كان متوقّعاً لصاحب لقب "أكثر النوّاب جاذبية" في بريطانيا أن يأتي في يوم من الأيام خلفاً لبوريس جونسون، إلا أن خطوات وزير المالية المستقيل ريشي سوناك إلى زعامة الحزب وإلى "داونينغ ستريت" تبدو متعثّرة حتى هذه اللحظة، وفقاً لأحدث استطلاعات الرأي.
فليست الجاذبية كافية بالنسبة لزملائه في الحزب للتغاضي عن "الطعنة" التي وجّهها لزعيمهم عبر استقالته من منصبه في الخامس من تموز/ يوليو، وليست كافية أيضاً بالنسبة للناخب البريطاني للنهوض بالاقتصاد في أحلك الظروف التي يمرّ بها ملايين البريطانيين.
طبقة متوسطة ومدرسة للنخبة
ولد سوناك في ساوثهامبتون، جنوب غربي إنكلترا، لعائلة متوسطة وطموحة، تبدو للوهلة الأولى كعائلة منافسته ليز تراس مع بعض الفروقات المتعلقة بالعرق وبالانخراط في السياسة وفي الشأن العام.
ففي حين تقول تراس إنها نشأت في بيت يساري، وإن والدها أستاذ الرياضيات ووالدتها الممرضة كانا أقرب إلى "حزب العمال"، يحكي سوناك كيف أن السياسة كانت غائبة عن بيتهم، إذ لا يعلم حقاً لأي حزب يصوّت والده الطبيب ووالدته الصيدلانية.
وعلى عكس منافسته التي لا تفوّت مناسبة للحديث عن التعليم البسيط الذي تلقّته في مدارس عامّة وفقيرة، تلقّى سوناك تعليمه في كلية وينشستر الداخلية الخاصة والمكلفة جداً، والمعروفة بقدرتها الخفيّة على تأهيل طلّابها لدخول جامعتي أوكسفورد وكامبريدج.
وليس استمرار تراس في التذكير بالفرق الهائل بين مدرستها ومدرسة منافسها سوى دليل إضافي على أن الطبقة الاجتماعية من حيث الثراء والتعليم تتفوّق أحياناً على العرق واللون.
وهذا بالضبط ما لفت سوناك في سنّ مبكرة، عندما كان برفقة أخيه الذي يصغره بسنتين وأخته بخمس سنوات في أحد مطاعم الوجبات السريعة، يقول سوناك إنها المرة الوحيدة التي رنّت في أذنه الكلمة الأسوأ على الإطلاق في الثقافة البريطانية المناهضة للعنصرية: "باكي" - وهي اختصار لباكستاني، يُطلقها العنصريون من البيض على كل الأعراق الأخرى كالهنود والباكستانيين والشرق أوسطيين، وباتت اليوم كلمة ممنوعة في قواميس العدالة والقضاء - حيث أصابته هذه الكلمة التي أطلقها أحد الجالسين بالقرب منهم بإحباط كبير.
إلا أن حجم الإحباط لم يكن كافياً على ما يبدو ليردعه بعد سنوات طويلة عن تبنّي خطة "رواندا" المثيرة للجدل، وإطلاق الوعود بالمضي بها كعنوان عريض في حملته الانتخابية.
ولم يأخذ سوناك في عين الاعتبار أن خطة مماثلة كانت كفيلة بمنع والديه المهاجرين من أصول هندية من الاستقرار في المملكة المتحدة، ومنعه بالتالي من فرصة العثور على حياة جديدة وأحلام لا حدود لها.
فهو الذي بات لاحقاً يشجّع الفريق الإنكليزي عندما يلعب ضد الفريق الهندي في مباريات الكريكت، وهو كذلك الذي اختار أن يكون "محافظاً" في حكومة لا تخفي "عنصريتها" تجاه الآخر، اللاجئ والهارب من الجحيم.
وهو أيضاً الذي أيّد بشدّة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في استفتاء عام 2016 قائلاً: "إن هذه الخطوة ستجعل بريطانيا أكثر حرية وعدالة وازدهاراً"، متحدّثاً عن ضرورة ضبط الحدود في وجه المهاجرين "غير النظاميين" حفاظاً على الأمن والسلام.
ولم يكن الاستفتاء هو المناسبة الأولى التي عبّر فيها سوناك عن موقفه من الاتحاد الأوروبي، سبق له وهو في سن المراهقة أن كتب مقالاً في مجلة المدرسة، يتململ فيه من فكرة أوروبا وينتقد "خطط" توني بلير الرامية إلى "تفكيك المملكة المتحدّة".
سبق له أيضاً أن ذكّر منافسته بتفوّقه عليها في الولاء لقناعاته وفي عدم تراجعه عن أفكاره "المحافظة"، حيث إن تراس عارضت في البداية بشدّة خروج بريطانيا قبل أن تتراجع بعد الاستفتاء وتقفز إلى أقصى اليمين في أفكارها.
لم يكن سوناك الأوّل في المدرسة ولا في الجامعة، حيث كان يقضي معظم أوقات فراغه، بحسب زملائه، في نادي الاستثمار يراهن على الأسهم، لكنه بحسب أساتذته كان عنيداً، صلباً، واثقاً، مهذّباً، لبقاً وضاحكاً.
كذلك سوناك ليس مثقفاً، أقوى ما لديه هو الولاء وأيضاً الطموح الطبقي والقيادي غير المحدود.
"محافظ" ليبرالي ومليونير
انضمّ سوناك إلى المصرف الشهير غولدمان بعد تخرّجه من جامعة أوكسفورد في الاقتصاد والسياسة والفلسفة، ومن ستانفورد في الولايات المتحدة الأميركية في إدارة الأعمال.
أضحى بحسب المقرّبين منه مليونيراً في منتصف العشرينات، وهنا أيضاً تبرز سيرة سوناك كقصة نجاح طبقة معيّنة ووسط تعليمي محدّد يطلق عليه اسم "أوكسبريدج"، حيث يكون خرّيجو هذا الوسط قد تلقّوا تعليمهم في واحدة من بين أقدم الجامعات في بريطانيا أوكسفورد أو كامبريدج، وهذه النخبة هي عادة من تدير البلاد تاريخياً.
كان محافظاً منذ مراهقته، لم تجذبه "موضة" السراويل الممزّقة مثلاً، ولم يكن جزءا من "الشلل" الجامعية التي ترتاد البارات عشية كل آخر يوم في الأسبوع، فلم يحتس الكحول إلا نادراً، لم يتناول لحوم الأبقار ولا مرة في حياته، لم يتخلّ يوماً عن الخيط الأحمر الذي يزنّر معصمه، هندوسيّ ممارس، مدمن على الكوكا كولا.
إلا أن سوناك سحر، في بداية حياته العملية، المستثمرين بلباقته وسلاسة أفكاره، حيث يقال إنه كان بارعاً في إقناع المستثمرين بالتخلي عن أموالهم.
انتخب نائباً في "حزب المحافظين" للمرة الأولى عام 2015 عن ريتشموند، شمال يوركشاير معقل المحافظين، ولم يدخل أروقة السياسة إلا بدافع تعزيز المكانة بعد أن تضاعفت ثروته بزواجه من أكشاتا مورثي، ابنة أحد مؤسسي عملاق تكنولوجيا المعلومات في الهند "إنفوسيس"، إنها ثنائية المال والسياسة، سلطة تمنحها الواحدة إلى الأخرى.
سوناك هو أغنى أعضاء مجلس العموم البريطاني، وتقدر ثروته بـ200 مليون جنيه إسترليني، في حين تقدّر ثروة زوجته بـ700 مليون دولار لتكون بذلك أغنى من الملكة إليزابيث التي قدّرت ثروتها الشخصية في العام الحالي، وفقاً لصحيفة "ساندي تايمز"، بـ441 مليون دولار.
وظلّت ثروة مورثي في بلدها الأم الهند بمنأى عن الأعين حتى وقت قريب، ولم تكلّفها أي ضرائب في المملكة المتحدة كونها احتفظت لنفسها بصفة "غير المقيم"، إلا أن تسريب هذه المعلومة المتعلّقة بتهرّب ضريبي جاء في مرحلة كان يعاني فيها ملايين البريطانيين من تداعيات جائحة كوفيد-19، ما دفعها إلى الإعلان عن بدئها بدفع الضرائب كمقيمة بريطانية.
حكومة الولاء
عيّن سوناك وزيراً للمالية، وكان هذا المنصب ليكون ورطة بسبب الجائحة والانهيار الاقتصادي الذي شهدته معظم القطاعات في كل أنحاء العالم، شكوك كثيرة لاحقت قدرته على مواجهة أزمة اقتصادية غير مسبوقة.
فهو الذي قد يعيقه ثراؤه عن فهم واقع الفقر في بريطانيا وتقديم المساعدة التي يحتاجها الملايين لتغطية نفقاتهم، إلا أنه قدم في 11 مارس/آذار من ذلك العام ميزانية تقدّر بـ30 مليار جنيه إسترليني من الإنفاق الإضافي، مخصّصاً 12 ملياراً منها للتخفيف من الأثر الاقتصادي للوباء.
وفي 17 مارس، قدّم ميزانية طارئة بقيمة 330 مليار جنيه إسترليني لدعم الشركات والموظّفين المتأثّرين من الجائحة، وقام بتمديد خطته هذه عدة مرات خلال الوباء، كما أن شعبيته ازدهرت مع الخطة التي طرحها لدعم أصحاب المطاعم والمقاهي الذين تضرّرت أعمالهم بسبب الإغلاق من جهة، وبسبب تراجع القدرة الشرائية للزبائن من جهة أخرى. فكانت خطة "Eat out, Help out" التي غطّت الحكومة عبرها 50 بالمائة من الفاتورة بحدّ أدنى من الإنفاق يبلغ عشرة جنيهات إسترلينيه للفرد الواحد، فوصل مجموع الدعم الذي قدّم على شكل وجبات غذائية إلى ما يقارب 849 مليون جنيه.
كان لافتاً أن تقدّم سوناك في السلّم الوظيفي للحكومة لم تلعب فيه الكفاءة دوراً كبيراً، إذ إن الولاء هو ما سهّل طموحاته في مرحلة معينة، كما أن "الخيانة" هي التي أعاقت تقدمه في مرحلة أخرى.
يُذكر أنه قبل يومين من البداية الرسمية لحملة القيادة في "حزب المحافظين" في يونيو/حزيران 2019، شارك سوناك مع أوليفر دودن وروبرت جينريك في كتابة مقال بعنوان: المحافظون في خطر.. وحده بوريس جونسون قادر على إنقاذنا"، وكوفئ الرجال الثلاثة بمناصب حكومية رفيعة، وبات سوناك السكرتير الأول للخزانة.
تضاف إلى الولاء قدرته الهائلة على إرضاء الأشخاص الأقوياء المحيطين به، من والديه إلى مدراء صناديق التحوط (المحافظ الاستثمارية) حيث عمل أو كان شريكاً فيما بعد، إلى والد زوجته الملياردير إلى المستشار السابق لرئيس الوزراء دومينيك كامينغز، إضافة إلى كل من يبحث في "حزب المحافظين" عن "بطل" قادم.
وإن كان سوناك قد خرج سالماً من قضية تهرب زوجته الضريبي ثم قضية توجيه اقتصاد المملكة المتحدة خلال الوباء والإغلاق، وهو أكبر تحدّ يواجهه أي وزير منذ الحرب العالمية الثانية، إلا أن الأشهر القليلة التي تلت وما رافقها من أزمات لم تكن في صالحه، بداية بالغرامة المالية التي حصل عليها من الشرطة بسبب خرقه قواعد الاغلاق في زمن جائحة كورونا والوجود مع رئيس الحكومة جونسون وزوجته وآخرين في تجمّعات غير قانونية، إلى غلاء المعيشة وارتفاع فواتير الطاقة والوقود، إلى تخلّيه عن تخفيض الضرائب كأولوية في حملته الانتخابية، جاعلاً من مواجهة التضخّم المهمّة الأولى التي سيمضي بها. ولن ينسى الناخبون ربما تكلفة الرحلة التي قام بها سوناك على متن طائرة خاصة، حملته قبل 6 أشهر إلى عشاء "حزب المحافظين" في ويلز وبلغت قيمتها بحسب صحيفة "ميرور" 10 آلاف جنيه إسترليني.