على الرغم من عدم بروز بوادر للتقارب بين قطبي الصراع السياسي الحالي في العراق على منصب رئاسة الحكومة المقبلة، وهما "التيار الصدري" بزعامة رجل الدين مقتدى الصدر، والقوى الحليفة لإيران التي نظّمت نفسها أخيراً داخل ما يعرف بـ"الإطار التنسيقي" بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، إلا أن جميع الترجيحات الحالية في بغداد والنجف تتحدث عن أن أياً من المعسكرين المتنافسين لن يتمكن من تسمية رئيس الحكومة المقبلة من دون موافقة وقبول الطرف الآخر، وهو ما تدفع نحوه مرجعية النجف، ممثلة بالمرجع علي السيستاني. ويعني ذلك أن الحل الراجح في الأزمة هو رئيس وزراء توافقي على غرار سيناريو انتخابات عام 2018 الذي أوصل عادل عبد المهدي إلى رئاسة الوزراء، ومن بعده مصطفى الكاظمي، حتى مع توقعات باستمرار هذه الأزمة إلى نهاية العام الحالي.
يتحرك تحالف المالكي بشكل جدي لمنع وصول رئيس وزراء صدري
ونفى مصدر قريب من الصدر حصول أي تواصل مباشر بين الأخير أو أعضاء الهيئة السياسية في "التيار الصدري" وبين تحالفي "الفتح" و"دولة القانون"، الحليفين المدعومين من طهران، بخلاف ما تحدثت عنه تقارير محلية عراقية. وقال المصدر، في حديث هاتفي مع "العربي الجديد" من مدينة النجف، أمس الجمعة، إن زعيم "تيار الحكمة" عمار الحكيم يسعى حالياً إلى "ترطيب الأجواء" بين المعسكرين السياسيين الشيعيين، مؤكداً أن "هذا المسعى تكلل بتوقف التصريحات المتشنجة في وسائل الإعلام منذ مساء الإثنين الماضي، باستثناء تحالف المالكي، إذ يتحرك بشكل جدي لمنع وصول رئيس وزراء صدري أو مرشح من التيار الصدري ويؤلب الآخرين بهذا الاتجاه".
وتحدث المصدر عن "فيتو" على عودة المالكي إلى رئاسة الحكومة من قبل أطراف عدة داخل العراق وحتى خارجها، لكنه أقرّ في الوقت ذاته بأن "ولادة الحكومة الجديدة لن تكون بعيدة عن الإطار التوافقي بين الكتل السياسية الشيعية الأربع الرئيسية حالياً (دولة القانون، الفتح، التيار الصدري، تيار الحكمة)، وهو ما تدعمه مرجعية النجف أيضاً، لضمان أن تكون الحكومة مستقرة. لكن هذا لا يعني التنازل عن حق "التيار الصدري" في "كونه الكتلة الأكبر انتخابياً"، بحسب المصدر.
في المقابل، لا تبدو أن لدى القوى السياسية الكثير من الخيارات المتاحة في ما يتعلق بشخصية رئيس الوزراء المقبل، وهو ما دفع بأحد الساسة العراقيين إلى استعارة المعادلة اللبنانية في هذا الإطار، بشأن محدودية الشخصيات التي يمكن أن تحقق الحد الأدنى من التوافق السياسي داخل العراق وخارجه لمنصب رئاسة الحكومة. كما أن القوى المكلفة باختيار رئيس الوزراء، وفق العُرف السياسي في العراق القائم على المحاصصة الطائفية (بعد الغزو الأميركي)، تعوّل على التنافس المحتدم بين القوى السياسية السنّية والكردية حيال اختيار رئيس للبرلمان ورئيس للجمهورية، بمعنى أن اختيار رئاستي الجمهورية والبرلمان يسبق اختيار رئيس الحكومة. إذ يدعو رئيس الجمهورية الحالي برهم صالح البرلمان للانعقاد خلال 15 يوماً بعد المصادقة على نتائج الانتخابات البرلمانية، ويُعقد برئاسة الأكبر سناً، ثم ينتخب البرلمان في الجلسة نفسها رئيساً له ونائبين، بالاقتراع السري، ثم يحدد رئيس البرلمان الجديد موعداً لانتخاب الرئيس العراقي الجديد بأغلبية الثلثين.
وفي هذا السياق، تتردد في بغداد أسماء عدة لرئاسة الحكومة المقبلة، أبرزها رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان (54 عاماً)، الذي يتمتع بعلاقات ثابتة مع مختلف القوى السياسية في البلاد، إضافة إلى كل من طهران وواشنطن والرياض. كما يتم تداول اسم مستشار الأمن الوطني الحالي قاسم الأعرجي، الذي لعب أخيراً دوراً كبيراً في التوصل إلى تهدئة بين الفصائل الحليفة لإيران والتحالف الدولي، فضلاً عن تمتعه بعلاقات جيدة مع القوى العربية السنّية والكردية، وتكليفه بمهام خارجية، أبرزها الوساطة العراقية بين السعودية وإيران. كما يُطرح اسم القيادي في حزب "الدعوة" محمد شياع السوداني، إلى جانب جعفر الصدر، السفير العراقي في لندن وابن عم مقتدى الصدر. أما في حال العجز عن الاتفاق على اسم لرئاسة الوزراء، فسيعاد طرح اسم مصطفى الكاظمي لرئاسة الحكومة، خصوصاً مع وجود قبول خارجي في هذا الشأن.
تدعم مرجعية النجف حصول توافق بين الكتل الشيعية الرئيسية لضمان أن تكون الحكومة مستقرة
وفي هذا السياق، قال السياسي العراقي غالب الشابندر، لـ"العربي الجديد"، إنه "لغاية الآن لم تُطرح أسماء ذات قبول سياسي حتى داخل الكتلة الواحدة نفسها، والأخبار في العراق تتغير بين ساعة وأخرى، وهناك جهات تتعمد اختلاق أخبار وإشاعات كاذبة، وتسرب معلومات مغلوطة لوسائل الإعلام، لكن التسريبات من داخل القوى السياسية المعنية بالموضوع حالياً تعتبر الكاظمي خياراً جيداً". وأضاف الشابندر: "لكي أكون صادقاً، هناك أسماء تُطرح، نعم، لكنها تبقى ضعيفة، والكاظمي حظوظه جيدة ونجح في تحقيق تقدم في ملفات عدة، أهمها إنقاذ الجيش من الانهيار الذي كاد يتسبب به عادل عبد المهدي، وتحاشي المواجهة الدموية في الأزمات". وختم بالقول إن "هناك نقطة حسّاسة أخرى، وهي أن أي رئيس وزراء يأتي من أي كتلة، سيمثل خطراً على الكتل الأخرى، بمعنى أنه ينحاز لكتلته على حساب الكتل الباقية، لذا فإن الجو العام يحبذ أن يكون رئيس الوزراء توافقياً، لكن من خارج الكتل الشيعية الحالية".
من جهته، رأى السياسي العراقي قصي محبوبة أن خفايا المفاوضات الحالية في بغداد تؤكد سحب اسم نوري المالكي من الترشيح لرئاسة الحكومة، وتقديم أسماء أخرى بدلاً عنه، أهمها محمد شياع السوداني، ومحافظ البصرة أسعد العيداني، إضافة إلى وجود أسماء أخرى محسوبة على الصدر، منها نصّار الربيعي ومصطفى الكاظمي، لافتاً في تصريح إعلامي، إلى أن تحالف "الفتح" بزعامة هادي العامري موافق على الجميع، شرط ألا يتم إبعاده من الحكومة.
وتعليقاً على ذلك، اعتبر الباحث في الشأن السياسي العراقي طالب الأحمد أن التوافق بين المعسكرين المتصارعين في بغداد في ما يتعلق برئاسة الحكومة هو نتيجة حتمية. وأوضح الأحمد، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن التيار الصدري لديه خياران، الأول أن يأخذ السلّة الحكومية بالكامل ويشكلها بنفسه من دون الآخرين، وهو أمر صعب، أما الخيار الثاني فهو طرح اسم توافقي من خلال التيار يقبله الآخرون، وهذا هو المرجح في المشهد العراقي الآن، بغض النظر عن النتائج الانتخابية للقوى السياسية النافذة، معتبراً أن الخيار الثاني سيعطي أيضاً فسحة للصدر للتحرك بحال أخفقت هذه الحكومة، على اعتبار أن رئيس الوزراء توافقي ولا يمثل "التيار الصدري".
ورأى الأحمد أن "التوافق على الكاظمي أكثر إمكانية من غيره من الأسماء المطروحة، من دون إغفال وجود مخاوف لدى بعض القوى من عودة تسلم الكاظمي رئاسة الحكومة لأربع سنوات أخرى مقبلة وكاملة الصلاحيات وبدعم داخلي وخارجي"، في إشارة إلى القوى الحليفة لإيران المعارضة للانفتاح العراقي الذي تحقق خلال حكومة الكاظمي مع المحيط الخارجي وسياسته المتعلقة بتعزيز مؤسسات الدولة الأمنية، وتحديداً الجيش، أمام نفوذ الفصائل المسلحة.
تتردد في بغداد أسماء عدة لرئاسة الحكومة، أبرزها رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان
في غضون ذلك، تواصل شخصيات مدنية ومستقلة فازت في الانتخابات الأخيرة حراكها لتشكيل تحالف جديد داخل البرلمان تحت عنوان مدني، سيكون هو الأول من نوعه منذ عام 2006 الذي شهد تشكيل أول برلمان منتخب في البلاد. وفي هذا الإطار، أجرى زعيم حركة "امتداد" المدنية علاء الركابي، خلال اليومين الماضيين، سلسلة لقاءات في النجف وبغداد، قبل أن يغادر إلى مدينة السليمانية للقاء قيادات التيار المدني الكردي المعارض في إقليم كردستان العراق، شمالي البلاد، ممثلاً بحركة "الجيل الجديد"، التي استطاعت الحصول على 9 مقاعد في البرلمان العراقي الجديد. وقال الركابي، في تصريح مقتضب لـ"العربي الجديد"، إن المدنيين يسعون إلى "معارضة حقيقية في البرلمان المقبل"، مضيفاً أن "فتح ملفات الفساد والانتهاكات ومحاسبة المتورطين بها ستكون أولى أعمالنا"، مشدداً على عدم مشاركة تحالفه في أي حكومة مبنية على محاصصة طائفية وحزبية.
ووفقاً لعضو بارز في حركة "امتداد"، تحدث لـ"العربي الجديد" طالباً عدم ذكر اسمه، فإن الحراك الحالي يسعى إلى تشكيل تحالف أفقي من مستقلين ومدنيين، يتجاوز عدده الـ40 مقعداً في البرلمان، وهذا سيشمل الحراك الكردي في إقليم كردستان، وكذلك المستقلين في مناطق بغداد والشمال والغرب، كما هو الحال في الجنوب العراقي. وأضاف المصدر أن المشترك في هذا التحالف هو التدافع مع الأحزاب التقليدية الدينية في بغداد والقومية في إقليم كردستان وخلق معادلة سياسية جديدة، طرفها الآخر المدنيون، والهدف هو دولة مواطنة، كاشفاً عن أن التحالف الجديد قد يُعلن رسمياً بعد الإعلان عن مصادقة القضاء على نتائج الانتخابات. وأعرب عن أمله "في استقطاب نواب مستقلين جدد، على الرغم من أن بعض الأحزاب التي سجلت نتائج متواضعة في الانتخابات صارت تُقدّم مبالغ ضخمة للنواب المستقلين من أجل الانضمام إليها ضمن مسعى رفع عدد مقاعد كتلتها داخل البرلمان"، بحسب قوله.
(شارك في التغطية من بغداد سلام الجاف)