رحيل إليزابيث الثانية... أطول حكم لملكة في تاريخ بريطانيا

08 سبتمبر 2022
شهدت فترة حكم إليزابيث الثانية أحداثاً صاخبة كثيرة (Getty)
+ الخط -

رحلت اليوم ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية؛ أشهر امرأة عرفها التاريخ البريطاني الحديث، بعد سبعين عاماً من اعتلائها العرش، وهي أطول فترة حكم في تاريخ بريطانيا.

"ليليت" كما يحلو لإليزابيث أن يلقّبها المقرّبون منها، لم تعكّر الانحناءة حضورها برغم سنواتها الـ96. وفي كل مرة، كان يعلن فيها قصر "باكنغهام" إلغاء حضورها لمناسبات رسمية، كان يكفي تواجدها المقتضب في مناسبات أخرى لإلغاء المخاوف أو تأجيلها. ونجحت إليزابيث في أن تحفر مكانة خاصة جداً في الحياة اليومية في المملكة المتحدة لأكثر من ستة عقود منذ وفاة والدها جورج السادس عام 1952، وشهدت فترة حكم إليزابيث، المستمرة لـ70 عاماً أحداثاً صاخبة كثيرة وإنهاء الاستعمار في جزء كبير من الإمبراطورية البريطانية في أفريقيا وآسيا، كما تبدّلت في عهدها ملامح النظام الملكي.

وعاصرت 15 رئيس حكومة بدءاً من ونستون تشرشل (يقال إنه كان المفضل لديها) وصولاً إلى ليز تراس، وجمعتها بهم علاقة طيبة وصعبة ومعقدة في الوقت ذاته هي الممنوعة من ممارسة العمل السياسي والتدخل في الشؤون الداخلية والخارجية كذلك.

 ولم تكن إليزابيث مرشّحة لتولي الحكم خلفاً لوالدها، إلا أن عمّها إدوارد الثامن تنازل عن العرش عام 1936 بعد زواجه من واليس سيمبسون، الأميركية المطلّقة، ما أدى إلى استدعاء "ليليت" لتولّي العهد وكانت في عمر الـ25 ولتصبح اليوم رمزاً لبريطانيا العظمى.

وأثبتت على مدى السبعين عاماً قدرة هائلة على الحفاظ على الثبات وتحمّل المسؤولية حتى عند رحيل زوجها الأمير فيليب في 9 إبريل/نيسان من العام الماضي وكان في الـ99 من عمره، وأيضاً بعد إصابتها بفيروس كورونا قبل أشهر ما جعلها "مرهقة ومتعبة للغاية" على حدّ تعبيرها.

ولدت في 21 إبريل عام 1926، وهي الابنة الثانية لوالدها الملك جورج السادس ووالدتها الملكة إليزابيث. ووفقاً للتقاليد الملكية، قرعت مع ولادتها فجراً أجراس كنيسة القديس بول، وأطلقت النيران في الحديقة الشهيرة هايد بارك ومن برج لندن، مما منح الناس بعض البهجة وسط الأزمة الاقتصادية ذلك الحين.

واعتلت الملكة العرش في الـ26 من عمرها، ولم تكن قد ارتادت أي مدرسة أو جامعة بل تلقّت تعليماً خاصاً في التاريخ الدستوري على يد هنري مارتن نائب رئيس كلية إيتون، كانت مطالبة أسبوعياً باستقبال "الرجل الذي أنقذ الأمة من هتلر والآلة العسكرية الألمانية"، ونستون تشرشل، وكان حينها رئيس الحكومة. وتقول حفيدته، إيما سوامز، إن والدتها روت لها إعجابه بالملكة وبإحساسها الهائل بالمسؤولية وبالواجب وبتطلّعه لذلك اللقاء الأسبوعي يوم الثلاثاء والذي كان يمتدّ لأكثر من ساعتين في بعض الأحيان.

ويقال إن تشرشل كان المفضّل لدى الملكة أكثر حتى من هارولد ويلسون الذي تزعّم الحكومة مرتين بين 1964و1970 ثم بين 1974و1976 وكان ويلسون أول رئيس وزراء لحزب العمال لمدة 13عاماً.

وبالعودة إلى شعبية الملكة الطالعة من نفي الرمز ومن المحاولات الخجولة للتمرّد، كان انحدار ويلسون من طبقة اجتماعية مختلفة تماماً، وهو عامل أساسي في علاقتهما الطيبة. وكان ويلسون يقول إن اللقاء مع الملكة هو فرصته الوحيدة للخوض في حديث جدي مع شخص لا يطمح بانتزاع منصبك أو تسريب كلامك. وكان بالنسبة إليها نافذة على عالم آخر ومحيط اجتماعي مختلف تماماً ويقال إنه أقنعها بالتخلي في مرات كثيرة عن البروتوكول الخشن الذي كان راسخاً منذ زمن الملكة فكتوريا.

وكان تتويجها في الثاني من يونيو/حزيران عام 1953 من أبرز محطّات حياتها والحفل الأول الذي يبث على الهواء مباشرة. شاهده ما يقارب الـ27 مليون شخص من إجمالي عدد سكان المملكة الذي بلغ حينها 36 مليون، بينما استمع عبر الراديو إلى مجريات التتويج 11 مليون آخرين.

ثم جاءت أول زيارة دولة إلى ألمانيا الغربية عام 1965، وصادفت زيارتها الذكرى السنوية العشرين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، مما ساعد على ترميز المصالحة بين البلدين والاعتراف بعودة ألمانيا إلى الظهور كقوة في أوروبا وعلى المسرح العالمي. وخلال جولة ملكية في أستراليا ونيوزيلندا مع زوجها الأمير فيليب عام 1970، خالفت الملكة قروناً من التقاليد الملكية عندما قامت بنزهة غير رسمية لتحية حشود المتجمهرين، بدلاً من التلويح لهم من مسافة محمية.

وإن كان زواج عمّها من سيدة أميركية مطلّقة مخالفاً للتقاليد، فإن زواج حفيدها الأمير هاري من ميغان ماركل الممثلة الأميركية المطلقة أيضاً والآتية من أقلية عرقية كان الحدث الجلل الأخير قبل وفاة زوجها الأمير فيليب، حيث ظهر الزوجان على وسائل الإعلام مرات كثيرة وخرقا السرية المحيطة بالعرش ووجّها انتقادات لاذعة للصورة المقدّسة المحيطة بالعائلة الحاكمة مما نكّد العلاقة بينهما وبين القصر.

وكان لافتاً تغيّب الملكة عن احتفالات اليوبيل الفضي التي أقيمت في يناير/كانون الماضي، إلا أنها تواجدت في ختام الاحتفالات لدقائق قليلة على شرفة قصر باكنغهام برفقة أربعة أجيال من ورثتها. وعلى الرغم من تداعيات إصابتها بكورونا، إلا أن الملكة حافظت على ابتسامتها حتى اللحظة الأخيرة.

وكان استقبالها قبل يومين لرئيس الحكومة البريطانية السابق بوريس جونسون، ورئيسة الحكومة الجديدة ليز تراس للإشراف على انتقال السلطة هو آخر نشاط رسمي تقوى على القيام به بعد أشهر من التراجع العام في صحتها.

محطات بارزة في حياة الملكة إليزابيث الثانية

عايشت الملكة إليزابيث حروباً وصراعات كثيرة في المملكة المتحدة وخارجها من الحرب العالمية الثانية التي خيّمت على معظم سنوات مراهقتها إلى أزمة السويس إلى غزو العراق وصولاً إلى الغزو الروسي لأوكرانيا حديثاً.

وكانت في الـ14 من عمرها عندما خاطبت العالم للمرة الأولى عبر قناة "بي بي سي" في رسالة لمساندة أطفال العالم الذين تم إجلاؤهم بسبب الحرب العالمية الثانية. وتقول الملكة في كلمة مسجلة لها قبل عامين في ذكرى انتهاء الحرب: "أتذكّر بوضوح المشاهد المبتهجة التي شاهدناها أنا وأختي مع والدينا ومع ونستون تشرشل من شرفة قصر باكنغهام. فرح غامر كان يخيّم على الحشود التي تجمّعت داخل البلاد وخارجها. وبرغم احتفالنا بالنصر في أوروبا، كنا نعرف أن مزيداً من التضحيات بانتظارنا". 

وبعد سنوات قليلة على اعتلائها العرش شهدت الملكة إليزابيث أزمة السويس والتي أفقدتها ثقتها برئيس الحكومة آنذاك أنتوني إيدن مع أن علاقتهما كانت في البداية جيدة وودية.

وربما تكون النزاعات المسلحة في إيرلندا الشمالية هي أقسى ما شهدته الملكة إليزابيث من صراعات في حياتها، لاسيما أن عائلتها تأثرت بشكل مباشر حيث قُتل عمّ الأمير فيليب في انفجار قنبلة زرعها الجيش الجمهوري الإيرلندي في قارب صيده. وكان إدوارد هيث رئيساً للحكومة حينها ويُحكى أنه رغم وجهات نظرهما المختلفة حول دول الكومنولث إلا أن نزاعات إيرلندا الشمالية جمعتهما حيث غرقا سوية بالدموع واليأس في إحدى لقاءاتهما.
في العام 2011، وجهت رئيسة دولة إيرلندا ماري ماكاليز دعوة للملكة إليزابيث والأمير فيليب وكانت تلك زيارتهما الأولى للدولة. وقد يكون هيث هو الوحيد الذي فشل في انتزاع إعجاب الملكة، إلا أن ذلك لم يمنعه من التعبير عن إعجابه بها وبسعة اطّلاعها ودرايتها ورؤيتها البراغماتية في السياسة الخارجية لبريطانيا. 
كما شهدت الملكة استسلام الأرجنتين في حرب الفوكلاند بعد 74 يوماً من القتال الذي شاركت فيه البحرية الملكية بتوجيه من رئيسة الحكومة حينها، مارغريت تاتشر. ولم تكن علاقة الملكة بـ"المرأة الحديدية" سهلة، وفي بعض الأحيان لم تكن مريحة حتى، ويُعتقد أن الملكة كانت قلقة من الثمن البشري للتاتشرية. وفي حين أمضت تاتشر إحدى عطل نهاية الأسبوع في قصر بالمورال في اسكتلندا بصحبة العائلة كلّها، إلا أنها ربما تكون الوحيدة التي اشتكت من عطلة مماثلة وكأنها في جلسة تعذيب. 
وكان جون ميجور هو رئيس الحكومة الوحيد الذي اتّخذ قراراً جريئاً بأن بريطانيا لم تعد قادرة على تحمل تكاليف اليخت الملكي بريتانيا مما دفع الملكة للتعبير عن أسفها بحجة أن اليخت مكّنها من زيارة دول الكومنولث الأصغر والأبعد. وكانت علاقتها بميجور خاصة أيضاً إذ تزامنت مع حرب الخليج والانكماش الاقتصادي من جهة والخلافات بين الأميرة ديانا والأمير تشارلز من جهة أخرى. ويُحكى أن لقاءاتهما كانت أشبه بجلسات الدعم النفسي المتبادل وأن الملكة كانت تقدّر نصائحه الخاصة بينما يقدّر لها ذكاءها وحكمتها والتزامها الراسخ بالواجب. 
وفاة الأميرة ديانا في حادث سير في باريس، كان حدثاً مروّعاً بالنسبة لعموم البريطانيين لكن أيضاً بالنسبة للعائلة الملكية وإن لأسباب مختلفة. كانت الملكة في قصرها بالمورال في اسكتلندا ورفضت بداية أن تعود إلى لندن لتحيّي جماهير المعزّين كما رفضت رفع العلم على قصر "باكنغهام" مما أثار انتقادات كثيرة. وربما يكون هذا الموقف هو الموقف الوحيد الخارج عن إيقاع الوداعة الذي كرّسته الملكة لنفسها في الذاكرة العامة، إلا أنها تراجعت لاحقاً، هي التي لا ترفض النصيحة ولا تنبذ النقد، حيث أذعنت لنصائح رئيس حكومتها آنذاك توني بلير وأعلنت الحداد وأقامت جنازة كبيرة لديانا.
المساهمون