي تفصل الممثل التلفزيوني السابق عن ضابط المخابرات القديم. يستطيع الممثل أن يتلاعب بالضابط متى أحسن إدارة أوراق اللعبة التي بين يديه، لكن كل خطأ، وربما من دون خطأ، يكفي أن تبدو المشاكسة غير ظريفة بالنسبة للضابط، حتى يقرّر إنهاء اللعبة بما في جيبه من عوامل قوة وغطرسة لا ترحم.
يعلم الآن زيلينسكي الفارق بين مواجهة دبٍّ داخل تمثيلية، ومواجهة دبّ حقيقي بكامل شراهته وشراسته.