نفّذت مسيرة بعد ظهر اليوم الاثنين، بمناسبة مرور الذكرى الثالثة لانتفاضة 17 تشرين في بيروت، وصلت إلى محيط البرلمان.
ورفعت خلال المسيرة شعارات تندد بممارسات المنظومة السياسية والسياسات المالية التي دفعت البلاد نحو الانهيار الشامل، وتعترض على اتفاق ترسيم الحدود البحرية الجنوبية بين لبنان وإسرائيل، معتبرة أنه مجحفٌ وحرم لبنان من مساحات بحرية وثروات نفطية بعد تخلي السلطة السياسية المفاوضة في الملف، تحت الوساطة الأميركية، عن الخط 29، ورفضها توقيع تعديل المرسوم رقم 6433.
ولم تكن المشاركة في التحرك اليوم الذي انضمّ إليه عدد من نواب كتلة "التغييريين" الذين عرفهم اللبنانيون من خلال انتفاضة 17 تشرين، على مستوى التوقعات والأزمات التي تتفاقم مع مرور الوقت، الأمر الذي ربطه ناشطون سياسيون بتركيبة النظام اللبناني القائم الذي يصعب كسره، أو اختراقه، وامتلاك أحزاب السلطة كل أدوات المواجهة عدا عن امتهانها وأد الثورات.
في المقابل، بعكس حركة الشارع الخجولة، غصّت مواقع التواصل الاجتماعي بصور ومحطات من ذكرى انتفاضة 17 تشرين، حيث أكد الناشطون أن الأمل لم ينقطع، وشعلة التغيير لم تنطفئ، لكن يستلزمها وقت لن يكون طويلاً للتحقق، خصوصاً عند جيل الشباب الجديد المتحمّس للتغيير وبناء دولة القانون والمؤسسات.
ودعا ناشطون ونقابيون إلى مسيرة بعد ظهر اليوم الاثنين في بيروت مُتعدّدة المحطات وصولاً إلى محيط مجلس النواب، تحمل عناوين اقتصادية ومعيشية وسياسية، وتتصل أيضاً بالملف الأخير، ترسيم الحدود البحرية الجنوبية بين لبنان وإسرائيل تحت الوساطة الأميركية، وسط اعتراضات من قبل خبراء نفط وباحثين في مجال الطاقة على الاتفاق، والتنازل اللبناني عن الخط 29، ومساحات بحرية واسعة.
وتُطلّ ذكرى انتفاضة 17 تشرين الثالثة على اللبنانيين بسعر صرف دولار يتخطى الـ40 ألف ليرة لبنانية، وحصار من الأزمات الاقتصادية التي تتسارع وتيرة تفاقمها، بينما الشارع الذي انتفض عام 2019 تراجع حماسه.
ولم يتمكّن الشارع اللبناني من أن يترجمَ انتفاضته الكبيرة يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، التي رفع فيها شعار "كلن يعني كلن"، في صناديق الاقتراع، فعجز عن إحداث التغيير المنشود في انتخابات مايو/أيار 2022 النيابية، باستثناء خرقه اللافت في معقل حزب الله في الجنوب بمقعدين، فأوصل عدداً ضئيلاً من النواب عادوا وتوحّدوا في تكتل برلماني يضمّ 13 نائباً، لكنه "متضعضع" ويمرّ بانتكاسات.
في المقابل، لا تزال أحزاب السلطة، رغم تبدّل أحجامها وانسحاب "تيار المستقبل" من الساحة السياسية بفعل "اعتزال" رئيس الوزراء سعد الحريري، العمل السياسي "مؤقتاً"، تسيطر على المواقع، وتتحكّم بالاستحقاقات، أبرزها اليوم رئاسة الجمهورية، والحكومة المُعطل تشكيلها بفعل صراع الحقائب الوزارية، والتي تضع يدها على ثروات البلد البحرية والنفطية، بإدارتها ملف الترسيم، الذي كثرت حوله علامات التشكيك والارتياب، مع انعدام الثقة بالمفاوضين السياسيين.
عوائق أمام استمرارية انتفاضة 17 تشرين
يقول الأستاذ الجامعي والناشط السياسي، علي مراد، لـ"العربي الجديد"، إنّ "17 تشرين، هي لحظة تراكم سوء أداء في لبنان، وحتى ضمن الحركة التغييرية في البلد، انفجرت في ذاك التاريخ، بعدما بات واضحاً أنّ الأزمة الاقتصادية والمالية وأسبابها السياسية وصلت لحدّها الأقصى، فكان الانفجار حتمياً، رغم أنه أتى بفعلٍ تراكمي بدأ بالحد الأدنى عام 2011".
ويشير مراد إلى أنّ "17 تشرين أنتجت خطاباً سياسياً ربما لم يترجم حتى الساعة، لكن هناك سردية في البلد، استطاعت أنّ تفرض أجندة معينة، وإن لم تطبق، منها مفاهيم توزيع الخسائر، وإعادة هيكلة المصارف التي أصبح الناس يتبنونها".
ويلفت الناشط السياسي إلى أن "تراجع حماس الناس، مرده إلى الأزمة البنيوية في النظام السياسي اللبناني، والذي تتحمّل أيضاً نتائجه المعارضات كما السلطة، حيث إنه مع استقالة الرئيس سعد الحريري في 29 أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، كان واضحاً أن إمكانية إسقاط الحكومة قائمة في البرلمان، لكن إمكانية فرض تشكيل سلطة بديلة حتى بضغط الشارع لم تكن واردة، وهذه المسألة موضوعية، لا علاقة لها بكفاءة الناس أو أخطاء الانتفاضة كما يتصوّر البعض".
وهنا، يردف مراد أن هناك 3 عوائق أساسية أمام الانتفاضة واستمراريتها، الأولى، تتمثل بطبيعة النظام الطائفي التي تسمح بامتصاص الانقسام الاجتماعي وتأخذه إلى أماكنٍ أخرى ونواحٍ طائفية، وهذا إن تحدته 17 تشرين، وتمكنت من خلق فضاء مدني عابر للطوائف والمناطق والفئات الاجتماعية، لكنه لا يزال موجوداً.
الثاني، بحسب مراد، وجود "حزب الله"، وأخذه قراراً باكراً بحماية النظام من خلال 3 لاءات فرضها، وهي لا لإسقاط الحكومة، لا لإسقاط العهد، ولا انتخابات نيابية مبكرة، مضيفاً، "هناك أيضاً تشبيك مصالح بين أصحاب المصارف والقوى السياسية، ومواجهته ليست سهلة، ما يجعل أمامنا انسداداً في أفق التغيير".
تبعاً لذلك كله، يشير مراد إلى أنّ "الانتخابات النيابية صنعت نوعاً من التغيير، لكن سنراه بإطاره التراكمي، ومع ذلك يجب ألا نكون أسرى لـ17 تشرين، فالأساس هو المعركة والأهداف التي قامت عليها لإحداث التغيير المنشود، كما لا يمكن الحكم على التجربة النيابية اليوم، رغم الملاحظات الموجودة على أداء النواب التغييريين، بيد أن التحرك في الشارع يجب أن يحمل عنواناً منفصلاً، غير مرتبط بحركة الكتلة البرلمانية"، معتبراً أن الأسئلة الجوهرية التي يجب أن تطرح اليوم على الناس كتحدٍّ كبيرٍ، تتصل بملف ترسيم الحدود البحرية".
من جهته، يقول عضو المجلس التنسيقي في تنظيم "لِحَقّي"، رائد بو حمدان، لـ"العربي الجديد"، إن "الانتفاضة مستمرّة، وهناك مسار يومي من العمل التراكمي لتحقيق التغيير السياسي في لبنان، وهو غير مرتبط بتاريخ أو ذكرى معينة، ونحن كحزب تغييري كنا موجودين في محطات عدة ما قبل 2019، كما كنا من الداعين للتحرك الأول ضد الضرائب يوم 17 تشرين، واليوم نكمل عملنا في مختلف الاستحقاقات للدفع باتجاه بناء ميزان قوى شعبي وسياسي يسمح بتغيير النظام من مركزي طائفي ومنحاز لفئة من الأوليغارشية، إلى نظام لا مركزي علماني يحقق العدالة الاجتماعية".
ويشير بو حمدان إلى أن "المسار انتقل من الغضب والاحتجاج في الشارع إلى بناء تراكم سياسي يصنع التغيير في النقابات والجامعات وعلى المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واليوم هناك حالة من النضج والإنضاج تحدث للتجارب والأحداث السياسية داخل مجتمع 17 تشرين المكوَّن من مبادرات وتنظيمات سياسية، ومجموعات سياسية واقتصادية واجتماعية ومدنية وأفراد".
تبعاً لذلك، يرى بو حمدان أننا "أمام مرحلة من إنضاج التجارب السياسية، التي تحتاج لأن تكون أكثر تنظيماً وقدرة على المواجهة، باعتبار أن المواجهة صعبة جداً، حتى لحظة الانتفاضة، كانت بوجه نظام من الأصعب والأقسى والأكثر صلابة في المنطقة، بعكس ما كنا نتخيل، وقد اصطدمت بمنظومة قوى سياسية وأحزاب تقليدية وقوى مالية وأمنية، عمودها الفقري حزب الله، تمتلك كل أدوات المواجهة وتمتهن وأد الثورات في دول المنطقة، وتمسك بقبضة حديدية على الدولة والمجتمع والناس".
من هنا، يلفت عضو المجلس التنسيقي في "لِحَقّي"، إلى أن "مكونات المجتمع التغييري متنوعة، ونحن كحزب سياسي تغييري نرى أن معركتنا الفعلية تقوم على التغيير في بنية النظام السياسي، من خلال التأسيس لعقد اجتماعي لا مركزي علماني، يحقق عدالة اجتماعية، ومواجهتنا الأكثر إلحاحاً اليوم هي توزيع عادل للخسائر في الخطة المالية القادمة، وتحميل المصارف المسؤوليات، وتأمين حماية اجتماعية للناس، وهذا ما نعتقد أنه أكثر أهمية من انتخابات رئاسة الجمهورية، التي انتهت مع إتمام صفقة الترسيم ومقايضة النفط مقابل النظام".
أحداث طبعت الساحة اللبنانية منذ عام 2019
وسطّرت الساحة اللبنانية أحداثاً كثيرة خلال السنوات الثلاث الماضية، بدءاً من تدهور قيمة العملة الوطنية الكبير مع تسجيل سعر صرف الدولار مستويات قياسية، مما ساهم في تحليق أسعار السلع والمواد الغذائية والمحروقات والأدوية، لا سيما مع رفع دعم البنك المركزي عنها، وارتفاع الفواتير الاستشفائية والصحية، ودخول البلاد عتمة شاملة، وتحكّم أصحاب المولدات بالفواتير، مستغلين غياب الأجهزة الرقابية، وأيضاً، طوابير الذل أمام محطات الوقود، والأفران، وغيرها من الوقائع "الاقتصادية".
عدا عن الجريمة الكبرى، التي تمثلت بانفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، واستمرار المسؤولين بتعطيل وعرقلة مسار التحقيقات، وتفاقم ظاهرة الهجرة غير الشرعية عبر البحر، فكانت قوارب الموت رغم مخاطرها، أملاً للكثيرين، خصوصاً من الذين يعيشون في المناطق الأكثر فقراً شمالاً، لمغادرة بلد لم يؤمّن لهم أبسط مقومات العيش.
كذلك، شهدت البلاد انهياراً غير مسبوق على مستوى الخدمات، والمؤسسات التي عرفت شللاً كاملاً بفعل الإضرابات التي شملت أيضاً الجسمين القضائي والصحي، في حين عملت السلطة بهدف "الاستمرارية" إلى رفع الأسعار، وأبرزها الاتصالات، التي زادت أكثر من 3 أضعاف، علماً أن هذا الملف، اعتبر الشرارة الأولى التي انطلقت بسببه انتفاضة 17 تشرين، يوم تقرّر رفع تعرفة الواتساب، وزيادة الدولار الجمركي، والعمل على رفع تعرفة الكهرباء، واعتماد سعر صرف 15 ألف ليرة بدلاً من 1507 ليرات، في وقتٍ تحاول تمرير قوانين "إصلاحية"، تزيد أعباء المواطنين، وتحمي السلطة السياسية ومن خلفها المصرفية، بهدف إرضاء صندوق النقد الدولي، والحصول على الدعم المالي المطلوب.
في المقابل، برزت مشاهد أخرى فتحت الاحتمالات أمام عودة الانتفاضة من بوابتها، وهي تحركات المودعين بوجه المصارف لتحرير ودائعها، عبر مبدأ استيفاء الحق بالذات، التي تسببت باقتحامات للبنوك، عددها تخطى العشرين، في كل من بيروت وعدد من المناطق اللبنانية الأخرى، والتي واجهتها البنوك بالإضراب الشامل، وبسلسلة إجراءات أمنية وإدارية، وأقفلت أبوابها بوجه المودعين، وفتحتها فقط بعد الحصول على موعد للتجار والشركات، حاصرة العلاقة بينها وبين الزبائن بخدمات الاتصال والصرافات الآلية.