مثلت مدينة القدس والمسجد الأقصى تحديداً محور هجمة الاحتلال الإسرائيلي، بقيادة القوى الدينية اليمينية؛ المسماة بالصهيونية الدينية وجماعات الهيكل، والتي تؤمن بوجود الهيكل، وتعمل على بنائه وهدم الأقصى، على الرغم من المعطيات والمؤشرات والحقائق التي تنفي وجوده، إذ تعتبر بناء الهيكل خطوة ضرورية لنزول السيد المسيح، وذلك على العكس من مواقف التيارات الحريدية الدينية التقليدية، التي تحرم ذلك لاعتبارات دينية، رغم اتفاقها مع جماعات الهيكل على وجود الهيكل، أي يدور الاختلاف بينهما حول كيفية التعامل مع الهيكل، سواء بانتظار المعجزة الربانية ونزول المسيح، حسب رؤية التيارات الحريدية، أو بمساعدة اليهود للرب في نزول المسيح، عبر العودة إلى الهيكل وبنائه على أنقاض الأقصى، وفق رؤية جماعات الهيكل.
رفعت تيارات صهيونية عّدة شعار العودة إلى الهيكل منذ بداية المشروع الصهيوني، وبدأت أولى تلك الجماعات بالعمل في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، ثم عادت إلى الظهور بعد حرب عام 1967، أولى محطات استهداف المسجد الأقصى العملية كانت حرقه من قبل يهودي في عام 1969، بعد شعور هذه الجماعة بنشوة ما حققه الجيش الإسرائيلي من احتلال أراضي فلسطين والأردن ومصر وسورية، وفي مقدمتها مدينة القدس والمسجد الأقصى، حينها رفع قائد الاحتلال العسكري العلم الإسرائيلي على المسجد، وألقى كلمته الشهيرة "جيش الدفاع يحرر القدس والهيكل بأيدينا".
اعتبرت تيارات دينية يهودية حرب الـ 67 بمثابة نصر إلهي، وليس نتيجة قوة قادة إسرائيل العلمانيين، فالرب؛ وفقاً لهم، لن يسمح بهزيمة اليهود على أيادي الأغيار (غير اليهود)، الذين خلقوا ليكونوا عبيداً وخدماً لليهود بالأساس.
تبقى احتمالية إفشال مشروع تهويد الأقصى حاضرة، كما حدث قبل أعوام في إفشال مشروع البوابات الإلكترونية، إذ يبقى الأقصى جامعاً دينياً ووطنياً وقادراً على حشد قوى المقاومة، وهذا ما لا تريده إسرائيل الرسمية
شهدت سنوات الثمانينيات محاولات يهودية عديدة لتفجير المسجد الأقصى وقبة الصخرة باستخدام الصواريخ، ما مثل نقلة نوعية في مشروع بناء الهيكل وهدم الأقصى، بغرض تحقيق الخلاص النهائي، وإقامة دولة الشريعة اليهودية، وذلك بعد قطع أرجل الأغيار (أي المسلمين والمسيحيين) عن القدس، بعد تدمير مقدساتهم، والقضاء عليهم نهائياً.
لم تحصل تلك الحملات الإرهابية على دعم مجمل المجتمع اليهودي، ما دفع أصحابها إلى البحث عن وسائل جديدة من أجل تنفيذ مشروعهم، منها البدء بحملات توعية، وتأسيس جمعيات يهودية خاصة بالهيكل؛ أكثر من 40 جمعية، وما الزيادة الملحوظة في أعداد مقتحمي المسجد الأقصى سوى دليل على نجاحهم في نقل مشروعهم من الهامش إلى المركز.
قبل بضعة أيام اعترف رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية بنيامين نتنياهو بدعم حكوماته الأخيرة الصهيونية الدينية، موضحاً أن عدد اليهود الذين اقتحموا الأقصى في عام 2009 كان 5658 يهودياً؛ حين عاد إلى رئاسة الحكومة للمرة الثانية، ثم تضاعف العدد ست مرات في ظل حكوماته المتتالية، حتى وصل عدد المقتحمين في عام 2019 إلى 37000 يهودي. ما يمثل اعترافاً صريحاً بتبني حكومات إسرائيل لبرنامج جماعات الهيكل.
كذلك؛ أعلن وزير الأمن الداخلي الأسبق جلعاد أردان، من حزب الليكود، في عام 2019، أن حكومته ستسمح لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى، بدلاً من الدخول والتجول داخل ساحاته فقط، ما يعني تبني حكومة إسرائيل لادعاء أن المسجد الاقصى مكان عبادة لليهود أيضاً، ما ينسف الوصاية الأردنية ورعايتها للمقدسات الإسلامية، على اعتبارها أماكن مقدسة للمسلمين فقط، فوفق الوصاية الأردنية ينحصر دخول غير المسلمين إلى الأقصى بمجموعات سياحية، وبعد التنسيق الكامل مع دائرة الأوقاف الإسلامية.
أيضاً؛ أعلن رئيس الشاباك الأسبق آفي ديختر؛ من حزب الليكود؛ حين كان رئيساً للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أن هنالك معلومات عن نية يهود متطرفين تفجير المسجد الأقصى، ولمنعهم لا بد من تقسيم الأقصى بين اليهود والمسلمين. تضمن تصريح أفي رسالة مبطنة، لكنها واضحة للفلسطينيين والمسلمين، فحواها الاختيار بين قبولهم تقسيم الأقصى مع اليهود، أو هدمه من قبل متطرفين يهود.
دفعت بعض المتغيرات جماعات الهيكل إلى إعادة النظر في سياساتها تجاه تنفيذ مشروعها، بغرض منع بروز أي خلافات داخل المنظومة السياسية والأمنية الإسرائيلية، وبهدف الوصول إلى الحد الأقصى من القبول الإسرائيلي، كما تجسد في إعلان يهودا غليك؛ أحد قادة جماعات الهيكل المنتمين لحزب الليكود، عن ثلاث مراحل لتنفيذ مشروع الهيكل، أولها زيادة عدد اليهود المقتحمين للمسجد الأقصى، وتكرارها على ثلاث فترات زمنية، في الصباح والظهيرة والعصر، حتى يعتاد الرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني والعالمي عليها.
بعد ذلك تبدأ المرحلة الثانية عبر أداء طقوس دينية باللباس الديني؛ في تناقض مع رعاية الأوقاف الإسلامية الأردنية للأقصى، منها نفخ الأبواق وإدخال الكتاب المقدس؛ كما حدث قبل أيام في عيد الفصح اليهودي، والذي يعني دينياً فرض السيادة الدينية اليهودية على الهيكل، ونهاية غياب اليهود عنه، وذبح القرابين، الذي يعني من وجهة نظرهم الإقرار المعنوي بعودة اليهود إلى الهيكل. بعد تكيف وتأقلم المنطقة مع المرحلتين السابقتين تنطلق المرحلة الثالثة، المتمثلة في المطالبة بتحديد مكان لليهود لبناء هيكلهم، سواء على جزء من المسجد الأقصى، وتحديداً مكان قبة الصخرة، أو على كامل مساحة المسجد الأقصى، التي تبلغ 144 دونماً.
يدور الاختلاف بينهما حول كيفية التعامل مع الهيكل، سواء بانتظار المعجزة الربانية ونزول المسيح، حسب رؤية التيارات الحريدية، أو بمساعدة اليهود للرب في نزول المسيح، عبر العودة إلى الهيكل وبنائه على أنقاض الأقصى، وفق رؤية جماعات الهيكل
لم يعد وزن وثقل جماعات الهيكل هامشياً كما كان في القرن الماضي، الأمر الذي دفع أبراهام بورغ؛ رئيس الكنيست السابق، إلى اعتبار مسألة هدم المسجد الأقصى مسألة وقت، فجماعات الهيكل مصممة على هدمه، حتى لو أدى إلى إشعال المنطقة.
لم تكتف حكومات نتنياهو المتتالية بدعم جماعات الهيكل، حتى باتوا اليوم تهديداً خطيراً وصريحاً على مستقبل المسجد الأقصى، بل مارست أيضاً شتى أنواع السياسات الإجرامية تجاه المقدسيين والفلسطينيين، من أجل إنجاح مشروع تقسيم الأقصى زمانياً ومكانياً، على اعتباره مقدمةً لهدمه كلياً، وبناء الهيكل مكانه، كما في حظر الحركة الإسلامية الجناح الشمالي؛ برئاسة الشيخ رائد صلاح، التي تبنت برامج تحافظ على هوية الأقصى الإسلامية والعربية. وكذلك في تفكيكها مؤسسات السلطة الفلسطينية في القدس، بهدف منع أي عمل جماعي يواجه مشروع التهويد، وفي منعها المرابطين، وحظرها دخول بعضهم إلى المسجد الأقصى لفترات متباينة، ثم محاولاتها نصب البوابات الإلكترونية، التي أفشلها المقدسيون وسائر أبناء الشعب الفلسطيني، الذين تمكنوا من الوصول إلى القدس للمشاركة بفعاليات مقاومتها، كما فرضت حكومات إسرائيل إجراءات كثيرة على غالبية فلسطينيي الضفة والقطاع المحتلين، لمنعهم من الوصول إلى القدس، معتقدةً أن ذلك يساهم في إنجاح مشروع تهويد الأقصى والقدس، إضافةً إلى عمليات الاقتحام المتكررة، التي شاهدها العالم في الشهر الأخير، كما شاهد إخراج المعتكفين والمعتكفات الوحشي من الأقصى، في ليالي شهر رمضان، رغم قدسيته وحساسيته لدى كل المسلمين.
أضاف تشكيل الحكومة الاسرائيلية الحالية منسوباً جديداً من الخطر على مستقبل المسجد الأقصى، بسبب تركيبتها التي تضم أكثر من 24 عضو كنيست ينتمون فكرياً لجماعات الهيكل، موزعين على أحزاب العظمة اليهودية بزعامة الكهاني إيتمار بن غفير وزير ما يسمى الأمن القومي، وحزب الصهيونية الدينية بزعامة بتسلئيل سموتريتش وزير المالية والوزير في وزارة الجيش عن الإدارة المدنية والضفة الغربية، وعدد من وزراء الليكود بزعامة نتنياهو، الذين يتبنون الفكر الكهاني المتطرف. إضافة إلى اختراق هذه الجماعات لأجهزة الأمن الإسرائيلي، خاصة جهاز الشرطة، الذي يقدم التسهيلات لاستمرار وتأمين الاقتحامات اليومية.
كشفت محاولات الحكومة تغيير المنظومة القضائية والقانونية والقيمية الإسرائيلية عن خطورة مشروعهم، سواء إزاء القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى، أو في ما يخص القضايا الإسرائيلية الداخلية، وتحديداً ما يخص القيم الليبرالية والفردية الإسرائيلية، أي تحويل إسرائيل من دولة ديمقراطية لليهود إلى دولة الشريعة اليهودية، والذي لن يتم حسب معتقداتهم إلا بعد عدة مراحل، أولها تبدأ بالقضاء على قشور الجرب، من علمانيين وكفرة ومثليين، وصولاً إلى بناء المعبد ودولة الشريعة، إذ أعلن أكثر من مسؤول منهم؛ أن دور الحركة الصهيونية العلمانية قد انتهى بتأسيس دولة إسرائيل، وجلب حوالي نصف يهود العالم إلى أرض الميعاد، فقد آن الأوان لإنهاء النظام العلماني وبناء دولة الشريعة، التي تتطلب هدم الأقصى وبناء الهيكل.
في ظل الأزمة الداخلية، وظهور شروخ مجتمعية عميقة، بخلفيات أثنية ودينية وعلمانية واقتصادية، قد تتراجع الحكومة عن بعض التغييرات القضائية، بغرض تخفيف حدة المعارضة الداخلية، في مقابل التوجه نحو بعض القضايا المتعلقة بالقدس والأقصى، على قاعدة أن أغلبية المجتمع اليهودي لن تعارض ذلك، رغم خشية بعضهم من تداعيات هذا التوجه السلبية أمنياً واقتصادياً على إسرائيل، لأن الحفاظ على هوية إسرائيل الديمقراطية الليبرالية هو أولوية المجتمع اليهودي اليوم.
تصر جماعات الهيكل على الاستمرار في مشروع تهويد الأقصى، حتى لو أدى إلى مواجهات وحروب، فهم يعتبرون الحرب مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين وضعاً طبيعياً، لأن تحقيق مشروعهم يتطلب الدماء والقتل، كما عبرت عن ذلك الوزيرة أوريت ستروك من حزب الصهيونية الدينية، حين قالت "على الشعب اليهودي الاستعداد لتقديم الأرواح للعودة إلى غزة والقدس".
أضاف تشكيل الحكومة الاسرائيلية الحالية منسوباً جديداً من الخطر على مستقبل المسجد الأقصى، بسبب تركيبتها
لكن في الأيام الأخيرة؛ التي تلت إطلاق عشرات الصواريخ من لبنان باتجاه إسرائيل، تصاعدت خشية إسرائيل من نتائج استمرار مشروع الهيكل، الذي قد يؤدي إلى إشعال حريق في الضفة والقطاع، وفتح ساحات وجبهات أخرى، ما يساهم في تعميق الجدل والنقاش الإسرائيلي الداخلي، خاصةً أن سياسة إسرائيل الرسمية مبنية على تفكيك الجبهات وليس توحيدها، كما ظهر بالرد الإسرائيلي الباهت على الصواريخ المنطلقة من لبنان وغزة. وبالتالي؛ تبقى احتمالية إفشال مشروع تهويد الأقصى حاضرة، كما حدث قبل أعوام في إفشال مشروع البوابات الإلكترونية، إذ يبقى الأقصى جامعاً دينياً ووطنياً وقادراً على حشد قوى المقاومة، وهذا ما لا تريده إسرائيل الرسمية.