تتصاعد تهديدات تنظيم "داعش" في سورية، مع استعادته لنشاطه العسكري، بتكتيك جديد يستند إلى حرب العصابات والضربات المحدودة والسريعة، الأمر الذي يهدد الاستقرار النسبي الذي حققّه الروس في مناطق سيطرة النظام، ويدفع إلى إعادة تقطيع أوصال المناطق التي يسيطر عليها الأخير عبر العمليات التي تستهدف الطرق الدولية. من جهتها، تبدو إمكانات النظام متهالكة لفتح معركة واسعة ضد التنظيم، خصوصاً أن الأول يعاني من عجز في استقطاب الشباب المستنكف عن الخدمة العسكرية في صفوف قواته، في حين يُحيّد الإيرانيون والمليشيات الموالية لهم أنفسهم عن هذه المعركة، فيما تبقى الضربات الجوية الروسية محدودة الفاعلية.
إمكانات النظام متهالكة لفتح معركة واسعة ضد التنظيم
وتركز خلايا "داعش" وجودها في البادية السورية المترامية الأطراف، والتي تمتد من جنوب دير الزور في الشمال الشرقي إلى أرياف الرقة وحلب وإدلب في الشمال الغربي، نزولاً إلى حماة وحمص غرباً، وإلى ريفي دمشق والسويداء جنوباً، في حين هي مفتوحة على البادية العراقية والأردنية، باستثناء منطقة الـ55، التي توجد فيها قاعدة أميركية على المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني، إلى جانب وجود مجموعة من الفصائل المسلحة المعارضة أبرزها "مغاوير الثورة". وما يميز هذه المساحة الشاسعة أنها شبه خالية من السُكّان، وذات تضاريس صعبة تكثر فيها الوديان والجبال والمغاور، ما يساعد مجموعات التنظيم على التحرك والتخفي، الأمر الذي يسهل على "داعش" تنفيذ ضربات محدودة على أطراف البادية، تأقلم معها عناصره، وأصبحت لديهم خبرات في العمل العسكري ضمنها. مع العلم أن البادية كانت المنطلق الأساسي للعناصر مع سيطرة التنظيم على المناطق السكنية في العديد من المناطق، مثل تدمر.
ولا يبدو اليوم أن النظام لديه توجه للقضاء على "داعش" في البادية، في ظل توظيفه بقاء التنظيم ورقةً سياسيةً لتقديم نفسه طرفاً في "الحرب على الإرهاب"، وبما قد يساهم في بقاء رئيسه بشار الأسد في الحكم مستقبلاً. إضافة إلى ذلك، يأتي عدم توفر الإمكانات اللازمة لخوض مثل هذه المعركة، بعد استنزاف النظام للبيئة الحاضنة له في الساحل السوري، والتي أصبح يتنامى لدى أفرادها الشعور بعبثية الحرب الطويلة التي خاضوها، وضخامة الثمن الذي دفعوه بدون أي نتائج ملموسة. فحياة هؤلاء من سيئ إلى أسوأ، والفقر يتعمق بينهم، في حين أن النظام، وعلى رأسه رئيسه بشار الأسد، عاد ليحاول مغازلة الشارع السُنّي عبر مشايخ السلطة الذين والوه خلال السنوات الأخيرة، معتبراً أنهم كانوا رديفاً للقوات النظامية، بحسب حديث لللأسد في اجتماع دوري نظمته وزارة الأوقاف. ويزيد كلّ ذلك من أعداد المستنكفين عن الخدمة العسكرية، ممن حسبوا أنهم حاضنته.
كما فشل النظام في بناء مصالحات حقيقية مع أهالي المناطق المعارضة، التي أعاد السيطرة عليها خلال السنوات الثلاث الماضية، جرّاء عدم التزامه ببنود التسويات، بل أمعن في عمليات الاعتقال والتنكيل والإذلال بمختلف أشكاله، ما تسبب بانعدام الثقة بينه وبينهم. ويأتي ذلك في وقت يستنكف فيه عشرات آلاف الشباب من السويداء جنوب سورية عن الخدمة العسكرية منذ بداية المواجهات، على الرغم من أن غالبية سكان المحافظة من الأقليات التي حاول النظام طرح نفسه حاميا لها.
وتعاني مناطق النظام الملامسة لوجود "داعش" من أزمات عميقة، حيث تعصف بها صراعات النفوذ، كحال جنوب نهر الفرات في محافظة دير الزور، حيث تبدو واضحة المزاحمة ما بين الإيرانيين عبر مليشياتهم، والروس الذين يستخدمون بدورهم جزءاً من القوات النظامية العسكرية والأمنية، إضافة إلى عناصر الفيلق الخامس المشكل من شباب المصالحات. كما يمكن أن ينسحب هذا الصراع على مختلف الجبهات، مع فارق بسيط، وهو تمركز صراعات النفوذ ما بين أجهزة النظام الأمنية والعسكرية، استناداً إلى توزع الولاءات ومصالح المتنفذين فيها، وصولاً إلى السويداء التي تشكل البيئة المجتمعية فيها ورقة صدّ للتنظيم. وهذا الأمر ظهر واضحاً في العام 2018، عندما فشل في التقدم في الريف الشرقي من المحافظة والمحاذي للبادية.
وتبقى الأزمة الأكبر انعدام الثقة ما بين سُكّان تلك المناطق وسلطات الأمر الواقع، والتي قد ترى في تلك الصراعات حروب مصالح وفرض نفوذ، الأمر الذي جعل هؤلاء السُكان يتخذون موقفاً سلبياً، ولديهم ميل في المقابل للتخلص من النظام والإيرانيين، كما حدث في العديد من المناطق في العام 2014 وما بعد.
يُحيّد الإيرانيون ومليشياتهم أنفسهم عن المعركة
ورأى المحلل العسكري أحمد رحال، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "النظام لا يمتلك جبهة قوية في محيط البادية، فهي بالنسبة إليه اليوم منطقة مجهولة صحراوية واسعة، وهو غير قادر على البقاء فيها طويلاً، ولا يملك قوات مدربة على العمليات العسكرية في الصحراء والتقفي للآثار والتخفي وصنع الكمائن، في حين أن عناصر التنظيم لديهم هذه الخبرات". ولفت رحال كذلك إلى أن "داعش ليس لديه اليوم الكثير من الخيارات أيضاً، فهو يعمل في مثلث يمتد ما بين دير الزور وتدمر وقاعدة التنف".
ورأى رحال أن "الروس دخلوا اليوم في مستنقع في مناطق مثل السخنة والمنصورة وغيرها، حيث تشهد ولادة جديدة لداعش، تهدد بعودة التنظيم إلى تدمر وأرياف حمص وحماة، ما يعني فشل المشروع الروسي، خصوصاً أن الأميركيين يقولون إنه مع انتهاء داعش في الباغوز بريف دير الزور فقد قضينا على التنظيم، أما الإجهاز عليه في بقية المناطق فهي مسؤولية الروس". وبحسب المحلل العسكري، فإنه لهذه الأسباب "يحضّر الروس للقيام بعملية عسكرية، وينشطون في محاولة تجنيد الشباب المستنكف عن الخدمة العسكرية، كما ظهر في درعا والسويداء، لتغطية عجز النظام عن القيام بمثل هذه العملية". ولفت رحال أخيراً إلى "وجود غياب إرادة لدى مختلف القوى في القضاء على تنظيم داعش وجبهة تحرير الشام في محافظة إدلب، حيث إنهما لا يزالان يشكلان مبرراً لافتعال العمليات العسكرية واستمرار الحروب في المنطقة، وورقة لتبادل الاتهامات، ما يجعل أي عملية عسكرية هدفها اليوم فقط ردع وتحجيم التنظيم، لحماية مناطق نفوذهم، لكن هذا التشتت بين القوى سيكون سبباً لإحياء التنظيم وتمكنه من استعادة نشاطه".