حماس بين تناقضي السلطة والمقاومة

28 يوليو 2024
إسماعيل هنية ويحيى السنوار في ذكرى تأسيس حركة حماس في غزة 14 /12 /2017 (مجدي فتحي/Getty)
+ الخط -

شاركت حركة حماس في انتخابات السلطة الفلسطينية للمرّة الأولى عام 2006، بعد وفاة/ اغتيال رئيس السلطة ياسر عرفات، حينها نجحت الحركة في حصد العدد الأكبر من مقاعد المجلس التشريعي، ما مكنها من تشكيل حكومة السلطة، في مقابل انتخاب محمود عباس رئيسًا للسطلة، لتبدأ أولى مراحل الصدام السياسي الفلسطيني الحديث، حول السيطرة والشرعية والقيادة بين كلٍّ من حركتي فتح وحماس، انتهى الصراع في حينه بسيطرة حركة فتح على الضفّة الغربية، وحركة حماس على قطاع غزّة، بعد مواجهاتٍ عسكريةٍ مباشرةٍ بين الحركتين، تحملت حركة حماس المسؤولية الأكبر عنها.

يعتبر مراقبون كثر أنّ الأحداث الثلاثة السابقة تمثل أولى مظاهر الاختلاف بين تيارين داخل حركة حماس، تيار يولي القيادة والسيطرة والحكم أولويّاته، مقابل تيار المقاومة، الذي يضع المقاومة على رأس أجندته. من هنا اعتبر بعضهم مشاركة حماس في انتخابات 2006 انتصارًا لتيار السلطة على تيار المقاومة، لكنه انتصارٌ محدودٌ زمنيًا، إذ لم تمضِ سوى بضعة أشهر حتّى منيَ هذا التيار بفشلٍ ذريع، نتيجة تعنت محمود عباس وحركة فتح، اللذين أغلقا كلّ السبل أمام هذا التيار، لمنعه من تسلّم زمام السلطة، وبحكم إصرار أجهزة السلطة الأمنية على ملاحقة قادة حماس الميدانيين والعسكرين، وهو ما بلغ ذروته في الاشتباكات التي شهدها قطاع غزّة عام 2007، والتي أدت كما أسلفنا إلى سلطتين منفصلتين واحدة في الضفّة الغربية بقيادة فتح، والأخرى في قطاع غزّة بقيادة حماس.

سلطة حماس في قطاع غزّة

ساهمت سيطرة حماس على قطاع غزّة في تجنب الحركة لأيّ انقساماتٍ أو صداماتٍ داخليةٍ بين تياري السلطة والمقاومة داخل الحركة، كونها انتصارًا للتيارين، كما شهدت مرحلتها الأولى انسجامًا وتماسكًا صلبًا بين التيارين السياسي والمقاوم، بسبب تلاقي تطلعاتهم ومتطلباتهم وأهدافهم، إذ وجد تيار المقاومة في سيطرة الحركة سياسيًا بيئةً أمنيةً مناسبةً لنموه وتطوره وتوسعه، كما وجد التيار السياسي في استمرار المقاومة؛ حتّى لو ظاهريًا، عبر إطلاق بعض الصواريخ بين حينٍ وآخر، غطاءً يمنحه الشرعية السياسية الداخلية.

يندرج "طوفان الأقصى" في سياق دلالات صعود تيار المقاومة داخل حركة حماس أيضًا

لكن لم يستمر ذلك طويلًا، إذ فرض واقع الحصار الخانق الذي فرضه الاحتلال في أعقاب سيطرة حركة حماس على قطاع غزّة، وبمشاركة سلطة رام الله ودولٍ إقليميةٍ كبرى، وخصوصًا مصر، تداعياتٍ وتحدياتٍ عديدةٍ ليس على سكان القطاع فحسب، بل كذلك على حركة حماس بكلّ مكوناتها.

الثورات الإقليمية والثورات المضادة

بعد مضي نحو خمسة أعوام على سيطرة حركة حماس على السلطة في قطاع غزّة وجدت الحركة نفسها أمام مشكلاتٍ عميقةٍ يصعب تجاوزها سياسيًا وعسكريًا، إذ باتت سلطة الحركة محصورةً في القطاع المحاصر، وتراجعت قوتها التنظيمية في الضفّة الغربية نتيجة استهدافها من الاحتلال وسلطة رام الله، وعليه لم يعد القطاع بوابة الحركة لفرض سيطرتها على الجسم السياسي الفلسطيني، بل أصبح أشبه بالسجن. كذلك وجد تيار المقاومة وجناح الحركة العسكري نفسه أمام استعصاءٍ مشابهٍ، إذ وعلى الرغم من حرية العمل العسكري وما يرافقه من إعدادٍ وتدريبٍ وتطويرٍ قد تراجعت فاعليته في ظلّ الحصار وغياب الاشتباك المباشر مع الاحتلال داخل القطاع لصالح تزايد أهمّية العمل السلطوي.

بعد اندلاع الثورات الشعبية في المنطقة العربية، وما رافقها من ارتفاع في شعبية التيارات ذات التوجه الإسلامي؛ المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين، تنفس تيار حركة حماس السياسي الصعداء، واستبشر خيرًا، خصوصًا بعد نجاح الأخوان في الانتخابات المصرية؛ عبر تحالفهم مع تياراتٍ ثوريةٍ مصريةٍ أخرى منظّمةٍ وغير منظمةٍ، معولاً على إمكانية كسر الحصار عمليًا وسياسيًا عبر فتح معبر رفح على مصراعيه أمام حركة البضائع، ومن خلال نيل شرعيةٍ إقليميةٍ من بوابة مصر وبدعمٍ تونسي وربّما سوري في حال سقوط نظام الأسد. لكن لم تدم تلك الآمال كثيرًا إذ فرضت الثورة المضادة نفسها سريعًا، ما أعاد الحركة إلى مربع الحصار والاستعصاء ذاته.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

تصاعد التباينات الداخلية

بعد صعود قوى الثورة المضادة إقليميًا، خصوصًا في مصر، لم تعد الحركة إلى مربع الحصار والاستعصاء السابق للثورات الشعبية فقط، بل زادت قسوة الحصار المفروض عليها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، نتيجة ذلك بحثت الحركة عن مخرجاتٍ مختلفةٍ تكسر هذه الحالة، وهو ما أحدث تبايناتٍ واضحةً غير معلنةٍ بين تياري الحركة السياسي والعسكري، إذ ذهب التيار السياسي إلى محاباة الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة، مصر والمجتمع الدولي، عبر تعديل برنامج الحركة السياسي في عام 2017 ليحاكي برنامج منظّمة التحرير الفلسطينية المرحلي، وهو ما عدَّ بمثابة رسالةٍ سياسيةٍ تفتح الباب أمام قبول الحركة بحلّ الدولتين.

في هذا السياق أيضًا يمكن فهم دعم حماس لمسيرات العودة الأسبوعية على طول حدود الحصار المطبق صهيونيا على قطاع غزّة منذ 30/3/2018، التي استمرت لنحو عامين، على اعتبارها نمطًا نضاليًا سلميًا، مقبولاً دوليًا وإقليميًا، وقد يمثّل بديلاً فاعلاً للمقاومة العنيفة.

في الوقت ذاته؛ سار تيار الحركة العسكري في اتجاهٍ آخر، تمثّل في تعزيز علاقاته مع إيران وحلفائها في المنطقة، باستثناء نظام الأسد، إذ تسارعت ترتيبات التنسيق الأمني والعسكري، خصوصًا مع حزب الله اللبناني، فضلاً عن برامج التدريب وتبادل الخبرات العسكرية والأمنية السري، الذي أسس لمرحلةٍ مختلفةٍ لاحقًا.

على حركة حماس وكلّ القوى الفلسطينية الحذر من فخ الخضوع للإرادة الأميركية- الصهيونية، عبر إعادة تعويم سلطة رام الله بما تمثّله من سلطةٍ أمنيةٍ لحماية الاحتلال وإدامته

راهن التيار السياسي على برنامج الحركة المعدل كثيرًا، بل سعى إلى كبح فصائل المقاومة الفلسطينية داخل قطاع غزّة في تلك المرحلة قليلًا، تجنبًا لأيّ تصعيدٍ مع قوات الاحتلال، ومن أجل تأكيد الرسالة التي حملها البرنامج المعدل، وهو ما التقطته دولٌ إقليميةٌ عديدةٌ وكذلك سطلة رام الله، فضلاً عن الاحتلال ومراكزه البحثية. لكنهم عدوه مجرد خطوةٍ في الاتجاه الصحيح، غير أنها غير كافيةٍ، إذ اعتقدت تلك الأطراف أنّ استمرار الضغط على الحركة سيؤدي لا محالة إلى مزيدٍ من التنازل، بل راهنت على ذلك، في حين أدى تعنت تلك الأطراف وإصرارها على تفكيك بينة حماس وفصائل المقاومة الأخرى العسكرية؛ أيّ دفعها نحو الاستسلام الكامل اقتداءً بسلطة رام الله، إلى إضعاف تيار حماس السياسي لصالح تيارها العسكري.

صعود التيار المقاوم مجددًا

أدى فشل مخططات تيار حماس السياسي في الراهن على كسر الحصار وكسب الشرعية الإقليمية والدولية عبر مجموعةٍ من التنازلات السياسية إلى صعود تيارها المقاوم مجددًا، وهو ما انعكس في تراجع محاولات كسر الحصار سياسيًا، في مقابل تعزيز التعاون بين كتائب المقاومة داخل قطاع غزّة، والعمل على استنهاض العمل المقاوم في كلٍّ من الضفّة الغربية وبدرجةٍ أقلّ في الخارج، الأمر الذي أسفر لاحقًا عن صعود مجموعاتٍ ناشئةٍ مقاومةٍ في الضفّة الغربية أبرزها "كتيبة جنين" و"عرين الأسود"، كان لحركتي حماس والجهاد دورٌ مركزيٌ في صعودهما، خصوصًا الأخيرة.

يندرج "طوفان الأقصى" في سياق دلالات صعود تيار المقاومة داخل حركة حماس أيضًا، إذ عكست العملية خططًا استراتيجيةً طويلة المدى، ينسبها بعضهم إلى عام 2021، كما مثّلت العملية تطورًا نوعيًا في النمط المقاوم في قطاع غزّة بعد انسحاب الاحتلال العسكري من داخل القطاع عام 2005، إذ سعت العملية إلى كسر الحاصر فعليًا، وضرب قواعد الاحتلال العسكرية خارج القطاع، فضلاً عن ضربها لمنظومته الأمنية والاستخباراتية التي تحكم حصار القطاع وإدارته من خارجه، فضلاً عن أسر مجموعةٍ من جنود الاحتلال ومستوطنيه.

تقارير دولية
التحديثات الحية

تداعيات طوفان الأقصى على حماس

تصاعدات آمال حركة حماس بتياريها المقاوم والسياسي في أعقاب "طوفان الأقصى"، نظرًا إلى حجم العملية ودلالاتها العسكرية والاستراتيجية الكبرى، وهو ما انعكس في وحدة الخطاب الحمساوي وتماسكه. كما عكست العملية وما تبعها من بطولات كلّ فصائل المقاومة الفاعلة في قطاع غزّة مدى متانة التنسيق العسكري بينها، في مقابل ذلك لم نشهد مظاهر مشابهةً على الصعيد السياسي الفلسطيني، بل أدارت حركة حماس جولات التفاوض التي سبقت الهدنة الأولى؛ الوحيدة حتّى الآن، بالحدّ الأدنى من التنسيق مع سائر القوى السياسية الفلسطينية، بما فيها فصائل المقاومة.

ثمّ وبعد استعصاء التوصل إلى هدنةٍ ثانيةٍ سريعًا عززت حركة حماس من تواصلها وتنسيقها السياسي مع فصائل المقاومة، وتحديدًا مع حركة الجهاد الإسلامي، ليتبعه تنسيقٌ أقوى مع سائر الفصائل الفلسطينية الرافضة لنهج الاستسلام، مع تمسك الحركة بإدارة العملية التفاوضية، باعتبارها ممثّل المقاومة السياسي في هذه المرحلة.

هنا أهملت الحركة دعواتٍ كثيرةً لتشكيل جبهةٍ سياسيةٍ فلسطينيةٍ تحاكي غرفة العمليات العسكرية المشتركة، بمشاركة معظم القوى السياسية الفلسطينية، وربّما بمشاركة هيئاتٍ اجتماعيةٍ وأهليةٍ، ومجموعاتٍ ناشطةٍ سياسيةٍ وإعلاميةٍ وحقوقيةٍ وإغاثيةٍ وثقافيةٍ ترفض النهج الاستسلامي الذي تمثّله سلطة رام الله. يعزى إهمال حماس لتلك الدعوات إلى اعتباراتٍ سياسيةٍ بحتةٍ، إذ ربّما عول تيار حماس السياسي في الأشهر الأولى التي أعقبت "طوفان الأقصى" على كسر حصار الحركة سياسيًا، وانتزاعها شرعيةً إقليميةً وربّما دوليةً تمكنها من تمثّيل كلّ الفلسطينيين وكلّ فلسطين.

باتت سلطة الحركة محصورةً في القطاع المحاصر، وتراجعت قوتها التنظيمية في الضفّة الغربية نتيجة استهدافها من الاحتلال وسلطة رام الله

في الآونة الأخيرة؛ توالت التصريحات الحمساوية التي تتحدث عن سعي الحركة إلى تشكيل حكومة توافقٍ وطنيةٍ، كما في تصريح حسام بدران، عضو المكتب السياسي في الحركة "بدأنا منذ شهور نقاشًا مع الفصائل والمجتمع المدني حول كل الحالة الفلسطينية بعد الحرب وليس فقط اليوم التالي في غزة، ولتشكيل حكومة توافق وطني، وما زلنا نتحرك في هذا المسار". فضلاً عن تصريحه "اقترحنا أن تدير غزة والضفة الغربية حكومة كفاءات وطنية ليس لها انتماء حزبي بعد الحرب".

تؤشر هذه التصريحات إلى إدراك الحركة بكامل تياراتها لخطورة المرحلة وحساسيتها، ويؤكد ضرورة مجابهة المخططات الصهيونية والأميركية بجبهةٍ سياسيةٍ موحدةٍ تتكامل مع دور غرفة العمليات العسكرية الموحدة، لكنها تنطوي على بعض المخاطر أيضًا.

المخاطر المحتملة

يصر الاحتلال وشريكه الأميركي على إنهاء حكم حركة حماس في قطاع غزّة، على اعتباره شرطًا رئيسيًا لإنهاء العدوان وحرب الإبادة الجماعية والتهجير القسري المتواصل، لإدراكهما أهمّية البنية السياسية والقانونية في تطور العمل المقاوم، الذي مكن فصائل المقاومة؛ وفي مقدمتها كتائب عز الدين القسام، من تنفيذ "طوفان الأقصى"، لذا يسعى الاحتلال وشريكه الأميركي إلى محاكاة تجربة سلطة رام الله في غزّة أيضًا، وإن اختلفا على ماهية تلك السلطة. هنا على حركة حماس وكلّ القوى الفلسطينية الحذر من فخ الخضوع للإرادة الأميركية- الصهيونية، عبر إعادة تعويم سلطة رام الله بما تمثّله من سلطةٍ أمنيةٍ لحماية الاحتلال وإدامته، تحت مسمى الوحدة الوطنية، فالوحدة الوطنية في مرحلة التحرر هي وحدة كلّ القوى المجمِعة على حقّ شعب فلسطين في النضال السلمي والمسلح حتّى التحرير الكامل، واستعادة الحقوق المستلبة كلّها.

من هنا على حركة حماس والفصائل الفلسطينية العمل على تشكيل جبهةٍ موحدةٍ صلبةٍ سياسيةٍ لا تقبل المساومة على الحقوق الفلسطينية، تدير الملف السياسي الفلسطينية بأكمله بما يشمل مفاوضات إنهاء العدوان، وتفرز حكومة كفاءاتٍ وطنيةً لإدارة الشؤون اليومية، مثل الإغاثة وحركة المعابر وإعادة الإعمار. فهذا المسار قادرٌ على مجابهة المخططات الصهيونية- الأميركية وإفشالها، كما يمكّن فصائل المقاومة من استكمال دورها النضالي حتّى التحرير الكامل والشامل واستعادة كلّ الحقوق المستلبة. في حين سيؤدي مسار الوحدة مع سلطةٍ أمنيةٍ تحمي الاحتلال وتديم بقاءه إلى تحقيق الخطط الأميركية، التي تسعى إلى تطويق العمل المقاوم وإنهائه تمهيدًا لتصفية القضية الفلسطينية.

المساهمون