ذكرى انفجار مرفأ بيروت: 3 سنوات من الانقلاب على التحقيقات

04 اغسطس 2023
من تحرك لأهالي ضحايا انفجار بيروت، أغسطس 2021 (حسين بيضون)
+ الخط -

يحيي لبنان اليوم الجمعة الذكرى السنوية الثالثة لانفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، على وقع انقلاب سياسي قضائي، عرقل استئناف التحقيقات بعد توقفها نحو 13 شهراً، وأخلى سبيل جميع الموقوفين في الملف، وحوّل القاضي طارق البيطار، من محقق عدلي بالقضية، إلى مدعى عليه، مُلاحَق، بتهمة اغتصاب السلطة.

وفي مقابل إصرار السلطة السياسية على عرقلة مسار التحقيق، يتمسّك أهالي الضحايا الذين نفذوا أكثر من 300 تحرّك، بمسيرة العدالة والمحاسبة، رافضين الاستسلام، رغم الضغوط الكثيرة التي تعرّضوا لها والتوقيفات التي طاولت بعضهم وتفتيش منازلهم، وتمكنوا من الوقوف بوجه محاولات عدة لطمس الحقيقة، وهم اليوم، يعملون باتجاه تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية، للمساعدة في التحقيق.

3 سنوات على انفجار مرفأ بيروت

وبعد مرور 3 أعوام على انفجار مثّل أحد أكبر الانفجارات غير النووية في تاريخ العالم، وأسفر عن مقتل 218 شخصاً، وإصابة أكثر من 7 آلاف آخرين، وخسائر تقدر بـ15 مليار دولار، ونزوح 300 ألف شخص، لم يُسجَّل أي تقدم في التحقيق المحلّي، في ظلّ الحماية التي يحظى بها المدعى عليهم وكبار المسؤولين السياسيين والأمنيين من الاستجواب القضائي، علماً أن منظمات دولية، وثقت أخطاء وإغفالات ارتكبها موظفون ومسؤولون سياسيون وأمنيون في إدارتهم لشحنة نترات الأمونيوم منذ وصولها إلى مرفأ بيروت على متن سفينة "روسوس" في عام 2013، وحتى وقوع الانفجار، وتقاعس هؤلاء عن حماية الناس.


سحر مندور: مدة تجميد التحقيق أطول بكثير من فترة سريانه

ومن أبرز الأحداث التي شهدها العام الثالث على الانفجار، استئناف القاضي البيطار تحقيقاته في 23 يناير/كانون الثاني الماضي، وقيامه بإخلاء سبيل خمسة موقوفين من أصل 17، والادعاء على ثمانية أشخاص جدد في الملف من ضمنهم النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات وقضاة وقادة أمنيون، وتعيين مواعيد لاستجواب مدعى عليهم آخرين، ضمنهم وزراء سابقون وضباط في الجيش.

من جهته، تجاوز النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات قرار محكمة التمييز بقبول تنحّيه عن الملف، بفعل صلة القرابة التي تربطه بالمدعى عليه الوزير السابق النائب غازي زعيتر (ينتمي إلى حركة أمل برئاسة رئيس البرلمان نبيه بري).

واتخذ عويدات جملة إجراءات بحقه، منها منع جميع الأجهزة الأمنية من تنفيذ قرارات البيطار، إطلاق سراح جميع الموقوفين، وإصدار قرار بمنع سفرهم، وقد اتصل ذلك بفضيحة ترك رئيس مصلحة الأمن والسلامة في مرفأ بيروت، محمد زياد العوف، الذي يحمل الجنسية الأميركية، يغادر عبر مطار بيروت الدولي إلى الولايات المتحدة فور إخلاء سبيله.

الانقلاب على التحقيق

كذلك، ادعى عويدات على البيطار بتهمة اغتصاب السلطة ومنعه من السفر، في خطوة وضعها أهالي الضحايا بإطار الانقلاب على التحقيق ومحاولة طمس الحقيقة، في حين اشتعلت الجبهة القضائية، مع تأكيد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، أن جميع قرارات عويدات مخالفة للقانون، وأنه مستمرٌّ بتحمّل مسؤولياته، وعقد جلسات الاستجواب، وذلك قبل أن يرجئ الجلسات، في 6 فبراير/شباط الماضي، بانتظار البت بالدعوى المقامة ضدّه.

وقد عيّن مجلس القضاء الأعلى القاضي حبيب رزق الله للنظر في شكوى عويدات ضد البيطار، في حين قدّم مكتب الادعاء في نقابة المحامين في بيروت شكوى جزائية وتأديبية ضد عويدات.

من التطورات التي شهدها الملف أيضاً، اقتراح وزير العدل، هنري خوري، المحسوب حكومياً على "التيار الوطني الحر" (برئاسة النائب جبران باسيل)، تعيين قاضٍ رديفٍ للقاضي البيطار، للبت بالقضايا الضرورية والملحة، منها إخلاءات السبيل، وذلك في وقتٍ اتُهم التيار بمحاولته الإفراج عن موقوفين محسوبين عليه سياسياً على رأسهم المدير العام السابق للجمارك، بدري ضاهر، علماً أن هذا الاقتراح سقط، بفعل التجاذبات القضائية والسياسية والضغط الكبير من قبل أهالي الضحايا الذين نفذوا تحركات معارضة لهذه الخطوة "الانقلابية" وفق تعبيرهم.

كذلك، شهدت بداية العام الثالث، انهيار أجزاء من اهراءات مرفأ بيروت، في وقتٍ كانت قررت الحكومة هدمها بحجة الخوف على السلامة العامة للمواطنين والعاملين، لكن هذه الخطوة بدورها، كان لها الأهالي بالمرصاد، إذ يرون في الصوامع شاهداً على الانفجار.

وعلى وقع التعطيل المحلي للتحقيق، شهد العام الثالث صدور أول حكم قضائي في الأساس، خارج لبنان، في قضية انفجار المرفأ، إذ حكمت محكمة العدل البريطانية لصالح أهالي الضحايا الذين يمثلهم مكتب الادعاء في نقابة المحامين في بيروت، ضد شركة "سافارو ليمتد" الإنكليزية، المسؤولة عن شحنة نترات الأمونيوم، وذلك في الدعوى المدنية التي أقيمت بحقها في 2 أغسطس 2021، وقد تمكن المكتب من وقف عملية التصفية التي أطلقتها الشركة للتنصّل من مسؤوليتها عن الانفجار، علماً أن السلطة السياسية في لبنان لم تحرك ساكناً بهذا الملف.


نزار صاغية: المعركة أصبحت معركة تحقيق العدالة في لبنان

في السياق الدولي، قال نقيب المحامين السابق، النائب ملحم خلف، في لقاء نظمته "المفكرة القانونية"، شاركت فيه "العربي الجديد"، حول الذكرى الثالثة لانفجار المرفأ، إنه من أصل 16 استنابة قضائية دولية أصدرها المحقق العدلي لم يتم التجاوب دولياً سوى مع 6 منها.

وكشف خلف أنه راسل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس 3 مرات عندما كان نقيباً للمحامين، ولم تتلقَّ النقابة سوى جواب مقتضب وفارغ مؤلف من 3 أسطر، في حين استند مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي "أف بي أي" إلى معلومات السلطات اللبنانية، بينما لم يضع الخبراء البريطانيون أي تقرير حتى الآن، وأيضاً لم يودع الفرنسيون تقريرهم النهائي بعد، بينما لم يتسلّم لبنان الصور التي التقطتها الأقمار الاصطناعية، بحجة أنها لم تلتقط ما حصل في 4 أغسطس 2020.

عرقلة سير التحقيقات

من جهتها، قالت الباحثة المتخصصة بالشأن اللبناني في منظمة العفو الدولية سحر مندور، لـ"العربي الجديد"، إن السلطات اللبنانية مستمرّة للعام الثالث في عرقلة سير التحقيقات، والوصول إلى الحقيقة والعدالة بالملف.

وقدّم سياسيون مشتبه بتورّطهم في القضية أكثر من 25 طلباً لإقالة القاضي البيطار، وعزل غيره من القضاة المشرفين على القضية، فيما وثقت منظمات دولية، مجموعة من العيوب الإجرائية والمنهجية في التحقيق المحلي.

وأشارت مندور إلى أن هناك سعياً من قبل السلطات لحماية السياسيين والأمنيين والموظفين الرسميين المعنيين من الاستجواب والملاحقة القضائية والتوقيف، والوضع مؤسف جداً، وكأن هناك إمعاناً بالجريمة عبر منع الوصول إلى العدالة، إذ إن مدة تجميد التحقيق أطول بكثير من فترة سريانه خلال هذه السنوات الثلاث، ما يجعلنا أمام جريمة مستمرة.

ولفتت مندور إلى أنه "على الرغم من تمسّكنا بضرورة استئناف التحقيقات المحلية، ومنح البيطار كل الصلاحيات والحمايات اللازمة، إلا أن من الواضح أن التحقيق المحلي لا يمكن أن يحقق العدالة، وقد شهدنا توقيفات طويلة الأمد، ثم إطلاق سراح غير مفهوم، ثم دعاوى متبادلة بين قاضي التحقيق والنائب العام التمييزي، وكمّا هائلا من الدعاوى التعسفية".

ورأت أن "الهدف من ذلك كلّه إحداث فجوة ما بين التحقيق والواقع، وهو ما يجعل إنشاء بعثة دولية لتقصي الحقائق بتكليف من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أكثر إلحاحاً، وهي خطوة يسعى لتحقيقها أهالي الضحايا، ونعمل بدورنا على إعادة طرح الملف والحث على تحقيق العدالة بلبنان".

وأكدت مندور أن "مطلبنا نحن" ومنظمات دولية أخرى، في ظلّ الجمود المستمرّ بالتحقيق، وتهميشه تماماً عن سياق الجريمة، إنشاء بعثة دولية لتقصي الحقائق، تكون مستقلة ومحايدة، تثبت الحقائق والظروف، بما فيها الأسباب الأصلية للانفجار، بهدف إثبات مسؤولية الدولة والأفراد ودعم العدالة والتعويضات للضحايا.

وأشارت إلى أن دورها يجب أن يشمل أيضاً إحصاء انتهاكات حقوق الإنسان التالية للانفجار سواء بالحق بالسكن أو الطبابة أو التعويض، إذ هناك شبكة انتهاكات لحقوق الإنسان مستمرة خارج المحاسبة.


ماريانا فاضوليان: نحن مع إنشاء بعثة دولية لتقصي الحقائق التي يمكنها أن تساعد التحقيق

بدوره، قال أحد مؤسسي "المفكرة القانونية"، نزار صاغية، لـ"العربي الجديد"، إنه في العام الأول لانفجار مرفأ بيروت استُخدِمت الحصانات كأداة لتعطيل التحقيقات، إذ رُفِضت طلبات رفع الحصانات عن نواب ومسؤولين لاستجوابهم من قبل المحقق العدلي القاضي طارق البيطار التي تقدّم بها إلى المرجعيات المختصة، في حين انتقل المعطّلون إلى لعبة أصول المحاكمات المدنية بهدف العرقلة، فكانت أكثر من 40 دعوى من ردّ ومخاصمة وارتياب مشروع، ضدّ القاضي البيطار بالدرجة الأولى وقضاة اخرين.

أما في السنة الثالثة، بحسب صاغية: "فقد شهدنا مفاعيل الانقلاب، عندما اعتمد البيطار اجتهاداً بهدف تجاوز التعطيل الذي استمرّ أكثر من سنة وشهرين، والتحرير من مفاعيل الدعاوى التعسفية التي قُدِّمت"، معتبراً ما يحدث عبثياً بالمطلق، وحرماناً من الحقيقة والوصول إلى العدالة.

وأضاف أن النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، قرّر تحويل البيطار، من محقق عدلي إلى مدعى عليه باغتصاب السلطة، وننتظر اليوم أن يتخذ القاضي الذي سينظر بالدعوى القرار ويُحدّد من الذي اغتصب السلطة، هل هو من اعتدى على القضاء وعطّله ولا يزال، أم البيطار الذي حاول استعادة السلطة كي يعطي الحقيقة والعدالة للناس.

معركة تحقيق العدالة

ولفت صاغية إلى أن المعركة لم تعد مرتبطة بقضية واحدة ولا بأهالي الضحايا، بل أصبحت معركة تحقيق العدالة في لبنان، وللأسف، كلّما تقدّم المحقق العدلي خطوة للأمام، واجه عراقيل وتعرّض الملف لتوقيف جديد، وعلى الرغم من صعوبة الأمور في لبنان، التي لا تجعل من العدالة إلّا متقطّعة، بيد أن المعركة يجب أن تبقى قائمة.

من ناحية ثانية، اعتبر صاغية، أن الخرق الذي "ننتظره" اليوم لإعادة تحريك الملف يكمن في البتّ بقضية اغتصاب السلطة، والقول إن الذي اغتصب السلطة ليس البيطار، بل من عطّل التحقيق طول الفترة الماضية، وأن ما فعله البيطار، هو وضع حدّ لعبث قضائي حقيقي.

بدورها، قالت ماريانا فاضوليان، رئيسة جمعية ضحايا انفجار مرفأ بيروت، وشقيقة الضحية غايا، لـ"العربي الجديد"، إن "المنظومة المافيوية المليشياوية، التي تحكم لبنان، همّها الإفلات من العقاب عن طريق التدخل في عمل القضاء، وعمدت طوال هذه الفترة، إلى تسخير الجريمة، بحصرها بإطار الإهمال للتنصّل من مسؤولياتها، علماً أنها كانت تعلم بوجود نترات الأمونيوم في المرفأ، وبمخاطر تخزين تلك المادة، فتوقعت ضمناً مخاطر الوفاة، كما أنها لم تحرك ساكناً عند اندلاع الحريق الذي استمرّ 45 دقيقة، بينما كان عليها تحذير الناس، ومنعهم من الاقتراب وإخلاء الأماكن القريبة من المرفأ، وهذه جريمة أخرى برقبة المسؤولين".

ولفتت فاضوليان إلى أن المنظومة الحاكمة جاهدت في سبيل دفن الملف بكل الطرق، عبر محاولتها إحالته إلى البرلمان وهو ما تصدّينا له، ثم طلبات الرد والمخاصمة ونقل الدعوى والتعسّف باستعمال الحق، التي رفعت من قبل المدعى عليهم بوجه القاضي البيطار قبل أن ينضم إليهم القاضي عويدات بادعائه على البيطار، كما عرقلت التشكيلات القضائية، وحاولت خلق بدعة القاضي البديل، وغيرها من الأساليب التي لجأت إليها بهدف طمس الحقيقة، والإفلات من العقاب، لكننا لن نيأس، وشعارنا السنة "من أجل العدالة والمحاسبة مستمرّون".


أحمد مروّة: هناك محاولات متجددة لإلغاء الذاكرة البصرية لجريمة المرفأ

وأشارت فاضوليان إلى أننا مع إنشاء بعثة دولية لتقصي الحقائق التي يمكنها أن تساعد التحقيق، وتفيد القاضي كثيراً بالمعلومات خصوصاً التي لم يتمكن من الحصول على أجوبة عليها من جانب الدول التي تلقت الاستنابات القضائية، ولم تتجاوب معها، وسنضغط على الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان للتصويت مع هذا القرار.

إلغاء الذاكرة البصرية

من جانبه، رأى مدير مبادرة العدالة الاجتماعية والاقتصادية "معاً"، أحمد مروّة، أن هناك محاولات متجددة لإلغاء الذاكرة البصرية لجريمة المرفأ عبر هدم الإهراءات، تماماً كما مُحيت ذاكرة الحرب اللبنانية (1975 – 1990)، فهناك روايات متفرقة وليس ذاكرة واحدة عن الحرب.

من هنا أتت مبادرتنا للحفاظ على ذاكرة 4 أغسطس من خلال موقع "بيروت 607" الذي يوثق قصص الضحايا، ويتابع قضايا المصابين من جراء الانفجار، مشيراً إلى أن الموقع تعرّض لأكثر من عملية قرصنة.

ولفت مروّة إلى أن نادي الحكم في لبنان نجح في تقويض كل الجهود للوصول إلى العدالة، إذ سيّس الملف، وحكم على القاضي البيطار وكثف حملات تشويه سمعته، حتى قبل أن يبدأ مهامه ويتخذ أي تدابير، وذلك في وقتٍ لنادي الحكم القدرة على الوصول إلى كل أدوات التواصل مع الناس وإقناعهم بادعاءاتهم أكثر من مجتمعات الضحايا.

وأشار مروّة إلى أن 3 سنوات مرّت ولا يزال يسقط ضحايا جدد نتيجة الانفجار، من الجرحى الذين عانوا إصابات شديدة وحالات حرجة، والجريمة بدورها مستمرّة، بتداعياتها على المصابين والمتضررين والذين خسروا وظائفهم وأعمالهم ومصدر رزقهم، ويعانون في تأمين تكاليف العلاج، في ظلّ إهمال الدولة لأوضاعهم وعدم تأمين التعويضات الكافية لهم والتغطية الصحية اطويلة الأمد، عدا عن معاناتهم أصلاً كسائر اللبنانيين من الانهيار النقدي الذي يفاقم حالتهم.

في المقابل، رأى مروّة أن أهم ما حصل في هذه السنوات الثلاث هو تكتل مجتمع الضحايا أكثر، وانخراطه بالملف على كل المستويات حتى القانونية والقضائية ليكون على فهم تام بكل ما يحصل، عدا عن تحركاته الميدانية، التي يستمر بها رغم التحقيقات والتوقيفات وعمليات التفتيش التي طاولت قسماً من أهالي الضحايا، ومحاولة التفرقة بينهم، وهذا بحد ذاته يبقي الأمل قائماً، بمجتمع رافض للاستسلام ويريد أن يقاتل للوصول إلى العدالة رغم صعوبة المسار.