حركة فتح الأزمة المركبة والإرث المهدور

28 يوليو 2024
جدارية لشعار حركة فتح في مخيم الدهيشة في الضفة الغربية (أليساندرو ليفاتي/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تراجع دور حركة فتح**: تلاشت صورة حركة فتح كقائدة للنضال الفلسطيني خلال العقدين الأخيرين، مما أدى إلى إحباط بين مناضليها السابقين وغياب النشاطات والحضور السياسي.

- **أزمة القيادة والبرنامج**: تعاني الحركة من أزمة مركبة تشمل القيادة والبرنامج والخطاب، مع ذوبان قياداتها في السلطة الوطنية الفلسطينية التي تعاني من الفساد والضعف، وزيادة النزيف في كوادرها.

- **الجمود والصراع الداخلي**: تعاني الحركة من جمود وصراع بين جيل غاضب وجيل هرم يحتكر القرار، مما يعوق استنهاض قوتها وملاءمتها مع التحديات الجديدة.

تكاد تتلاشى صورة حركة فتح، التي أطلقت شرارة الثورة الفلسطينية، وقادت نضال الشعب الفلسطيني على مدى خمسة عقودٍ، إذ لم تعد تذكر في العقدين الأخيرين، أو يكون ذكرها مشوشًا وغير مفهومٍ، ولا يتصل بالواقع الذي يلقي على عاتقها مهامَّ جسامًا.

طاول التراجع وغياب الدور كلّ مفاصل العمل في الحركة، وفي مختلف الساحات الفلسطينية، ما يعزز هذا الانطباع، الذي لا يمكن ألا يصيب كاتب المقالة بالإحباط، بعدما قضى رفقة مناضلي الحركة عقدين من الزمن في السجون، وعاصر العهد الذي كان فيه اسم فتح يملأ الآفاق، فحتّى البحث على اسم حركة فتح ورموزها الحاليين عبر محركات البحث الإلكترونية، باللغتين العربية والعبرية، لا يظهر سوى أخبارٍ وعناوين إشكاليةٍ وصداميةٍ داخليًا، لا تسيء للحركة فحسب، بل تظهرها في منحى مخالف تمامًا لما ينتظره جمهورٌ مثقلٌ بالأعباء، ومحاصرٌ باجراءات الاحتلال من حركة تحررٍ عريقةٍ، مع غيابٍ شبه كاملٍ للنشاطات، والحضور السياسي والوطني والقيادي والميداني.

يمكن لجيلٍ كاملٍ من الشباب الغاضب، الحافل بالطاقة والابداع، أنّ يدفع الحركة إلى الأمام، وينهض بها، لولا اصطدامه بجيلٍ من القيادات الهرمة الغارقة في الامتيازات

أزمة مركبة

طُمست حركة فتح وذابت قياداتها وخطابها في السلطة الوطنية الفلسطينية، التي تعاني هي الأخرى أزمةً مركبةً، سياسيةً وماليةً، ويُنظر إليها على اعتبارها جهازًا بيروقراطيًا خاويًا ينخره الفساد والضعف والتفكك، وغير مؤهلٍ للارتقاء بدوره على مستوى التحديات الكبرى، التي تعصف بالشعب الفلسطيني وقضيته، ويهيمن على موقع القيادة فيها، ويحتكر دور المتحدث باسمها رئيس حكومةٍ ووزراء، ومستشارون للرئيس، ومسؤولون كبار ليسوا من أبناء الحركة، ولا يعكسون نبض قاعدتها وأدبياتها.

فوق ذلك كلّه، وإلى جانب سيطرة المتنفذين من خارج الحركة على المشهد السياسي في الضفّة الغربية، تعاني الحركة نزيفًا في كوادرها، ومن تياراتٍ تنسب نفسها إليها لكنها تعمل من خارجها، لأعضاء سابقين وحاليين (مروان البرغوثي) في لجنتها المركزية، وهو ما يزيد من حالة الضعف والتشوش الذي تعاني منه.

يشير الباحث وعضو المجلس الثوري السابق لحركة فتح، معين الطاهر، إلى أن حركة فتح تعاني "أزمة قيادة، وأزمة برنامج، وأزمة خطاب"، وقد تفاقمت هذه الأزمات بعد "طوفان الأقصى".

تزامنت حرب الإبادة الهمجية الحالية، التي تشنها قوات جيش الاحتلال على قطاع غزّة، مع هجمةٍ استيطانيةٍ في الضفّة الغربية، وتهويدٍ للقدس، وتنكيلٍ بالأسرى، وتطهيرٍ عرقيٍ، وتغيرٍ للواقع، تقودها حكومة اليمين الفاشي، التي تنصلت من اتّفاق أوسلو، وتعمل على القضاء على مظاهره كلّها، وكلّ ما ترتب عليه على الأرض، وعلى ضم الضفّة الغربية إلى إسرائيل، وحسم الصراع بالقوّة لصالح المستوطنين، ما يمثّل تحدياتٍ مباشرةً وآنيةً وملحةً سيؤدي نجاح الاحتلال فيها إلى نهاية العملية السياسية، ما سيفقد السلطة، التي تستند في حكمها على حركة فتح، مبرر وجودها.

لذا ستتجاوز الأحداث حركة فتح نفسهما، وستصبح جزءًا من الماضي ما لم يبرز بديلٌ قياديٌ قادرٌ على بعثها من جديد، ويعيد ألق خطابها وجاذبيته.

يفاقم الانقسام السياسي والجغرافي أزمة حركة فتح، التي فقدت نفوذها في قطاع غزّة، الذي شهد بناء نموذج إدارةٍ وحكمٍ لم يخلُ من العيوب والأزمات والصعوبات، التي لم تجعل منه حكمًا نموذجيًا، لكن إحاطته بمظاهر تحررية، وحولته إلى رافعةٍ لترسيخ مشروعٍ مقاومٍ، وحالةٍ كفاحيةٍ بلغت ذروتها في "طوفان الأقصى"، ما جعله نموذجًا منافسًا وبديلًا يتحدى النموذج المأزوم الذي حُشرت داخله حركة فتح في الضفّة الغربية.

طاول التراجع وغياب الدور كلّ مفاصل العمل في الحركة، وفي مختلف الساحات الفلسطينية

تفقد حركة فتح يوميًا قوتها وجدارتها في قيادة المشروع الوطني الفلسطيني، على المستويات التمثيلية والتنظيمية والسياسية والكفاحية، بفعل هذه التحديات التي لا يقابلها حراكٌ داخليٌ، وحالةٌ نابضةٌ قادرةٌ على استنهاض القوّة الكامنة في الحركة، وملاءمتها مع التحديات الجديدة، وإفراز جيلٍ من المناضلين القادرين على انتشالها من أزمتها الوجودية الراهنة.

القديم على قدمه وجيل من الغاضبين

ما تزال حركة فتح تتمتع بشعبيةٍ كبيرةٍ في أوساطٍ واسعةٍ من الجمهور الفلسطيني، الذي يجد فيها تجسيدًا للتيار الوطني الشعبي العلماني الواسع، كما ما تزال تعتبرُ البيت الكفاحي لأجيالٍ من الشباب، وهو ما يمكن إثباته من خلال أعداد أسراها في سجون الاحتلال، وأعداد كوادرها الذين نفذوا عملياتٍ فدائيةٍ، ولو كانت فرديةً.

يستند اندفاع أبناء الحركة الكفاحي إلى إرثها الكبير، وأدبياتها، وعراقة تجربتها، وسمعة معظم قادتها، الذين حفظوا في الذاكرة الشعبية بوصفهم أيقوناتٍ كفاحيةً، وقادةً أفذاذًا، وأصحاب تجربة مميزة، وهو وضع بقدر ما يرفد الحركة بطاقاتٍ شبابيةٍ، وأجيالٍ جديدةٍ تبقيها في قلب الحالة الوطنية والكفاحية، فهو كذلك يُشعر هذا الجيل بالغضب والاغتراب وخيبة الأمل بسبب واقع الحركة الحالي.

يمكن لجيلٍ كاملٍ من الشباب الغاضب، الحافل بالطاقة والابداع، أنّ يدفع الحركة إلى الأمام، وينهض بها، لولا اصطدامه بجيلٍ من القيادات الهرمة الغارقة في الامتيازات، ممن يجترون خطابًا سابقًا، وأمجادًا قديمةً، ويحاولون بث الروح في مشروعٍ سياسيٍ أفل نجمه وانطفأ، بعد أن أهالت عليه التراب حكومات الاحتلال اليمينية المتعاقبة.

أغرق مؤتمر حركة فتح السابع (2016) الحركة وهيئاتها القيادية بالمقربين والموظفين والموالين لسياسة الرئيس، كما أعاد انتخاب معظم طاقمها القيادي السابق (12 من أصل 18 من أعضاء اللجنة المركزية). كما لم يحسم المؤتمر هوية الحركة، في "تأكيد هويتها النضالية ودورها الريادي على اعتبارها حركة تحررٍ وطنيٍ، أو عبر تحولها إلى حزبٍ للسلطة، أو إبقاء قدمٍ هنا وأخرى هناك. كما لم يدخل أيّ جديدٍ على برنامجها السياسي، سوى التمسك بعملية السلام خيارًا استراتيجيًا.

خلقت حالة الجمود داخل أطر الحركة، وعدم انتظام مؤتمراتها صراعًا بين جيلٍ غاضبٍ مندفعٍ ومواكبٍ للعصر، ومهمشٍ عن القرار والتمثيل، وبين جيلٍ هرمٍ منغلقٍ ومنفصلٍ عن الواقع، يحتكر القرار ومراكز القوّة داخل الحركة.

تعاني الحركة نزيفًا في كوادرها، ومن تياراتٍ تنسب نفسها إليها لكنها تعمل من خارجها

إرثٌ مهدورٌ أم طاقةٌ كامنةٌ؟

إلى جانب إرث حركة فتح الكفاحي العريق، وقوّة حضورها في الوجدان الجمعي الفلسطيني؛ بسبب أسبقيتها في بلورة النضال الوطني التحرري الفلسطيني وقيادته، ومساهمتها الفاعلة في صياغة الهوية الوطنية الفلسطينية المعاصرة، تمتلك الحركة ميزةً إضافيةً، هي مرونة هيكليتها التنظيمية ورحابتها، واتساعها وقدرتها على ضم تياراتٍ عريضةٍ، بسبب عدم تبنيها ايديولوجيا جامدة، ما حولها إلى حركةٍ شعبيةٍ عريضةٍ، ووعاءٍ قادرٍ على احتواء قطاعاتٍ واسعةٍ من الجمهور. مثّلت هذه الميزة سر قوّة حركة فتح على مدى عقودٍ، وكانت مشروطةً بما يمكن تسميته بالعقد الأجتماعي والثوري غير المعلن بين قادتها وجماهيرها، التي تعلقت بها وتبنت خطها السياسي.

العلاقة الفطرية والعفوية التي ترسَّخت في تجربة حركة فتح، وتحولت مع الزمن إلى مخزونٍ ورصيدٍ هائلٍ للحركة، بفضل كاريزما قادتها وسحرهم، الذين مثّلوا نبض الناس، وعبروا عن تطلعاتهم، وامتلكوا حضورًا كفاحيًا وسجلًا نضاليًا، وكانوا نمطًا ونموذجا ملهمًا في التضحية والعمل الكفاحي والقرب من الناس. تعتبر تلك العلاقة سلاحًا ذا حدين، إذ انقلبت هذه العلاقة، وشهدت انتكاسةً في انتخابات عام 2006، التي اكتسحت فيها حركة حماس أغلبية مقاعد المجلس التشريعي، وما تبعها من تراجعٍ في رصيد فتح وشعبيتها، بسبب انتقال الحركة إلى موقع السلطة، وتسجيلها تجربة حكمٍ تخالف كلّ ما نظّرت له أدبياتها، وأفرزت قياداتٍ تناقض، لا بل تتصادم مع صورة القائد الفدائي المتقشف، التي جسدها رعيلها الأول المؤسس.

لا يتوقف جمهور حركة فتح، والتيار العريض الذي يلتف حولها تاريخياً، عن البحث عن قائدٍ يربط بين تحديات الحاضر وإرث الحركة المهدور، وهو ما يمكن أن يفسر الشعبية الجارفة التي يحظى بها عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، الأسير في سجون الاحتلال مروان البرغوثي.