مع اندلاع الثورة السورية في ربيع العام 2011، شكّلت الحواجز الأمنية والعسكرية التي نشرها النظام في أرجاء البلاد، مصدراً هاماً لحمايته، ليدخل في ما بعد الجيش إلى المدن والبلدات لوأد الحراك ضد رئيسه بشار الأسد.
لكن تلك الحواجز بقيت بمثابة "الثقب الأسود"، الذي التهم الكثير من السوريين، لا سيما الشبان الذين أوقفوا على تلك الحواجز ليساقوا إلى السجون والمعتقلات، والكثير منهم قضى تحت التعذيب كما أظهرت الكثير من التحقيقات والوثائق، لا سيما صور المصور العسكري "قيصر"، الذي سرب 55 ألف صورة، التقطها هو فقط، لآلاف المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، معظمهم تم إيقافهم على تلك الحواجز.
في ما بعد باتت تلك الحواجز مصدراً حيوياً لاقتصاد النظام، أو بالأحرى ملء جيوب ضباطه وعناصره بشكل ممنهج ومدروس، بحسب نظام محاصصة هرمي، يبدأ بعناصر تلك الحواجز، وينتهي عند ضباط متنفذين وكبار، لا سيما قائد الفرقة الرابعة ماهر الأسد، شقيق رئيس النظام بشار الأسد، ذات الصيت السيئ، والتي تنشر حواجزها في جميع المناطق التي يسيطر عليها النظام.
وهذه الحواجز باتت عنواناً لفرض الإتاوات على المارين عليها، بسبب وبدون سبب. غير أن للشاحنات والسيارات التي تحمل البضائع التجارية على اختلافها تعامل آخر، بفرض رسوم باهظة خارج القانون للسماح بمرورها، وهذا ما أدى إلى ارتفاع الأسعار، وإرهاق كاهل المواطن الذي يعيش بالأساس ظروفاً معيشية صعبة، مع انهيار الليرة أمام العملات الأجنبية، وتدني قيمة الرواتب والأجور وفقدان العمل.
ضابط بقوات النظام: لقد أصبحت الحواجز دويلات متنافسة ومتناحرة في قلب الدولة
يكفي القول إن أي شاحنة، أو سيارة محملة بالبضائع، قادمة من حلب إلى دمشق على سبيل المثال، تحتاج للمرور على خمسة حواجز على الأقل، ويلزم على صاحبها دفع الإتاوات لكل حاجز بالإكراه.
إزالة حواجز في معظم المحافظات
وبدأ النظام بإزالة بعض الحواجز الرئيسية في قلب دمشق منذ بداية العام الحالي، لكن ما لبثت أن أوقفت حركات الإزالة لأشهر، ثم عادت منذ بداية شهر سبتمبر/أيلول الماضي، ليزيل النظام مقرات وحواجز أمنية ونقاطاً عسكرية عديدة في معظم المحافظات السورية التي يسيطر عليها، خصوصاً من المواقع التي شكلت خلال السنوات الماضية درعه الآمن في جميع الطرق والمداخل المؤدية إلى العاصمة.
وعلمت "العربي الجديد" من مصادر أمنية بأن قرار إزالة الحواجز صدر قبل حوالي الشهرين من قبل إدارة الأمن الوطني، وعُمم بشكل مباشر على قيادات الفرقة الرابعة، وقد استثنى القرار الحواجز التابعة لشعبة المخابرات العسكرية التي يرأسها اللواء كفاح الملحم، وكذلك إدارة أمن الدولة التي يرأسها اللواء حسام لوقا.
ومن بين تلك الحواجز التي حفرت في ذاكرة السوريين تاريخا من العنف والقهر والإذلال والابتزاز، حواجز الفرقة الرابعة و"البانوراما" عند مدخل دمشق من الشمال، وحاجز "الـ 86" المتواجد على أوتوستراد السلام بين دمشق والقنيطرة، و"الزراعة" المتواجد على الطريق الواصل بين مدينة البعث وخان أرنبة في ريف دمشق، وكذلك حاجز "أرزونة" المتواجد على أوتوستراد طرطوس – حمص، وحاجز "حسياء" العسكري المتمركز على طريق دمشق – حمص والمعروف عنه فرض الإتاوات الكبيرة على جميع العابرين، وكل ذلك رصدته "العربي الجديد" في دمشق وتأكدت منه من مصادرها الخاصة خارج العاصمة.
وفي بداية العام الحالي، تمت إزالة بعض الحواجز ضمن العاصمة، وعلى الطرق الواصلة بين القصور الرئاسية ومطار دمشق الدولي، وتم ربط حركات الإزالة أو إعادة الانتشار بالتقارب العربي مع النظام السوري والزيارات العربية التي رافقت هذا التقارب.
محاولة النظام الإيحاء بانتهاء الحرب
وفي حين أشارت معلومات إلى أن إزالة الحواجز والتخفيف الأمني من قبل النظام كان أحد شروط التقارب العربي وعودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، فإنه في الوقت ذاته، يمكن اعتبار هذه الخطوات محاولة من النظام للإيحاء بانتهاء الحرب، وإعطاء الزوار صورة عن دمشق، على وجه الخصوص، الخالية من العنف والسلاح و"المنتصرة على الإرهاب".
لكن متابعين للوضع الأمني في البلاد، يرون أن النظام لن يقدّم أي تنازلات حقيقية، وبالأخص بالأمور التي كان يرى فيها ركائز وحصانة لنظامه وسياساته كالحواجز الأمنية، إلا وفق مشورة من الحلفاء، وقناعة بأن إزالتها أقل ضرراً من بقائها.
أحد ضباط قوات النظام يقول لـ"العربي الجديد" طالباً عدم الكشف عن أي تفاصيل تشير إلى هويته: "يصعب على السلطات الأمنية والسياسية الحاكمة التخلي عن هذه المقار والقواعد بدون الوصول لقناعة مطلقة بأن وجودها أصبح خطراً على بقاء النظام الحاكم بحد ذاته أكثر من خدمات الأمن والأمان الذي تحققه له".
ويضيف: "ليعلم الجميع، أن إزالة الحواجز الأكثر بطشاً وسلطة وابتزازاً للمواطن مثل حواجز الفرقة الرابعة، لن يتم قبل أن يقتنع الضباط المسيطرون عليها، بأن وجودها أصبح عبئاً وخطراً على وجودهم وسلطتهم شخصياً، بمعزل عن تأثير بقائها على النظام بحد ذاته".
ويتابع الضابط: "لقد أصبحت هذه الحواجز دويلات متنافسة ومتناحرة في قلب الدولة بحسب تبعيتها لأشخاص في النظام أو الأجهزة الأمنية والعسكرية، وباتت تشكل خطراً على النظام الحاكم وحلفائه، خصوصاً بعد تراكم حالات التذمر والاستياء لدى معظم العناصر والضباط السوريين من السلطات الممنوحة لتحركات الحليف الإيراني والمليشيات التابعة له".
وينوه إلى أن "هذا الاستياء نتيجة الشعور لدى معظم العسكريين في النقاط والحواجز العسكرية خاصة، بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية في بلدهم، بعد الإيراني والروسي وغيره من المليشيات الأجنبية الحليفة".
جاد شهاب الدين: إزالة الحواجز ليست سوى إعادة تمركز
ولاحظ السوريون إزالة العشرات من الحواجز في معظم أنحاء سورية، بما فيها تلك المتمركزة بين مناطق سيطرة النظام و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في شمال شرق سورية، وكذلك مناطق ريف حمص وطرطوس وفي درعا البلد.
إزالة الحواجز لتخفيف الضغط الشعبي
ورجحت وسائل إعلامية محلية معارضة، أن أسباب إزالة الحواجز تعود إلى تخفيف الضغط الشعبي الناتج عن الوضع المعيشي والاجتماعي من جهة، وتخفيف الاحتقان الشعبي وتهدئة الرأي العام المعارض والمتذمر، خصوصاً بعد انتفاضة السويداء جنوب سورية والخوف من امتدادها إلى مناطق ريف دمشق القريب من السويداء ومناطق حاضنة النظام مثل اللاذقية وطرطوس، من جهة ثانية.
ويعتقد التاجر جاد شهاب الدين أن قرار إزالة الحواجز لم يكن ليأتي إلا باتفاق بين سلطات النظام الأمنية والعسكرية على تنوعها ومشورة من الجانب الإيراني.
ويضيف، لـ"العربي الجديد"، أن "التنفيذ أتى بعد انهيار متتالٍ لقيمة الليرة السورية، والارتفاع الكبير في الأسعار، ما استدعى خطوات تخفف عن المواطن الضغط قبل الوصول لحالة الانفجار. وقد ساهم في تسريع هذه التحركات التأثير السلبي لانتفاضة الجنوب السوري على هيبة النظام، والخوف من تمدد الحراك الشعبي إلى باقي المناطق السورية".
ويشير شهاب الدين إلى أن "هذه الإزالة للحواجز ليست سوى إعادة تمركز وتجميع للقوات العسكرية في مربعات أمنية ضمن المدن والأرياف الكبيرة، خصوصاً في المناطق التي تُعتبر حاضنة للنظام، وكذلك في بعض المناطق الحدودية التي تخدم التنقلات العسكرية والتجارية لسلطة النظام وحلفائه، مثل مناطق حمص المحاذية للحدود اللبنانية".
وكانت هذه الحواجز الأمنية والعسكرية قد تمركزت وازدهرت منذ بداية الحرب السورية على كافة الطرقات الرئيسية بين المحافظات وفي مداخل المدن وضمنها، وفي معظم الطرقات المؤدية إلى الأرياف، وتنوعت باختصاصاتها وتبعيتها وأسلوب عملها وتعاملها مع السوريين، إلى الحد الذي بات فيه كل مواطن عابر ضمن الأراضي السورية يميز بين عائدية الحاجز وتبعيته إلى أحد الأفرع الأمنية، أو الفرقة الرابعة، أو الجمارك أو الجيش النظامي.
وتسابقت هذه الحواجز في فرض الإتاوات على التجار ووسائل نقل البضائع والمواد الأولية، حتى باتت مراكز تحصيل إتاوات. وفي المقابل مواقع حماية وأمان للمهربين ولأعمال التهريب ضمن الأراضي السورية، وعبر الحدود من وإلى لبنان والأردن والعراق، وساهمت بشكل كبير في عمليات تهريب وترويج المخدرات، لاسيما الكبتاغون الذي بات علامة مسجلة لدى النظام.