مع انسحاب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من أفغانستان، وسيطرة حركة "طالبان" على الجزء الأكبر من أراضي البلاد، تتبلور ملامح تزايد الدور الروسي في أفغانستان وآسيا الوسطى، على المستويين السياسي والميداني، وسط مخاوف موسكو من انتقال رقعة التوتر إلى أراضي الجمهوريات السوفييتية السابقة في المنطقة.
ومن مؤشرات المساعي الروسية لتعزيز دورها في منطقة آسيا، استقبال وفد حركة "طالبان" في موسكو، الذي أكد خلال المشاورات مع مبعوث الرئيس الروسي إلى أفغانستان زامير كابولوف، على عدم المساس بحدود جمهوريات آسيا الوسطى، وسلامة البعثات الدبلوماسية الأجنبية على الأراضي الأفغانية. وميدانياً، توجه وفد منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضم روسيا وعدداً من الجمهوريات السوفييتية السابقة، إلى طاجيكستان لمراقبة الوضع على الحدود مع أفغانستان، وإعداد مقترحات حول الإجراءات المشتركة في إطار المنظمة.
يرجع نيكيتا ميندكوفيتش تنامي الدور الروسي في أفغانستان لإدراك موسكو أن الوضع على الأرض بات حرجاً
ومع ذلك، أكد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مؤتمر صحافي في موسكو أمس الأول الجمعة، أن بلاده لا تعتزم اتخاذ أي إجراءات تجاه تطورات الوضع في أفغانستان، طالما تجري الأحداث داخل أراضي هذا البلد، باستثناء الحث على بدء العملية السياسية في أسرع وقت. أما المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، فأرجع ضرورة عقد المشاورات في موسكو إلى تطورات الوضع في أفغانستان، وعلى الحدود الأفغانية الطاجيكية، مؤكداً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على علم بزيارة وفد "طالبان" إلى موسكو.
وفي هذا الإطار، يرجع رئيس "المركز الأوراسي للتحليل" في موسكو، نيكيتا ميندكوفيتش، تنامي الدور الروسي في أفغانستان إلى إدراك موسكو أن الوضع على الأرض بات حرجاً، ما دفعها لتكثيف الجهود لضمان أمنها وأمن حلفائها في آسيا الوسطى. ويقول ميندكوفيتش، في حديث لـ"العربي الجديد"، "بات الوضع حرجاً بالنسبة إلى الحكومة الأفغانية، إذ سيطرت طالبان بالفعل على نحو 70 إلى 80 في المائة من أراضي البلاد، وهناك احتمال ليس بضئيل لسقوط مدن كبرى، بما فيها كابول، بين أيدي طالبان هذا العام".
وحول دوافع روسيا لتنمية دورها في أفغانستان، يوضح ميندكوفيتش أنه "بعد الانسحاب الأميركي تسود الفوضى في أفغانستان، بينما يتحدد موقف روسيا بأولويات ضمان أمنها وأمن شركائها بين بلدان رابطة الدول المستقلة ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي. صحيح أن روسيا كانت تفضل الحوار مع الحكومة الأفغانية، المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، ولكنها اضطرت لاستقبال طالبان، رغم أنها مصنفة في روسيا كمنظمة إرهابية، لرسم الحدود، دون أن تنقل أي قوات إلى الحدود الطاجيكية الأفغانية حتى الآن". وحول ما إذا كانت روسيا قادرة على ملء الفراغ وأن تحل مكان الولايات المتحدة في أفغانستان، يشير إلى أن "موسكو لا تضع مثل هذا الهدف (نصب عينيها)، ولكن لم يعد أمامها خيار آخر في الوضع الراهن بالقرب من حدود حلفائها، حيث تدور حرب أهلية وتتزايد مخاطر تهريب المخدرات إلى روسيا والبلدان الحليفة". ورغم أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان بدأ سريعاً خلال ولاية الرئيس جو بايدن، إلا أن ميندكوفيتش يقلل من أهمية ربط القرار بشخصية الرئيس، مرجعاً إياه إلى تراكم انعدام ثقة الأميركيين في العمليات المتواصلة في أفغانستان منذ نحو عقدين.
ويعزو المحلل السياسي، الأستاذ المساعد بكلية الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية، بوريس ميجويف، حزم بايدن في إتمام الانسحاب إلى عدم تعرضه لضغوط عامل ضرورة إعادة الانتخاب. لكنه يقلل، في الوقت ذاته، من دقة مقارنة الانسحاب الأميركي المفاجئ من قاعدة باغرام ليلة عيد الاستقلال الأميركي، الذي يصادف 4 يوليو/تموز، مع انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان في فبراير/شباط 1989، والذي كان تحدد موعده قبل نحو عام من ذلك الوقت.
بوريس ميجويف: روسيا ستضطر حتماً للتدخل في القصة الأفغانية
وفي مقال بعنوان "الإمبراطورية تتركز"، نشر بصحيفة "فيدوموستي" الروسية أمس السبت، يلفت ميجويف إلى أنه "يصبح بديهياً للعالم أجمع اليوم أن الإدارة الحالية عازمة على تقليص الوجود العسكري الأميركي في أوراسيا"، معتبراً أن بايدن أظهر نفسه، على عكس سابقيه باراك أوباما ودونالد ترامب اللذين تراجعا تحت ضغط العسكريين، "سياسياً أكثر استقلالاً وحزماً مما توقعه العديد من المحللين". ويضيف أن "بايدن تمكن، من دون مغازلة حزب الحرب (الجمهوريين)، من فعل ما عارضه هذا الحزب دائماً، أي إنهاء أطول حرب في التاريخ الأميركي". ويلفت إلى وجود اختلاف للتداعيات السياسية بين الانسحاب السوفييتي، الذي ترك خلفه فراغاً للقوة لم تملأه "طالبان" سوى في العام 1996، والانسحاب الأميركي، رغم أن الحركة ستسيطر على كابول في النهاية، ولكن "أوراسيا لا تحكمها الفوضى اليوم، وإنما تعدد الأقطاب بوجود بضعة مراكز قوة، وفي مقدمتها موسكو وبكين، كما لا ينبغي إغفال أنقرة وطهران". ويتابع ميجويف أن "الأميركيين يراهنون على تعدد الأقطاب في أوراسيا، الذي تكوّن من دون مشاركتهم وحتى رغماً عنهم". ويعتبر أن "روسيا ستضطر حتماً للتدخل في القصة الأفغانية، على الأقل لحماية حليفها طاجيكستان"، بينما ستفعل الصين ذلك لدعم حليفتها الوحيدة في المنطقة باكستان، ما قد يحقق رهانات إدارة بايدن على الصدام الجيوسياسي بين موسكو وبكين في آسيا.
ومن ملامح إدراك موسكو أن إنهاء العمليات العسكرية الخارجية قد لا يكون حالة فردية في عهد بايدن، اعتقاد مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرينتييف، في حوار مع وكالة "تاس" عقب الجولة الأخيرة من محادثات أستانة أخيراً، أن انسحاب الأميركيين من أفغانستان يشكل "إشارة واضحة إلى القوات التي يدعمونها في سورية، مثل الأكراد، بأنهم قد يتخذون ذات يوم قراراً مماثلاً" للانسحاب من سورية.