استمع إلى الملخص
- أثار الموقف الفرنسي انتقادات من خبراء قانونيين ومنظمات حقوقية، معتبرين أن تفسير فرنسا لحصانة نتنياهو يتعارض مع ميثاق روما، الذي ينص على عدم الاعتداد بالصفة الرسمية في المساءلة الجنائية.
- يُعتبر الموقف الفرنسي مناورة سياسية للحفاظ على دورها في الجهود الدبلوماسية بلبنان، مما يعكس توازنات بين الالتزامات القانونية والمصالح السياسية.
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أوامر اعتقال في حقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن السابق يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم عدّةٍ تدخل في اختصاص المحكمة، بما فيها جرائم حربٍ وجرائم ضدّ الإنسانية، مثل التجويع أداةً من أدوات الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية المتمثّلة في القتل والاضطهاد، وغيرها من الأعمال اللاإنسانية. تبع صُدور القرار عن المحكمة الجنائية الدولية إعلان شريحةٍ واسعةٍ من الدول حول العالم الالتزام بقرار المحكمة، ومن ضمنها فرنسا، إذ أعلن رئيس الوزراء الفرنسي ميشيل بارنييه، إنّ بلاده "ستطبق القانون الدولي"، في ما يتعلق بمذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأضاف أنّ فرنسا ملتزمةٌ بالعدالة الدولية واستقلاليتها، وقد أتى هذا التصريح عشية إصدار المحكمة الجنائية الدولية قرارتها الخاصّة بطلبات القبض والتسليم بحق نتنياهو ويوآف غالانت.
وفي وقت لاحقٍ، صرح وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، تصريحًا غير متوقعًا مفاده أنّ فرنسا تحترم قرار المحكمة الجنائية الدولية، بإصدار مذكرات توقيف بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، لكنها لن تنفذ القرار بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يتمتع بالحصانة ما دام باقيًا في منصبه. وأرجع الكثير من الخبراء المتابعين للمشهد السياسي، الموقف فرنسي هذا إلى ارتباطه بموافقة تل أبيب على دورٍ للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مسار التوصل لاتّفاق وقف إطلاق النار في لبنان، على خط الجبهة بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي.
اعتمدت الحكومة الفرنسية في إعلانها "حصانة نتنياهو" إلى تأويلٍ مشوهٍ للمادة 27 من ميثاق روما الأساسي، الناظم لعمل المحكمة الجنائية الدولية، فقد عبرت بـ: "أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، بصفته مسؤولاً في الدولة، يتمتع هو الآخر بتلك الحصانة". في حين قد عنونت المادة 27 بعدم الاعتداد بالصفة الرسمية، إلى جانب ذلك، أشار صريح المادة في الفقرة الأولى منها إلى أن النظام الأساسي يطبق على جميع الأشخاص بصورةٍ متساويةٍ ومن دون أي تمييزٍ بسبب الصفة الرسمية، وبوجهٍ خاص فإنّ الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيسًا لدولةٍ أو حكومةٍ، أم عضوًا في حكومةٍ أو برلمانٍ، أم ممثلاً منتخبًا، أم موظفًا حكوميًا، لا تعفيه بأيّ حالٍ من الأحوال من المسؤولية الجنائية بموجب النظام الأساسي. أيضًا أشارت الفقرة الثانية من المادة ذاتها إلى أنّ الحصانات، أو القواعد الإجرائية الخاصّة، التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي، لا تحول دون ممارسة المحكمة اختصاصها على الشخص.
قدمت المحكمة الجنائية الدولية توضيحاً، كما حذرت فرنسا، كما هو الحال مع جميع الدول الموقعة على نظام روما الأساسي، كي تلتزم بتنفيذ القرارات التي تتخذها المحكمة كاملةً
إنّ الموقف الفرنسي الأخير يندرج في إطار مخالفة فرنسا لالتزاماتها الواقعة عليها بموجب تصديقها على ميثاق روما، فقد أشار الميثاق صراحةً إلى عدم الاعتداد بالصفة الرسمية للقادة والرؤساء في إطار مساءلتهم الجنائية، أو حتّى في إطار تسليميهم للمحكمة الجنائية الدولية، كما أنّ هذه المذكرات غير قابلةٍ للتفاوض، إنّما هي التزامٌ على الدول، يجب تنفيذه وفقًا لعضوية الدول في المحكمة الدولية.
لكن، عند النظر إلى الواقع القانوني لهذا الخطاب نجد أن الموقف الفرنسي الأخير يأتي في إطار المناورة السياسية للحكومة الفرنسية، ولرئيس الدولة الفرنسية، مانويل ماكرون، إذ أنّ الاختصاص الداخلي الفرنسي في التعامل مع طلبات المحكمة الجنائية الدولية هو من صلاحيات السلطة القضائية الفرنسية، وليس للسلطة التنفيذية المتمثّلة في الحكومة الفرنسية، أو حتّى الرئاسة الفرنسية.
في سياقٍ متصل بعلاقة المحكمة الجنائية الدولية بفرنسا، على اعتبار الأخيرة أحد الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، تجدر الإشارة إلى إظهار فرنسا إرادةً ورغبةً دائمةً في التعاون مع المحكمة من أجل إلقاء القبض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بناءً على طلبات إلقاء القبض الصادرة عنها في أعقاب العدوان الروسي على الأراضي الأوكرانية، وقد أظهرت الحكومة الفرنسية ذلك من خلال تصريحاتها. وعليه، لا يمكن تجزئة هذه الإرادة إلى مجموعةٍ من المطلوب القبض عليهم لصالح العدالة الدولية دون غيرهم. في الإطار ذاته، قدمت المحكمة الجنائية الدولية توضيحاً، كما حذرت فرنسا، كما هو الحال مع جميع الدول الموقعة على نظام روما الأساسي، كي تلتزم بتنفيذ القرارات التي تتخذها المحكمة كاملةً، وأضافت، لا يمكن أنّ تكون طرفًا موقعًا على نظام روما الأساسي وفي الوقت نفسه يرفض تنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية.
أدى الإعلان الفرنسي بخصوص حصانة نتنياهو، الذي عبرت عنه الخارجية الفرنسية، والذي قدمت الأخيرة من خلاله تفسيرًا مشوهًا لنظام روما في ما يتعلق بإلقاء القبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حالةً من السخط الواسع بين الخبراء القانونيين والمنظمات الحقوقية، خصوصًا في فرنسا ذاتها، ولا سيما بعد تزامن الإعلان الفرنسي هذا وفاة المحامي الفرنسي جيل دوفير الذي يعتبر من أهمّ خبراء القانون الدولي في فرنسا، فضلاً عن كونه مهندس مذكرات اعتقال نتنياهو وغالانت أمام المحكمة الجنائية الدولية، حين أسس دوفير لجنة المحامين الدولية، التي ساهمت في دفع المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
بناءً عليه، إن قررت الحكومة الفرنسية ارتكاب مخالفةٍ قانونية ومبدئية، من خلال السماح لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، دخول الأراضي الفرنسية من دون التعامل معه وفقًا للنظم القانونية الفرنسية الداخلية، والتزامًا بطلبات المحكمة الجنائية الدولية، حينها سيعتبر ذلك تجاوزًا في اختصاصها، من خلال التعدي على السلطة القضائية الفرنسية صاحبة الاختصاص الأصيل في التعامل مع هذه القضايا، حينها سيعتبر هذه السلوك أيضًا تعديًا على القيم السياسية الفرنسية، التي رسختها فرنسا بعد ثورة الاستقلال في ما يتعلق بشكل نظام الحكم الديمقراطي، والتي صاغها المفكر الفرنسي مونتسكيو. إلى جانب ذلك، يحظى النظام القضائي الفرنسي باحترامٍ عظيمٍ نظرًا للتاريخ الطويل الخاص به، والمبادئ التي أقرها؛ كما أنّ السياسيين يهابون الامتثال أمامه.
وبناءً عليه، نجد أنّ ما أقدمت عليه الحكومة الفرنسية في تصريحاتها السابقة بشأن حصانة نتنياهو ما هو إلّا مناورةً سياسيةً بحتةً، من أجل ضمان حضورها في الحراك السياسي المتعلق بوقف إطلاق النار، الذي حدث في لبنان، وذلك اعتبارًا للدور الفرنسي التاريخي في الأخيرة.